مساكن الرّب هي المستقرّ الطّبيعيّ للإنسان. فيها يلقى ذاته ويفهم سبب وجوده وغايته، ويتصالح مع نفسه، ويحيا مع الرّبّ حياة ملؤها الطّمأنينة والسّلام. منذ البدء كانت العلاقة الإلهيّة الإنسانيّة هي الأساس، ولمّا ابتعد الإنسان عن الله فقد قيمة حياته. ( سمع آدم وامرأته صوت الرب الإله وهو يتمشى في الجنة عند المساء// نادى الرّب الإله آدم وقال له: " أين أنت؟"// صنع الرب الإله لآدم وامرأته ثيابا من جلد وكساهما.) ( تك 8:3- 9:3- 21:3). هذه الآيات الحاضرة في سفر التّكوين تؤكّد على العلاقة بين الله والإنسان. فالله لم يخلق الإنسان ليتركه تائهاً وحده في هذا العالم، بل ليرافقه في كلّ حين، وليُقيمه في مساكنه الرّحيبة. مساكن الرّبّ قلبه الوسيع اللّامحدود، والكيان الإنساني يتوق إلى هذا المقام عن وعيٍ أو عن غير وعي. " الله هو الجمال الّذي يسعى إليه كلّ إنسان" ( القدّيس باسيليوس الكبير). بل هو الحياة الّتي إذا ما دخلنا سرّها حسبنا حياتنا هباء لا يستحقّ التّشبّث فيه. " تذوب نفسي شوقاً إلى ديار الرّب. قلبي وجسمي يرنّمان للإله الحيّ." ( مز 2:84). توق المؤمن إلى الله شوق إلى المكوث في قلبه، في صلب جوهره. ومن يصل إلى هذه الرّتبة ويتلمّس حضوره في قلب الله لا يستطيع العودة إلى مباهج العالم. يبقى في العالم لكنّ مسكن الرّبّ يخرجه من إطاره الزّمنيّ والمكانيّ. فيغدو المؤمن يتنفّس في العالم لكنّه يحيا في قلب الله. يقتات منه لكنّه يشبع من قوت الرّبّ، يشرب من مائه لكنّه يرتوي من النّبع الّذي لا ينضب. " طوبى للسّاكنين في بيتك، أبداً يسبّحونك. " ( مز 4:84). إذا انحصر التّسبيح في ماديّة المكان المخصّص للعبادة فهذا يعني محدوديّة الحبّ الموجّه نحو الله. على التّسبيح أن يطال حياتنا كلّها ويشمل لحظاتها بكلّيّتها. ولا يتوقّف، ولا يهدأ، ولا يستكين. ففي قلب الله نعيم وجمال يستدعي الدّهشة حتّى انقطاع الأنفاس، ويستلزم التّأمّل حتّى الانخطاف بحضوره، ويستوجب الحبّ حتّى امّحاء الّذات فيه. والوقوف عند بابه لأعظم من الانغماس في العالم والغرق في مباهجه الفانية. " يوم واحد في ديارك خير لي من ألف. أختار الوقوف في عتبة بيت إلهي على السّكن في خيام الأشرار." (مز 10:84 ).