هو أبو الوليد مسلم بن الوليد الانصاري مولى ابي امامة اسعد بن زرارة الانصاري فهو أنصاري بالولاء . ولد مسلم بن الوليد في الكوفة ترعرع وشب فيها و قال الشعر في صباه وكانت أسرته من الأسر الفقيرة فقد كان ابوه يعمل حائكاً يسعى لكسب قوته وقوت عياله كما عرف عن أسرته الصلاح والاستقامة. أما بالنسبة لإخوته فلا نعرف منهم إلا سليمان الذي ابتلي بالعمى وقد كان شاعراً متأثراً ببشار بن برد لكن شعره المروي قليل. وكان مسلم شاعرا حسن النمط جيد القول في الشراب وفي غيره وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى. ومسلم بن الوليد هو اول من استخدم البديع في الشعر وهو من المحسنات البلاغية في اللفظ ثم اكثر منه الشعراء في شعرهم وخاصة ابو تمام الطائي حيث اتخذه الطائي في شعره مذهبا . ثم انتقل الى بغداد ولم يتجاوز بشعره اولا الأمراء والرؤساء مكتفيا بما يناله من قليل العطاء ثم انقطع مع اخيه سليمان بن الوليد إلى يزيد بن مزيد الشيباني قائد هارون الرشيد الذي اتصل به فيما بعد ومدحه ومدح البرامكة وحسن رأيهم فيه. ونقل في بعض كتب الأدب (أن رجلاً سأل مسلم بن الوليد عن سبب هذا اللقب فأنشد مسلم: وا سوداد الصدغين في أوضح الخ د وما في الثغور من أقحوان وخافي الصدور من رمان فلهذا أدعى (صريع الغواني) ومن شعره ايضا: إن ورد الخدود والأعين النجل تركتني لدى الغواني صريعاً فهذا اللقب يدل فعلاً عليه اذ انه كان صريعاً للغواني فديوانه ممتلئاً بتعبير صريع الغواني ثم اتصل بالرشيد ومدحه وقيل لقبه الرشيد ب( صريع الغواني ) بسبب قوله : وما العيش إلا أن تروح مع الصبا صريع حميا الكأس والأعين النجل وقيل دخل يزيد بن مزيد على الرشيد فقال له: – يا يزيد من الذي يقول فيك ؟: لا يعبق الطيب خديه ومفرقه لا يمسح عينيه من الكحل قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يتبعنه في كل مرتحل فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين. فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله! فخرج من عنده خجلاً فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: – من بالباب من الشعراء؟ قال له: مسلم بن الوليد فقال: وكيف حجبته عني فلم تعلمني بمكانه؟ قال: أخبرته أنك مضيق وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه وسألته الإمساك والمقام أياماً إلى أن تتسع. فأنكر ذلك عليه وقال: أدخله إلي. فأدخله إليه فأنشده قوله: أجررت حبل خليع في الصبا غزل وشمرت همم العذال في عذلي رد البكار على العين الطموح هوى مفرق بين توديع ومرتحل فقال له الرشيد : قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر. فخرج الحاجب فقال لمسلم: – قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم خمسون ألفاً لك وخمسون ألفاً لنفقته. وأعطاه إياها وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد فأمر الرشيد ليزيد بمائتي ألف درهم وقال: – اقض الخمسين التي أخذها الشاعر وزده مثلها. وخذ مائة ألف لنفقتك. وأعطى لمسلم بن الوليد خمسين ألفاً أخرى. وقد ذكر جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم: حدثني أبي فقال: -اجتمع أصحاب المأمون عنده يوماً فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء فقال له بعضهم: – أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد؟ قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول وقد رثى رجلاً: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه فطيب تراب القبر دل على القبر وحيث مدح رجلاً بالشجاعة فقال: يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود وهجا رجلاً بقبح الوجه والأخلاق فقال: قبحت مناظره فحين خبرته حسنت مناظره لقبح المخبر وتغزل فقال: هوى يجد وحبيب يلعب أنت لقى بينهما معذب فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره. كانت لمسلم بن الوليد جارية يحبها كثيرا ثم تعرف على جارية اخرى ذات شرف وذكر وجمال فاخذ يرسل جاريته إليها ويبثها سره وحبه فتعود إليه بأخبارها ورسائلها وطال ذلك بينهما حتى أحبتها الجارية التي علقها مسلم ومالت إليها وكلتاهما كانتا في نهاية الحسن والكمال. وكان مسلم يحب جاريته هذه محبة شديدة ولم يكن يهوى تلك إنما كان يريد الغزل والمجون والمراسلة وأن يشيع له حديث بهواها وكان يرى ذلك من الملاحة والظرف والأدب، فلما رأى مودة تلك لجاريته هجر جاريته مظهراً لذلك وقطعها عن الذهاب إلى تلك وذلك قوله: صوت أحب الريح ما هبت شمالا وأحسدها إذا هبت جنوبا أهابك أن أبوح بذات نفسي وأفرق إن سألتك أن أخيبا وراسلها مع غير جاريته الأولى وفي ذلك يقول: تدعى الشوق إن نأت وتجنى إذا دنت واعدتنا وأخلفت ثم ساءت فأحسنت وعتب عيسى بن داود بن حاتم على مسلم بن الوليد فهجره وكان عليه محسناً فكتب إليه مسلم: شكرتك للنعمى فلما رميتني بصدك تأديباً شكرتك في الهجر فعندي للتأديب شكر وللندى وإن شئت كان العفو أدعى إلى الشكر إذا ما اتقاك المستليم بعذره فعفوك خير من ملام على عذر فرضي عنه وعاد له كما كان حاله . وجاء عن علي بن عبيد الكوفي قال: أخبرني علي بن عمرو قال: حدثني مسلم بن الوليد المعروف ب(صريع الغواني) قال: – ( كنت يوماً جالساً في دكان خياط بإزاء منزلي إذ رأيت طارقاً ببابي فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة فسررت به الا انه و كأن إنساناً لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما عينى عينك فدفعتهما إلى جاريتي وكتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لي لحماً وخبزاً و بشيء سميته فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترى لها ما قد حددته له وقد باع الخفين بتسعة دراهم فكأنها إنما جاءت بخفين جديدين فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جاراً لي أن يسقينا قارورة نبيذ فوجه بها إلي وأمرت الجارية بأن تغلق باب الدار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف. فإنا لجاسان نطبخ حتى طرق الباب طارق فقلت لجاريتي: – انظري من هذا.؟ فنظرت من شق الباب فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة وعليه شاكري فخبرتني بموضعه فأنكرت أمره ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة ولا للسلطان علي سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه فنزل عن دابته وقال: – أأنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. فقال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي. فقال لغلامه: – امض إلى الخياط فسله عنه. فمضى فسأله عني فقال: – نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إلي كتاباً من خفه وقال: – هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي يأمرني ألا أفضه إلا عند لقائك فإذا فيه: ( إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله وادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا). فأخذت الثلاثة والعشرة ودخلت إلى منزلي والرجل معي، فأكلنا ذلك الطعام وازددت فيه وفي الشراب واشتريت فاكهة نسائية واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله). ومدح البرامكة فقال: كأنه قمر أو ضيغم هصر أو حية ذكر أو عارض هطل لا يضحك الدهر إلا حين تسأله ولا يعبس إلا حين لا يُسَُل ومدح داود بن يزيد بن حاتم ومحمد بن منصور صاحب ديوان الخراج ثم لما أصبح الحل والعقد بيد الفضل بن سهل ذي الرياستين وزير المامون وكان قد مدخه كثيرا فقلده مظالم جرجان. واكتسب من عمله الجديد مئات الألوف الا انه أنفقها في لذاته وشهواته وقيل ان مسلم بن الوليد كان بخيلاً فقد جاء عن دعبل بن علي الخزاعي انه قال: كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس فرأيته يوماً وقد استقبل الرضا عن غلام له بعد موجدة فقال له: قد رضيت عنك وأمرت لك بدرهم. و كان مسلم بن الوليد قد تزوج من اقاربه وكانت زوجته تكفيه أمره وتسره فيما تليه له منه فلما ماتت جزع عليها جزعاً شديداً و قيل تنسك بعدها مدة طويلة وعزم على ملازمة ذلك فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل فأكلوا وقدموا الشراب فامتنع منه مسلم وأباه وأنشأ يقول: بكاء وكأس، كيف يتفقان؟ سبيلاهما في القلب مختلفان دعاني وإفراط البكاء فإنني أرى اليوم فيه غير ما تريان غدت والثرى أولى بها من وليها إلى منزل ناء لعينك دان فلا حزن حتى تذرف العين ماءها وتعترف الأحشاء للخفقان وقال الحسين: وحدثني جماعة من أهل جرجان أن راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره فتغافله مسلم ثم أخذ منه الدفتر الذي في يده فقذف به في البحر وفيه الكثير من شعره فلهذا قل شعره فليس في أيدي الناس منه إلا ما كان بالعراق وما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم. وبعمله هذا خسر الادب العربي الكثير من شعر مسلم بن الوليد . انتقل مسلم من بغداد إلى جرجان وأصبح عاملاً للبريد فيها ولكنه ظل مشتاقاً إلى بغداد. عرف عنه في آخر أيامه الورع والزهد والتنسك كما أنه بدأ يتنكر للقبه ( صريع الغواني) الذي أحبه كثيراً وعندما سأله أبو نواس عن معنى قوله: لا تذع بي الشوق إني غير معمور أجابه مسلم: (لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك). ولما قتل الفضل لزم منزله بجرجان ونسك ولم يمدح أحدا وظل حتى مات غريباً عن مدينته واهله . وقد رثاه فقال : ذهلت فلم أنقع غليلاً بعبرة وأكبرت أن ألقى بيومك ناعيا فلما بدا لي أنه لاعج الأسى وأن ليس إلا الدمع للحزن شافيا أقمت لك الأ،واح ترتد بينها مآتم تندبن الندى والمعاليا توفي الشاعر مسلم بن الوليد الانصاري بجرجان في عام \208هجرية –823 ميلادية فرثاه أصدقاؤه من الشعراء كما رثاه ابنه خارجه فقال: إذا مرضت أشعار قوم فإنه تعطلت الأشعار من بعد مسلم يجيئك منها بالصحيح المُسَلِّمِ وصارت دعاويها إلى كل معجمِ أعجب بعض النقاد والخلفاء والأمراء والعامة بشعر مسلم . وقد قال عنه ابن شرف القيرواني: (وأما صريع فكلامه مرصع ونظامه مُصَّنع وغزله عذب مستعذب وجُملةُ شعره صحيحة الأصول قليلة الفضول وشبهه بزهير والنابغة ). وقال عنه ابن قتيبة: ( كان مسلم مدّا حاً حسناً) اما ابن المعتز فقال: (إن البديع كان موجوداً من قبله لكنه أكثر منه في شعره ) انشد مسلم بن الوليد الشعر في اغلب الفنون الشعرية ومنها المديح والهجاء والرثاء والوصف والغزل فكان يمدح لأجل المال والجاه والمجد ويهجو هجاءً لاذعاً كل من وقف في طريقه من الشعراء وغيرهم الذين يحاولون إبعاده عن الشهرة والمجد أما رثاؤه فيعتمد على ذكر الكرم والشجاعة في شخص المرثي وأما وصفه فهو كثير يحكي فيه عن البيئة التي كان يعيش فيها والطبيعة ومافيها . واما في الغزل فحدّث ولا حرج فيكفي انه لقب صريع الغواني لعشقه النساء الجميلات والتغزل بهن. فممن مدحهم ذا الرئاستين ابو الفضل بن سهل قال فيه: بالغمر من زينب أطلال مرت بها بعدك أحوال وقائل ليست له همة كلاً ولكن ليس لي مال وهيمة المقتر أمنية هم مع الدهر وأشغال ومن هجائه قال يهجو رجلا : أما الهجاء فدق عرضك دونه والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه عرض عززت به وأنت ذليل واختم مقالتي بهذه الابيات من شعره : أَدَهراً تَوَلّى هَل نَعيمُكَ مُقبِلُ وَهَل راجِعٌ مِن عَيشِنا ما نُؤَمِّلُ أَدَهراً تَوَلّى هَل لَنا مِنكَ عَودَةٌ لَعَلَّكَ يُعدي آخِراً مِنكَ أَوَّلُ سَلامٌ عَلى اللَذاتِ حَتّى يُعيدَها خَليعُ عِذارٍ أَو رَقيبٌ مُغَفَّلُ أَثَرتُ مَطِيَّ القَصفِ في مُستَقَرِّهِ فَلا القَصفُ مَتبوعٌ وَلا هِيَ تَرحَلُ وَأَخلَيتُ ميدانَ الصِبا مِن بَناتِهِ و َإِنّي بِها لَلمُستَهامُ المُوَكَّلُ أَلا في سَبيلِ اللَهوِ أَيّامُنا الأُلى امير البيان العربي د. فالح الحجية الكيلاني العراق- ديالى – بلدروز