عاد يدق الأبواب بإلحاح .. لكن ما من أحد فكر في أن يفتح له بابه .. البرد يتكاثف بالخارج والظلام يشتد والقلوب ليست بالقسوة التي قد تتخيلونها .. لكنهم مغلوبون على أمرهم .. وما من أحد منهم يقدر على فتح بابه له ! إنه يهيم وحده في الطرقات المظلمة الباردة على قدميه الحافيتين العريضتين .. وسيظل يهيم هكذا طوال الليل داقا الأبواب سائلا المأوي والرحمة .. لكن لا مأوي ولا رحمة لك في تلك القرية ولا في غيرها .. فعد من حيث جئت .. إن كنت تقدر على ذلك .. أو إن تعرف أصلا من أين أتيت ! ... في ليلة شديدة البرودة بدأت القصة وانتهت في نفس اللحظة .. إنها من نوعية القصص التي تشبه لقطة التصوير الفوتوغرافي .. تركز علي المشهد .. تثبت يداك .. تضغط الزر وتأخذ اللقطة .. ثم ينتهي كل شيء ! التقطت الصورة ولم يعد للمنظر أي أهمية .. لكن حتى لو تلاشي المنظر موضوع الصورة من الوجود فأنه سيبقي مطبوعا مرقوما علي الصورة .. إلي الأبد أو إلي أن تهلك الصورة أو تفنيها الأزمان القاهرة ! لكن هنا لا توجد كاميرات لتلتقط صورا ولا توجد أزمان قاهرة لتفني اللقطة المسجلة ، كشهادة وفاة علي الورق ، فالزمن هنا شبه متوقف ونصف ميت .. لا يوجد سوي المنظر فحسب والمنظر هنا يتكرر كل ليلة ! والحدث يتلخص مثل الحكاية في كلمتين .. ولادة ثم موت ! لم تكن أداة الربط لهما قيمة أو معدودة في حساب الكلمات فالحقيقة أن الولادة والموت هنا يحدثان في نفس اللحظة بلا فاصل بينهما .. إن الغجر ينقرضون ويجب علينا أن نساعدهم علي ذلك ! ... لقد قدم الغجر إلي تلك القرية منذ سبعين عاما تقريبا .. كانوا يسرقون ويعملون بمختلف الحرف الوضيعة .. والقذرة أيضا ! كانوا يقومون بأعمال الخدمة وتنظيف الشوارع ، العمل كخدم وبائعين في المحال التجارية الصغيرة ، يكنسون ويجمعون الأوساخ والقاذورات ثم يمسحون الأرضيات .. حتى المدرسة الصغيرة الوحيدة في القرية كانوا يتولون العمل كفراشين وسقاة فيها ، وكانت مهمة السقاية تقوم علي عواتقهم وحدهم .. تكاثروا حينا من الدهر وبدا أنهم سيبزون سكان القرية الأصليين عددا ! لكن فجأة بدئوا يتناقصون .. لقد سرت بينهم عدوي غريبة وبدأت حالات وفاة كثيرة غامضة تحدث في صفوفهم ! أول من لقي حتفه كان " بولا " خادم المدرسة العجوز الطيب ذو الشاربين العملاقين ، اللذين كان يتفاخر بهما دوما .. وجدوه ذات صباح ، قبل بداية دوام عمله وحضور الأولاد إلي المدرسة ، منكفئا علي وجهه وأعلي ثيابه مبلل بالدم وشاحبا وبلا حياة .. وجدوه في فناء المدرسة الخلفي رغم أنه كان يقضي لياليه في كوخه الصغير البعيد عن المدرسة ولا يبيت داخلها أبدا .. ما الذي آتي به ليلا إلي المدرسة إذن ؟! لم يكن أحد يقيم معه ، فلا أسرة لديه ، ليقدم إجابة شافية علي ذلك السؤال .. لكن الرجل كان مسنا جدا ، كما كان مريضا أيضا وهذا جعل الشكوك تتبخر وتتلاشي .. إن كان ثمة شكوك تحيط بموته أصلا ! تبرع احد أثرياء القرية بتجهيزه للدفن وأقاموا قداسا علي روحه في الكنيسة ودفنوه في قبر مخصص للغرباء .. في الليلة التالية مباشرة مات اثنان من الغجر ، المقيمين علي أطراف القرية ، بنفس الطريقة ووجدا بنفس الحالة .. الثياب المبللة بالدم والموت في مكان غريب بعيدا عن بيوتهما المظلمة الصغيرة ! كان للمتوفيين الجديدين عائلات وزوجات وأبناء .. لكن أحدا لم يكن يعرف ما الذي أخرجهما من بيوتهما ليلا وجعلهما يبعدان هكذا ويتوغلان في القرية إلي مسافات بعيدة .. بعيدة جدا عن أماكن سكناهما ! في اليوم التالي بدأت الشائعات .. إنه وباء يفتك بالغجر .. بهم وحدهم ! لم يصدق أحد تلك الترهات وبدأ الناس يلزمون جانب الحذر .. أشيع أن هناك وباء ، فبدأ سكان القرية يغلون مياههم قبل أن يشربوها ، ويضيفون مقدارا وافرا من عصير الليمون علي كل شيء يأكلونه أو يشربونه ! بالرغم من ذلك ظلت حالات الوفاة الغامضة تسجل بين الغجر .. مات منهم خمسة أفراد في خلال ثلاثة أيام تالية وأنفجر القرويون مفزوعين حينما وصل أحدهم من المدينة حاملا نبأ مشئوما ! الشؤم لا يأتي إلا معهم وإليهم .. وقد عاد ابن عائلة " توت " بنبأ مشئوم مثله ومثل عائلته ! عائلته التي تنتمي إلي الغجر لكنها الأسرة الوحيدة منهم التي تمكنت من تزوير أوراق تثبت إنهم من سكان القرية الأصليين .. ولكن علي من يمارسون تلك الألاعيب الصغيرة ؟! الجميع هنا يعرفون أصلهم وفصلهم .. لكنهم يجهلون لما لم يصب الوباء أحدا من أفراد تلك الأسرة بعد .. ولماذا أصر ابنهم علي إذاعة خبر الموت في القرية فور عودته إليها ! موت آخر لكنه أكثر إثارة للفزع من موت الغجر المساكين ! الحلقة القادمة مساء الخميس القادم بإذن الله