صار الله إنساناً وحلّ بيننا ليعيش معنا ويرافقنا خطوةً خطوة نحو الحياة الأبديّة. قد يكون المنطق البشريّ رافضاً لهذا التّجسّد أو غير قادرٍ على استيعابه، لكنّه إن حاول فهم أنّ منطق الله مغاير لمنطقه سيبدأ تدريجيّاً بالإحاطة بفهم سبب وهدف وجوده. كلّنا نريد الكمال، بل كلّنا نعتقد أنّنا كاملون إلّا أنّ قلّة قليلة تسعى إليه وهي تعلم أنّه من العسير أن يبلغ الإنسان الكمال ما لم يتحرّر من كلّ ما يسود عليه ماديّاً ونفسيّاً وروحيّاً. هذا الكمال شكّل هاجساً للعلماء والباحثين والفلاسفة، والبعض اعتبر أنّ الفضائل تخلص إلى الكمال والبعض الآخر تكلّم عن أهمّيّة العقل وآخرون تحدّثوا عن علوم روحيّة ونفسيّة. إلّا أنّه لم يثبت أنّ هذه النّظريّات تمنح الإنسان الكمال الّذي يرجوه، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ محدوديّته البشريّة تحول بينه وبين الكمال. فمهما بلغ عقل الإنسان من سموّ ورقيّ لا بدّ أنّ يسقط في مكان ما لأنّ محدوديّته تفرض ذلك. ومهما بدا للإنسان أنّه يمتلك الفضائل ويتمسّك بها ويسير في طريق مستقيم إلّا أنّ في الإنسان جوانب لا يمكنه إدراكها بسهولة وقد يمضي حياة كاملة ولا يعرفها. " إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السّماء، وتعال اتبعني" ( مت: 21:19). يختصر السّيّد المسيح السّعي إلى الكمال وبلوغه ببساطة شديدة ولكن بذات الوقت بعمق لا مثيل له. فيوجز نظرّيّات كثيرة وفلسفات عدّة بجملة واحدة تجذبنا من ناحية للوقوف أمام ذواتنا وتأمّل الكثير من القيود الّتي تحول بيننا وبين الكمال، ومن جهة أخرى تدعونا لأن نعي أنّ الكمال الإنساني يخلص بنا إلى الكمال الإلهي. ولا نريد بالقول أنّ الإنسان سيتفوّق على الله، لكنّ مراد القول أنّ الكمال الّذي نبحث عنه نحن مغاير تماماً للكمال الحقيقيّ، وأنّ الله صار إنساناً من أجل أن يرفعنا إليه. - " إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء". للإنسان الحرّيّة التّامة في السّعي إلى الكمال أو في البقاء في شقائه وبؤسه. فإن أراد الكمال واجتهد للوصول إليه خَطى خطواته نحو إنسانيّته الحقيقيّة. وإذا اختار أن يعيش على هامش الحياة فسيبقى في كونه مشروع إنسان. ويربط السّيّد الكمال بالتّخلّي عن كلّ ما يملكه الإنسان ثمّ منحه إلى الفقراء. ولو عدنا إلى النّص الإنجيلي في متّى 19 سنرى أنّ الرّبّ كان يتكلّم مع شاب أتى ليسأله كيفيّة أن يكون صالحاً. وكان ذلك الشّاب ذا أموال كثيرة. ولكنّ الكلام للرّبّ ولا بدّ أنّه يتخطّى الغنى الماديّ فكلام الرّبّ كلام حياة وليس نظريّات مؤقّتة أو جدليّات قابلة للصّواب أو الخطأ. لذا فالمعنى هنا يشمل كلّ ملكٍ للإنسان وليس الملك المادّي وحسب. والإنسان يملك الكثير وعلى جميع المستويات، سواء أكانت عقليّة معرفيّة أو روحيّة أو حتّى ماديّة. وعليه أن يعتبر كلّ هذه الممتلكات أموراً يتشارك بها مع الفقراء إلى المعرفة أو إلى كلمة الله أو إلى الفرح النّفسي أو إلى المادّة إلى ما هنالك من حاجات إنسانيّة يمكن لكلّ منّا أن يقدّمها على اختلاف أشكالها. ومتى تجرّد الإنسان ممّا يعتبره ملك شخصيّ وتشارك به مع كلّ فقير تحرّر من أنانيّته ونرجسيّته وحقّق العدالة، فلا يعود على هذه الأرض من يحتاج لشيء ما ويعوزه أن يتقهقر حتّى يحصل عليه. وما أجمل كلمة ( أعطِ) على لسان الرّبّ وهو العاطي والمانح الأوّل والأكمل. فعطاؤه فيض لا حدّ له، وكرمه غمر من السّخاء يحتضن البشريّة كلّها. فمن يطلب منّا أن نعطي هو من أخذ ما لنا ليمنحنا ما له. فإذا كان من لا حدّ له ولا يسعه لا مكان ولا زمان، تصاغر وتجرّد حتّى يرفعنا إليه، فكم حريّ بنا أن نتجرّد ونمنح الإخوة كلّ ما يحتاجون. إنّ الرّبّ رأى فقرنا الإنساني فتصاغر وأخلى ذاته، آخذا صورة عبد، صائراً في شبه الناس. ( فيليبي 6:2). - " يكون لك كنز في السّماء" الانتقال من الأرضيّات إلى السّماويّات. لا يقول الرّبّ ( سيكون لك) بل ( يكون لك)، ما يعني أنّ التّحرّر من كل شيء هو الدّخول في الكمال وملامسة السّماء وبدء العيش فيها منذ الآن. فالسّماء وكنوزها ليست فعل تعويض وما تُحرَمَ منه هنا تناله هناك. وإنّما السّماء هي حالة العيش في قلب الله منذ الآن حتّى معاينته وجهاً لوجه عند الانتقال إليه. ( اذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنز في السّماء) تظهر فعلاً ونتيجةً، كما تبيّن حرّيّة الإنسان وتحرّره من كلّ القيود الماديّة والنّفسيّة والرّوحيّة تؤدّي به إلى نتيجة حتميّة ألا وهي بلوغ الكمال والعيش في قلب الله أبداً. كنز في السّماء يفوق كلّ كنوز الأرض ولا يشبه بأيّ شكل من الأشكال تلك الكنوز الّتي نتغنّى بها. هذا الكنز هو امتلاك كلّ شيء بيسوع المسيح، أيّ الغنى الحقيقي. من عرف المسيح وارتبط به واعتبر كلّ شيء خسارة في سبيل ربحه أيقن أنّه اكتفى ولم يعد بحاجة إلى شيء. - " تعال اتبعني": كان يمكن ليسوع المسيح أن يقول لذلك الشّاب: إن أردت أن تكون كاملاً أحسن إلى الفقراء، أو قدّم لهم مأوى أو ما شابه. لكنّنا نتحدّث عن كمال وليس عن حسن أخلاق، والكمال يقتضي التّرفّع عن كل شيء. الرّبّ لا يريد آلات متحرّكة أو عبيداً ينفّذون وإنّما يريد إنساناً بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى. يريدنا أن نتعرّف على إنسانيّتنا الّتي هي على صورته ونحقّقها فينا وفي العالم إراديّاً، ونكون واعين لأهمّيّة ارتباطنا به. كما أنّه يرغب في حبّ عميق يجمعنا به من خلال إخوته الصّغار. فيأتي فعل حبّنا ومشاركتنا لأيّ إنسان إثباتاً للرّبّ على عمق محبّتنا له. ولمّا كانت صورة الإنسان على صورة الله فهذا يعني أنّه لا يمكن للإنسان أن يبلغ الكمال إلّا بمساعدة الله. والله لم يساعدنا وحسب بل أتى بنفسه ليسير أمامنا ومعنا حتّى نبلغه. فحضور المسيح فينا واتّحادنا به ومرافقتنا له سبيل إلى الكمال. من امتلك المسيح امتلك كلّ شيء وتحرّر من كلّ شيء لأنّه نال في نفسه الإنسانيّة حرّيّة عظيمة تجعله مستغنيّاً عن كلّ أمر، محتسباً إيّاه غير ذات أهمّيّة. كلّ ما نملكه بسيطاً كان أم مهمّاً، هو عطيّة من الله وبالتالي وجب مشاركته مع الآخرين واعتباره حقّ لهم وليس إحساناً. وبذلك نبلغ الكمال ونجلس على قمّة العالم كما يقول المغبوط أغسطينس، إذ إنّنا لم نعد نشتهي شيئاً ولم نعد نخاف أن نفقد شيئاً، لأنّنا مكتفون بالكنز الحقيقيّ: "يسوع المسيح". ومتى اكتفينا بالمسيح وأدركنا كمال إنسانيّتنا رفعنا السّيّد إليه وأجلسنا عن يمينه في ملكوته السّماويّ.