يقول السّيّد المسيح في ( متى 24:6)، " لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين، لأنّه إمّا أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال." تحمل هذه الآية الإنجيليّة في عمقها أبعاداً اجتماعيّة وفلسفيّة كما لاهوتيّة. والكلام الصّادر عن السّيّد والمعلّم ليس عظة تدعو إلى التّرفّع عن الماديّات وحسب وإنّما هي دعوة إلى التّحرّر من إله المال حتّى نتمكّن من السّلوك في حرّيّة أبناء الله، وحتّى " نثبت في الحرّيّة الّتي قد حرّرنا بها المسيح، ولا نرتبك بنير العبوديّة" ( غلاطية 1:5). لطالما سيطر المال على النّفس الإنسانيّة، وما زال إلى اليوم يسيطر عليها ويتحكّم بأفعالها وسلوكيّاتها. ويمكن لكلمة ( مال) أن تعرّف كلّ الماديّات الّتي تأسر رغباتنا وتحوّل مسيرة حياتنا من بشر أحرار معدّين للحرّيّة والكرامة، إلى عبيد للمال همّهم الأوحد جني المال وتكديسه والاستمتاع به، حتّى ولو استلزم الأمر تفكّك الرّوابط الاجتماعيّة والعائليّة، وقمع الشّعوب واستعبادها، واستغلال النّاس باستخدام وسائل تبرّر الغاية المرجوّة. لا شكّ أنّ المال حاجة إنسانيّة، ولا يطلب منّا المسيح في هذه الآية أن نجلس على الأرصفة لنستعطف ونستجدي، بل يريدنا أن نعطي للمال مكانته الصّحيحة في حياتنا فيبقى عند حدود الحاجة لتأمين مستلزمات الحياة. كما أنّه لا يطلبّ منّا أن نرمي ما نجنيه من أموال أو الامتناع عن الاستمتاع بحياتنا، بل يذهب السّيّد إلى ما هو أبعد من ذلك ليحوّل طاقة الحبّ فينا إلى ما هو أسمى من المادّة وأرفع ممّا هو فانٍ ولا يدوم. إنّ هدف السّيد تربويّ على المستويين الجسدي والرّوحي، فيتّزن الإنسان فينا ويتجلّى بصورته البهيّة الّتي هي على صورة الله. - " لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين، لأنّه إمّا أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر". الرّبّ سيّد، والمال سيّد، ولكن شتّان ما بين سيادة الرّبّ على حياتنا وما بين سيادة المال عليها. من اختبر الارتباط بالرّب وبنى علاقة حميمة معه، يعلم جيّداً أنّ هذه العلاقة تولّد في داخله سلاماً لا يمكن لأحد أن يسلبه إيّاه، وتدفعه بالمقابل لخدمة الإنسان. وأمّا من ارتضى أن يخدم المال السّيّد فلقد كرّس حياته لهذا السّيّد وبالتّالي أصبح أسيره وعبده وتغاضى عن حاجة أخيه الإنسان. ولمّا كان الإنسان لا يمكنه أن يحبّ سيّدين، بمعنى أنّه لا يمكن للإنسان أن يحبّ بصدق وأمانة سيّدين، والإخلاص لهم في خدمته ومحبّته وجب أن يختار بينهما. والاختيار الّذي يفرضه المسيح هنا هو ذاك الّذي يناسب إنسانيّة الإنسان وحرّيّته وليس العكس. من اختار خدمة الله المحبّة اختار أن يتشارك مع أخيه الإنسان بهذه المحبّة، أمّا من اختار خدمة الله المال، فلقد اختار أن يقطع الشّراكة مع أخيه الإنسان. إن مشكلة الغني في إنجيل ( لوقا 31،19:16)، لم تكن غناه وإنّما مشكلته هي تغاضيه عن حاجة لعازر المطروح عند بابه. وهي مشكلة كل من اختار الله المال وفضّله على الله المحبّة. عبادة المال هي سبب وجود الفقراء في هذا العالم، فالله لم يصنّف النّاس فقراء وأغنياء. إن الفقراء يعانون بسبب حجب الأغنياء لثرواتهم وعدم مشاركتهم المال مع أخيهم الإنسان. قد يتفاخر البعض بإحسانه للفقراء، ولكنّ المسيح لم يطلب منّا الإحسان إليهم، لأنّ الإحسان عطاء ناقص، وقد يأتي ممّا يفيض لدينا. مطلب المسيح هو المشاركة الّتي هي العطاء الكامل. عندما سأل الغنّي الرّبّ: " يا معلّم، ماذا أفعل لأنال الحياة الأبديّة؟"، ردّ الرّبّ قائلاً: اذهب، بع كلّ ما تملك واعطه للفقراء واتبعني". ( مرقس 27،17:10). لم يطلب منه المسيح أن يحسن إلى الفقراء، بل الاختيار بين الله المحبة والله المال. إذا استطاع الإنسان أن يتخلّى عن المال في سبيل الله فهو اختار كمال إنسانيّته، وحرّيّته. التّخلّي عن المال يعني التّخلّي عن سيطرته علينا وتحكّمه برغباتنا وشهواتنا وأنانيّتنا، وليس التّخلّي بمعنى التّمنّع عن السّعي لكسب عيشنا اليوميّ، وتأمين التّعليم والمسكن والمأكل والمشرب. العالم الغارق في عبوديّة المال سبّب الحروب والنّزاعات وعزّز الخلافات وجعل من الإنسان آلة لكسب المال فقط، وحطّم قيمة العدالة الإجتماعيّة، وقسّم النّاس إلى طبقات وخلق بين الأخ وأخاه هوّة كبيرة. - " لا تقدرون أن تخدموا الله والمال." إمّا خدمة الله وإمّا خدمة المال. المسيح حاسم في قوله، وهذا القول يطال الكنيسة كلّها بل العالم كلّه. وإذا كنّا كمسيحيّين اخترنا أن نتبع المسيح فعلينا أن نتخلّى عن سيطرة المال الّذي يجعل الكثيرين منّا مغيّبين عن واقع الإخوة الفقراء والمعوزين. إنّ الرّبّ يشركنا جميعاً في جسده الواحد، أفلا نشترك مع الإخوة في عطايا الرّبّ؟ إنّ الشّراكة مع الإخوة حقّ لهم وليست إحساناً أو منّة منّا، فالمحبّة الأخويّة الّتي جعلها المسيح بيننا ينبغي أن تكون أخوّة حقيقيّة لا نظريّة. المسيحي الحقيقي هو ذاك الّذي لا يتمكّن من النّوم وأخوه جائع أو محتاج، وهو ذاك الّذي لا يهنأ له عيش وأخوه لا يحيا بكرامة. قد يقول قائل أنّ هذا الكلام بعيد عن الواقع أو غير مناسب للواقع، إلّا أنّ الوهم الحقيقيّ هو أن يعتبر المسيحيّ نفسه غير قادر على تغيير الواقع. التّغيير يبدأ من كلام السّيّد: " كلّ ما فعلتموه لإخوتي هؤلاء الصّغار، لي أنا فعلتموه". ( متى 40: 25). فهل يمكننا بعد ألّا نجتهد لنقدّم لإخوتنا الأفضل والأمثل؟ " حيث يكون كنزك، يكون قلبك" ( متى 21:6)، فإذا كان كنزك في قلب الله فهناك يكون قلبك وإليه تتحوّل كلّ طاقة حبّك، وبالتّالي إلى أخيك الإنسان، فلا علاقة مع الله خارجاً عن الإنسان والعكس صحيح. وإذا كان كنزك بضعة أوراق تتطاير وتحترق وتُسرق فهناك قلبك الّذي سيتحوّل إلى حجارة قاسية غير قادرة على المحبّة والشّراكة. مادونا عسكر/ لبنان