" طوبى للمضطَهَدين من أجل الحقّ، لأنّ لهم ملكوت السموات" ( متى 10:5). كلّ باحث عن الحقّ مضطهد، ذلك لأنّه نور تتلاشى أمامه كلّ ظلمة، ويمّحي كلّ ضلال. فمن البديهي أن يُضطَهَد السّاعون إلى الحقّ، فيُرذلون ويُلاحقون، وقد يصل الأمر إلى هدر دمائهم. منذ البدء سعى الإنسان للوصول إلى الحقّ، واجتهد فكريّاً وروحيّاً، بل غالباً ما خلق حقّاً على مقياسه العقليّ والمحيطي، واعتبره الحقيقة المطلقة. وحتّى يومنا هذا، هناك من يفرض الحقّ بحسب ما يناسبه ويستحكم بالنّاس، ويمنح لنفسه امتيازات إلهيّة ليسيطر على البشر. الباحثون عن الحقّ، لا يفتّشون عن حقّ يتوافق وقناعاتهم أو رغباتهم. بمعنى أصحّ، هم يبحثون عن الحقّ وحسب، بغضّ النّظر إذا كان هذا الحقّ يعجبهم أم لا، أو ينسجم وخبراتهم وتقاليدهم أم لا. هم يبتغون معرفة هذه القيمة الثّابتة، وغير المتناقضة والممتلكة لكلّ الحقائق. هذا البحث يتطلّب منهم اجتهاداً فكريّاً وروحيّاً، وتأمّلاً ذاتيّاً وكونيّاً. وقد يخلصون إلى بعضٍ من الخيوط الّتي تدلّهم على الحقّ، وقد لا يصلون بشكل كامل. لكنّهم خلال هذه المسيرة، هم يقتربون رويداً رويداً من الحقّ، بل يسيرون معه من حيث يدرون أو لا يدرون. يؤمن بعض من النّاس، أنّ الله هو الحقّ، وعلى الرّغم من هذا الإيمان، يظلّون في سعي مستمرّ للتّعرّف عليه. لكنّ هذا السّعي يبقى نظريّاً ما لم يتلمّس الإنسان هذا الله. فكيف يمكن للإنسان أن يعرف ما لا يراه، أو ما لا يفهمه وما هو مغاير لطبيعته؟ وكيف يمكنه أن يقبل عقلياً وإيمانيّاً أنّ الله هو الحقّ، ما لم يعرّف الله عن نفسه ويُظهر ذاته ولو بشكل نسبي للإنسان؟ وأمّا المسيحيّ، فيؤمن أنّ الله هو الحقّ، لأنّه يراه ويلمسه ويتفاعل معه في علاقة أبويّة بنويّة بيسوع المسيح. ما يمنح المسيحيّ امتيازاً عظيماً، ألا وهو التّوقّف عن البحث عن الحقّ، لأنّه وجده. وبالتّالي ينتقل من مرحلة البحث إلى مرحلة عيش واختبار هذا الحقّ. ما يجعله يحيا في نور الحقيقة، نابذاً كلّ ظلمة، ورافضاً كلّ ضلال. من هنا نفهم قول الرّبّ: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحبّ خاصته. ولكن لأنّكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم (يو 19:15 ). من عرف الحقّ تحرّر من العالم وقلقه واضّطرابه، وتحوّل عن السّلوك بحسب منطقه واغترب عنه، وما عاد يكترث لسخافاته وسطحيّته. بالمقابل، هذا التّحرّر وهذه الاستنارة لا يتوافقان مع مصالح كثيرين، ما سيدفعهم لنبذ المسيحيّ الحقيقيّ. نلاحظ أنّ الرّبّ لا يقول" طوبى للمضّطهدين"، بل "طوبى للمضطهدين من أجل الحقّ". فكثيرون يعتقدون أنّهم مضطهدون ومرذولون، لمجرّد أن نواجههم بالحقيقة. وآخرون يستغلّون سلوكاً ما، يسمّونه اضطهاداً لتحقيق مصالح معيّنة. فالبدع، على سبيل المثال، تتحدّث عن اضطهاد، إذا ما رفضنا مناقشتها، أو إذا ما أبينا الانتماء إليها. وآخرون يعتبرون النّزاع السّياسي اضطهاداً. الاضّطهاد هو محاربة الآخر فكريّاً واجتماعيّاً وروحيّاً ونفيه وتعطيل سعيه للحقيقة، بل وقتله من أجل طمس الحقيقة، لأنّها ستظهر كذبه وتضليله. للمضّطهدين من أجل الحقّ، ملكوت السّماوات، أي الحقيقة الكاملة الّتي قبلها العقل وتسرّبت إلى القلب. ولا يعد الرّبّ هنا بملكوت السّماوات كتعويض كما يظنّ البعض. وإنّما هي نتيجة حتميّة، لأولئك الشّجعان، الذين لا يستسلمون ولا يتراجعون عن الحقّ. فمن يحيَ الحقّ، له أن يفرح فرحاً كاملاً، لأنّه بلغ رتبة ما بعد الإنسانيّة الكاملة، أي بلغ ملء قامة المسيح. " تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم" ( يو 32:8)، ونحن عرفنا الحقّ بيسوع المسيح: " أنا هو الطّريق والحقّ والحياة"، ( يو 6:14). وبذلك نتعرّف إلى حقيقة مهمّة، وهي أنّ الحقّ هو من يُقبِل إلى الإنسان وليس العكس. والحقّ هو يسوع المسيح الّذي رفعه الله وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لتنحني لاسم يسوع كلّ ركبة في السّماء وفي الأرض وتحت الأرض. ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الرّب تمجيداً لله الآب." ( فيليبي 11،10،9:2).