" طوبى للحزانى، لأنهم يعزّون." ( متى 4:5) عندما يتكلّم المسيح، فإنّه لا يتحدّث بحسب المنطق البشري المنغلق على ذاته والمستسلم للعالم. كما أنّه لا يتكلّم أو يعلّم بحسب المنطق الإنساني الباحث عن السّعادة الفانية المرتبطة بهشاشة الحياة الماديّة. لكنّه يتحدّث بحسب المنطق الإنساني الّذي على صورة الله، وبحسب المنطق الإلهي الّذي يريد منح الفرح الكامل للنّاس أجمعين. في الطّوبى الثّانية، يتبيّن لنا سبب ونتيجة. والسبب ينطلق من الحزن إلى النّتيجة الّتي هي العزاء. وبما أنّ المسيح يتحدّث، كما ذكرنا، بحسب المنطق الإنساني الإلهي، فمن المؤكّد أنّه لا يتحدّث عن الحزن المرادف لليأس والقنوط والكآبة. وإنّما الرّبّ يشير إلى أولئك الّذين كلّما اقتربوا من نوره، عاينوا داخلهم المشوّه وثابروا على تجميله بكلمته البهيّة، فيتعزّون ويبلغون تدريجيّاً الفرح الكامل. يحزن المؤمن الحقيقيّ إذا ما جرح المسيح في صلب محبّته، ويندم كثيراً وبدموع غزيرة، لأنّه أساء إلى من أحبّه أوّلاً، وغمره حبّاً من قبل أن يوجده، وسيظلّ يفيض عليه الحبّ إلى الأبد. نقرأ في المزمور 5:126، " الّذين يزرعون بالدّموع يحصدون بالابتهاج". أي أنّ الدّموع المذروفة على تشويه الجمال الإنساني، ستلقى عزاء من الرّبّ، وستغمرها النّعمة الإلهيّة، حتّى تستريح النّفس وتنتعش الرّوح، وتمكث تمجّد المسيح الحيّ، شاكرة إيّاه دائماً على الحبّ الوفير المنسكب فيها. من جهة أخرى، لا يمكن للمؤمن الحقيقيّ أن يسجن نفسه في دائرة ذاته، بل وجب عليه الانطلاق نحو الآخر معتبراً إيّاه نفسه. ما يعني أنّ هذا الحزن يشمل الجميع، ومن أجل هذا نصلّي من أجل بعضنا البعض، حتّى ينجو الجميع ويخلص وينال الفرح الإلهي. " إذا كنّا في شدّة فإنّما شدّتنا لعزائكم وخلاصكم. وإذا كنّا في عزاء فإنّما عزاؤنا لعزائكم" (2 كور 6:1). فونحن إخوة في الجسد الواحد، نتألّم من أجل بعضنا البعض لنصير كلّنا إلى العزاء والفرح. يقول القدّيس سلوان الآثوسي: " " أن نصلّي من أجل النّاس معناه أن نسكب دمنا من أجلهم. إنّ أخانا هو حياتنا". فلا يهنأ المؤمن ولا يرتاح إلّا إذا ارتاح أخوه وثبت في الله. الحزانى، هم أؤلئك المحبّون لله بدموع غزيرة، والمتشوّقون إلى غسل نفوسهم بنور الرّبّ حتّى يحفظونها بلا عيب أمام عظيمة بهائه.