"المشي فوق الجمر".. قصة من مجموعتي القصصية التي تحمل العنوان نفسه.. هي أيضاً وصلت الى الأرض المحتلة منذ أعوام.. وقصتي هي قصة أهل غزة.. أهل العزة. والمجموعة من منشورات دار مجدلاوي في عمان، عام 2006 " المشي فوق الجمر " الميكروفونات أو مكبرات الصوت تصدر الإنذارات المخيفة..والأصداء تتردد في الأفاق الأربعة: (على كل شخص يتراوح عمره بين الخامسة عشر والخمسين أن يخرج من داره الى الساحة العامة.. مفهوم). و يأتي صوت أخفض لكنه يُسمع بوضوح من المصدر نفسه: ( بل فوق الخمسين أيضاً). الصراخ يعلو من الأطفال والأمهات.. والاضطراب يسود بيوت مدينة غزة، وهمهمات من الرجال الذين يلتقي أحدهم بالآخر أو يصطدم به فوق سلم أو أمام بيت، أو في مدخل الحي حيث تربض دبابات كثيرة مثل وحوش في غابة تترصد صيدها. الرجال يخفضون رؤوسهم وكأنهم يمتثلون للأوامر حفاظاً على بيوتهم وعائلاتهم وليس على أرواحهم.. فما عادت للأرواح قيمة أمام ما يجري.. وهل هي أغلى من الوطن؟؟ أما الخوف فلم يعودوا يعرفونه بعد أن اعتادوا الحصار.. والحواجز.. والاحتجازات لساعات طويلة قبل الوصول بسلامة الى منازلهم. قليلاً ما يتبادل الرجال الكلام .. فهم يعرفون سلفاً إصرار عدوهم على ممارساته الظالمة التي لا يحيد عنها إذا ما أعلن عن إنذار أو بيان. لكن شبان الحي كانوا مثل نمور هائجة يدورون فيما حولهم كما لو أنهم في أقفاص.. وكل منهم يقذف بعبارات نارية فيها التحدي وروح المجازفة. لا أحد يستطيع أن يعرف ماذا كان يدور في أذهانهم أو في صدورهم.. لكنهم جميعاً وفي النتيجة رفضوا الإذعان للأوامر. واحد من الشبان سحبه أبوه رغما عنه والآخر تلقى دفعة في ظهره تحثه على المسير.. والثالث لحقت به أمه وتوسلت إليه أن يفعل.. والرابع والخامس.. كلاهما توجه الى الساحة وهو يجر قدميه جراً وكأنه يريد أن يهرب في أي لحظة. أما الباقي فقد اعتصموا بالجدران.. أو لاذوا بالبيوت. لكن فرقة من الجنود بأحذيتها الثقيلة وخطواتها القاسية تعقبتهم وأخرجتهم واحداً واحداً.. وبأعقاب البنادق في رقابهم وظهورهم ساقتهم الى الساحة. أحمد أبن الثانية والعشرين.. والمعيل الوحيد لأسرته بعد أن استشهد أبوه وأخوه كان يسير ثابتاً، مطرق الرأس وكأنه يسير في جنازة. من النافذة كان صوت أمه يلاحقه فيضع يديه على أذنيه كأنه لا يريد أن يسمع صوتها الذي يختلط بأصوات أخويه الأصغرين : حسن وحسين. وفجأة يلتفت الى الخلف فيرى الولدين يجريان نحوه وهما يناديانه. أشار إليهما بيده معنفاً يأمرهما بالرجوع.. لكن الجنود الإسرائيليين المحيطين بالساحة لم يمنعوهما.. وما كانوا قد منعوا غيرهم من الصغار من التعلق بأذيال ذويهم الذين يتجمعون في الساحة.. ما الأمر؟ لاحظ أحمد أن أحد الجنود يبتسم بشماتة وكأنه يخفي أمراً . هؤلاء الجنود وجوههم كالصخر لا ينبض فيها عرق، فلماذا إذن يهمهمون وكأنهم يبتسمون؟! حسن يقول لحسين : - لن نترك (أحمد).. ليأخذونا معه.. وليحصل لنا ما يحصل له . و يرد حسين : - ليست حياتنا أغلى من حياته.. ونحن لسنا صغاراً . ثم اقترب الرأسان.. رأس حسن الى رأس حسين، وبدأ كلام خافت لم يفهمه أحد لأنه لم يسمعه أحد . عندما كثر عدد الموجودين في الساحة ساد صمت رهيب.. فصمت الصغيران أيضاً. ولم يصدر أي أمر حتى عاد الجنود الذين فتشوا الحي كله بيتاً بيتاً. عند ذلك ابتعد الولدان حسن وحسين عن أخيهما أحمد بضع خطوات، وأصبحا قريبين من نهاية الصف الأول للمحتجزين. لم يستطع أحمد أن يعترض.. ولماذا يعترض؟.. الخطر على الجميع.. وهل قربهما منه أو ابتعادهما خطوات عنه سيغير من الأمر شيئاً؟ لا.. لكنه قلق بشكل يدفعه لأن يطلق ساقيه للهرب، وأخذ أخويه معه ولو أطلقوا عليه النار. لحظات وتقدم أحد الجنود ليجعل المحتجزين في صفوف متراصة واحداً تلو الآخر وكأنهم تلاميذ في مدرسة..والوجوه تنطق بالتعجب والاستغراب.. والأقدام تلبي الأوامر دون مشاعر. أمروهم بالمشي.. الى أين؟ .. سأل أحمد نفسه .. وليس أمامهم سوى تلك الكنيسة المحاصرة بالدبابات والتي تحوم فوقها الطائرات!! هل يريدون دفعهم الى الداخل؟.. ربما.. مشى الجميع وكأنهم يمشون على الجمر في هذا البرد القارس. خطواتهم كانت ثقيلة وكأن أقدامهم مكبلة بالحديد. فجأة سمعوا هدير دبابة وراءهم.. اقترب الصوت واقترب.. ولم يجرؤ أحد على الالتفات.. لكن حسن.. ومن بين الفراغات بين صفوف المحتجزين رأى فوهة دبابة فوق الرؤوس.. همس لحسين: - الدبابة وراءنا.. لم يعد لدينا فرصة للهرب. سأله حسين : - و الى أين تتجه فوهة المدفع ؟ قال حسن : - الى أمام .. الى أمام . قال حسين : - ما علينا إلا أن نقصّر في مشينا حتى الصف الثاني.. ثم الثالث.. وهكذا نصبح في الصف الأخير ثم نهرب . قال حسن : - وعلينا أن نزيح عرضاً كل مرة خطوة حتى نصبح على الطرف. ولم يأبه أحد لحوار الصغيرين الهامس الخافت.. بل لم يهتم بهما أحد فالأنظار كلها متوجهة الى الأمام.. والخطة انكشفت.. فهم إذن دروع بشرية وضعوها أمام الدبابة ليقتحموا الباب الحديدي الضخم أمامهم.. ولن يستطيع أحد من المقاومين أن يطلق النار وإلا أصاب أهله. ولكن ماذا لو أنهم اقتحموا الباب ثم أداروا فوهة الدبابة أو فوهات بنادقهم نحوهم فأردوهم قتلى؟ كل شيء جائز - قال أحمد في نفسه - أمام هؤلاء الغزاة الطغاة المتوحشين.. ألا يرون أن بين الصفوف أطفالاً!!.. ونساء أيضا لحقن بأزواجهن.. ألا يحسبون حساب الكرامة الإنسانية لهؤلاء الرجال الذين لا ذنب لهم سوى أنهم فلسطينيون؟!! إنها حرب قذرة بشعة.. وان أساليبها لا أخلاقية ولا إنسانية. قال حسن لأخيه حسين وهو يمسك بيده ويشد عليها : - سأترك يدك لأخلع حذائي.. يرد حسين : - ولماذا تفعل ؟ الأرض باردة جداً كأنها صقيع. يقول حسن : - لتكن صقيعاً أو جمراً لا يهم.. ستكون عملية الهروب أسهل . يقول الأخ لأخيه : - أنا سأشاغلهم بهروبي بينما تقفز أنت بعيداً مادمت حافياً. ولكن ماذا لو أَطلق عليك رصاص أحد هؤلاء القناصة الذين على الأسطح؟ يرد الآخر : - ليفعلوا .. وسأصرخ وأخلق فوضى وأثناءها تهرب أنت وأحمد. خطة صبيانية ساذجة.. لكن الصغيرين حسن وحسين اقتنعا بها الى آخر حد.. وطال المشي فوق الأرض الجليدية وحسن لا يشعر بالبرد.. بل يشعر أنه يمشي فوق الجمر.. وفجأة تملّص من بين رجلين كانا يلتصقان به كأنهما يحميانه. تملّص حسن.. وركض باتجاه اليمين خارج الصفوف.. لكن الرصاص كان قد عاجله من الشمال.. رصاص كثيف فجّر دمه ساخناً فوق التراب.. أصبح التراب جمراً بعد أن انفجرت قذيفة من طائرة. نار ودم.. دم ونار.. وحسين لا يستطيع أن يلحق بأخيه بعد أن أمسك به أحد المحتجزين.. وأحمد من الصف الأول يرفع رأسه لينظر الى أخويه فلا يرى ألا حسين وهو يضع يديه على وجهه. حجبت الدبابة الضخمة منظر الجسد الصغير البريء الذي رماه أحد الجنود بقدمه الى أبعد مسافة ممكنة.. بينما رمت العيون هذا الجندي بنظرات تقدح بالشرر. النار تغلي في صدر أحمد.. ما ذنب هذا الصغير؟.. وما ذنب الأبرياء جميعاً الذين يسقطون مضرجين بدمائهم ولا أحد ينقذهم؟ عثر أحمد على سكين لا تذبح عصفوراً.. ومع ذلك فقد هجم على أول جندي أمامه بعد أن اقتحمت الدبابة الباب الحديدي.. هجم عليه وغرس السكين في صدره.. لكن جسده كله أصبح هدفاً للرصاص..فتكوم على الأرض كتلة من الجمر تحترق.. وتحرق ما حولها. أما حسين فقد غاب مع المحتجزين الذين ساقوهم الى المعتقل بينما الشمس في الغروب وهج من جمر أحمر غاضب في وجه المعتدي الغاصب.