كما أنّ الحياة الدّنيويّة تحتاج إلى قوانين وأنظمة ليستقيم الإنسان في سلوكيّاته، كذلك الحياة الرّوحيّة تحتاج إلى منهج، إن جاز التّعبير، يصوّب مسارها ويدلّها على السّبيل القويم، كيما تحيا بسلام وأمان، وتتهيّأ للحياة الأبديّة. والحياة الرّوحيّة لا تنفصل عن الحياة الدّنيويّة، إذ إنّنا نسير في هذا العالم، لا بحسب الجسد، وإنّما بحسب كياننا الإنسانيّ المتّحد بالمسيح. فنحيا جسداً ونفساً وروحاً كما حيا هو، ونخطو معه وبه نحو الملكوت السّماوي. نقرأ في إنجيل متى، الفصل الخامس، عظة السّيّد على الجبل، الّتي تشكّل دستوراً لحياتنا الإيمانيّة، ومنهجاً ينير طريقنا على ضوء كلمة الرّبّ وتعليمه. وتتفجّر هذه العظة ينابيع فرح وسرور لحافظي كلمة الرّبّ والعاملين بها. ففي كلّ مرّة يستهلّ السّيّد كلامه بعبارة ( طوبى)، يظهر للمؤمنين باسمه القدّوس السّعادة الحقيقيّة، ويستخرج من عمق الذّات الإنسانيّة جمالها البيّن، غير ذلك المتمسّكة به ظاهريّاً. لعلّه بإمكاننا تسمية هذه العظة، " الجمال الإلهي الكامن في الإنسان"، بحسب ما أراده الرّبّ لنا من قبل إنشاء العالم. " اختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا لوم في المحبة"، (أفسس 4:1). لقد كنّا في فكر الرّبّ من قبل أن نوجد، ثمّ خلقنا على صورته كمثاله. ما يعني أنّه في الدّاخل الإنسانيّ جمال إلهيّ غير مدرك من الإنسان نفسه. وفي هذه العظة، يعلّمنا الرّبّ استكشاف هذا الجمال واستخراجه، كي نتمكّن من أن نحيا في هذا العالم ونحن لسنا منه. ونسير نحوه، وننطلق إليه، حاملين جماله في داخلنا، معتمدين على محبّته المتجذّرة في نفوسنا. عظة الجبل، شريعة العهد الجديد، ومنهجيّة النّور الإلهي لبلوغ الكمال الإنساني بحسب كلمة الرّبّ. ومتى اكتملت الإنسانيّة، أي أتمّت حقيقة الجمال الإلهي فيها، بلغت الحقيقة، أي ملء قامة المسيح. تسع خطوات نحو سعادة لا تفنى، وغنىً لا يشوبه فقر، وصلاح لا يعرف الفساد، وحقيقة مكتملة ترذل كلّ ضلال. إنّها الطّريق إلى الله، ولكن على خلاف كلّ الشّرائع والقوانين بحسب المقياس الأرضيّ، لأنّها بحسب المقياس الإلهيّ. إنّها السّبيل إلى التّوغّل في الأعماق الإنسانيّة حيث يسكن الرّبّ، داعياً إيّانا إلى تبيّن عظمة إنسانيّتنا، وقدرتها على بلوغ الأبد شريطة أن تتّحّد بمن هو الطّريق والحق والحياة، ربّنا وإلهنا يسوع المسيح.