هذه بعض من يوميات الثورة السورية في مدينة واحدة هي بانياس، وهي المدينة التي تشكل نقطة وصل بين مدن الساحل السوري عن طريق الطريق الدولي بين اللاذقية وطرطوس وتتصل بالمحافظة الداخلية. روي الشهادة شاب سوري من المدينة نفسها، الشاب استطاع أن يهرب إلي لبنان بعد ألقي القبض عليه وتعذيبه وهناك روي للروائي اللبناني محمد أبي سمرا وقائع ما جري الجمعة الثالثة: ساحة التحرير بعد تظاهرة السبت 26 آذار مارس، وهتافها "الشعب يريد اسقاط النظام"، واحتدام التظاهرات وقتل متظاهرين في درعا، عزمنا علي الاستمرار في التظاهر وتنشيطه، نحن شبان بانياس وريفها، فاتفقنا علي تكثيف التواصل في ما بيننا وتوسيعه ليشمل جميع من نعرفهم في المدينة وقراها، كي ينشطوا في دعوة الاهالي الي الاحتشاد في مساجد بانياس ظهيرة نهار الجمعة، الاول من نيسان، للخروج في تظاهرات تلتقي في ساحة السنتر، بعد الصلاة. طوال نهارات الاسبوع استغرقنا في اتصالات ولقاءات واحاديث في ما بيننا ومع الناس عما يحدث في درعا، وعما حدث في مصر، مشددين علي ان سوريا لا يمكن ان تبقي علي حالها، صامتة خرساء الي الابد. في حميّة لا سابق لها في حياتنا، عشنا تلك الايام، نسابق الوقت الي ظهيرة الجمعة الموعودة، فراح العالم، عالمنا الضيق، المغلق والكسول ما قبل 18 آذار، يتسع وتتهاوي جدرانه من حولنا. عبر عدسات الهواتف المحمولة وشاشات المحطات التلفزيونية الفضائية وأجهزة الكومبيوتر، نتلقي الصور والاخبار عما يحدث في درعا واللاذقية وحمص وحماة، وعن الانتفاضات في بنغازي وطرابلس الغرب وصنعاء وتعز وعدن، من دون ان يتوقف رنين هواتفنا المحمولة وتبادلنا الرسائل الالكترونية عبرها، والمدونات والاشرطة المصورة عبر شبكة الفايسبوك. صبيحة الجمعة، الاول من نيسان، التقينا عشرات من شبان بانياس وريفها في ساحة السنتر، فشرعنا نقيم منصة في جانب منها، ونصبنا مكبرات للصوت في زواياها، غير عابئين بقدوم رجال الامن وتهديداتهم ووعيدهم، فأحضروا رئيس البلدية وبعض الوجهاء الذين حاولوا عبثاً ثنينا عن تجهيز المنصة التي ما ان انتهينا من تجهيزها حتي اعلنّا من علي خشبتها عبر مكبرات الصوت ان اسمها سيصير، منذ اليوم، ساحة التحرير في بانياس، فعلا التصفيق والهتاف والتكبير باسم الله وسوريا والحرية. حتي موعد صلاة الظهر، لم نتوقف عن التنقل ما بين المساجد والساحة، مستطلعين، تهيّؤاً لخروجنا مع جموع المصلين في تظاهرات تلتقي في ساحة السنتر - التحرير. كان رجال الأمن يترصدوننا ويرصدون تحركاتنا، لكن خوفنا منهم راح يتلاشي في قوة شعورنا الغامر بكثافة الزمن، زمننا الآني والآتي، وسيولته في الاماكن التي ننتقل بينها، كأننا للمرة الاولي نكتشفها ونشعر بحضورنا فيها. كلما كان الوقت يقترب من موعد صلاة الظهر، كانت تتكاثف حركة الناس في توجههم الي المساجد، سيرا علي اقدامهم وفي السيارات، قادمين من احياء المدينة وقراها القريبة والبعيدة. نحن الشبان الناشطين توزعنا ما بين الساحة والمساجد التي راحت تكتظ بالمصلين، قبل خروجهم مصممين علي التظاهر وصولا الي الساحة التي بلغ عدد المحتشدين فيها ما لا يقل عن 15 الفاً مصفقين عالياً بأيديهم المتراقصة، فيما هم يهتفون للحرية ولوحدة الشعب السوري الذي يريد اسقاط النظام. ثم تتالت كلمات الشبان الناشطين من علي المنصة، معلنة سلسلة جديدة من الشعارات والمطالب مختلفة عن تلك المحلية التي أُعلنت في تظاهرة الجمعة الاولي، في ساحة دوار البلدية، وامام مقر جهاز امن الدولة. كلمة الحرية والهتاف المتواصل لها ولوحدة الشعب السوري، تصدّرت سلسلة المطالب الجديدة: الغاء قانون الطواريء، وسيطرة الحزب الواحد، وتسلط الأجهزة الامنية علي الدولة والمجتمع، واطلاق التعددية الحزبية. بعد إعلان المطالب، صعد الي المنصة شاب من منظمي التظاهرات ومتصدّريها في بانياس وهو في السادسة والعشرين من العمر، وصار شيخاً معمماً وخطيب مسجد، بعد خروجه علي الصوفية، ودراسته علوم الشريعة والاقتصاد الاسلامي في أحد المعاهد الدينية فأذاع نشرة أو تقريراً عن التظاهرات التي خرجت في المدن والمناطق السورية. حماسته ورغبته في إشعال حماسة المتظاهرين المحتشدين في الساحة، حملتاه علي تضخيم أحجام التظاهرات وشمولها سائر المدن والمحافظات، معلناً أن المتظاهرين قرروا عدم إخلاء الساحات والشوارع، والاعتصام الدائم فيها، حتي إسقاط النظام، وأن علينا في بانياس أن نفعل مثلهم، فنعتصم في ساحة التحرير، فتعالت الهتافات صاخبة في أرجاء الساحة، مردّدة شعار: اعتصام، اعتصام، حتي إسقاط النظام. ولأن الاتصالات الهاتفية ما بين المدن والمحافظات السورية، كانت قد قُطعت وفُصلت شبكة كل محافظة عن الاخري، غادرتُ الساحة متجهاً الي بيتي، لأتحقق مما أعلنه الشيخ الشاب من نشرات الاخبار في الفضائيات التلفزيونية. خفت وحرت في أمري لمّا تبيّن لي أن أخبار الفضائيات تُجمع علي أن التظاهرات اقتصرت علي مدينتنا ومدن درعا واللاذقية وحمص ونواحٍ من ريف دمشق، وليس في الأحجام المهولة التي ذكرها الشاب، وما من ذكر قط للاعتصام الدائم في الساحات. في طريق عودتي مسرعاً الي الساحة، فوجئت بمصادفتي في الشوارع جموعاً من الناس حاملين مستلزمات الاعتصام، من حصر وفرش وأغطية ومآكل. لكن مفاجأتي تحولت إلي دهشة حين وصلت الي الساحة ورأيت عدداً من الخيم والشوادر منصوبة في وسطها. أدهشتني سرعة الناس في إحضار هذه المستلزمات كلها من بيوتهم. وقبل أن أفكر في سهولة استجابتهم لأمر يدركون خطورته، هالني المشهد في حيويته الاحتفالية التي لم أرَ وما شعرت قط بمثلها طوال حياتي، كأنني في بلد آخر وحياة أخري: ألوف من الأهالي يموجون في الساحة والشوارع حاملين الأمتعة، وجموع تنصب الخيم، وأخري تفترش الأرض، ومنصة وخطباء ومكبرات صوت تنطلق منها هتافات وأهازيج، في عصر نهار ربيعي، ولا خوف في سوريا "القسوة والصمت" البعثيين والأسديين، منذ وعيت علي الدنيا في بانياس، بل ورثتهما عن أهلي وسائر الناس في مدينتي. كأن ما كان يستحيل تخيله في سوريا هذه، ولا يخطر في المنامات واحلام اليقظة، تجسد فجأة وبلمح البصر في ساحة عامة مستلهماً صور ما حصل قبل شهرين في ميدان التحرير في القاهرة، وساحة التغيير في صنعاء. فجأة إقترب مني صديقي الناشط أنس الشغري، وخائفاً سألني عما سمعته في نشرات الأخبار التلفزيونية عن حجم التظاهرات في المدن والمحافظات السورية، وعن حقيقة الدعوة إلي الاعتصام الدائم في الساحات، فأطلعته علي ما سمعت. قال لي إن شكوكه في ما أعلنه ودعا إليه صاحبنا من علي المنصة، قد تأكدت، وأوكل إليّ مهمة الصعود إلي المنصة، وإيجاد طريقة مناسبة لدعوة الناس إلي عدم الاعتصام في الساحة. كنت خائفاً وحائراً في ما أقول. وحين امسكت الميكروفون، بدأت كلامي قائلاً إن علينا أن نكون حكماء، فلا ننساق خلف عواطفنا التي قد تفضي بنا إلي تهور يجرنا إلي مأساة في حال إصرارنا علي اعتصام مفتوح لم يحن وقته بعد. فدرعا التي يبلغ عدد سكانها مليونين ومئتي ألف نسمة، وكذلك اللاذقية التي يبلغ عدد سكانها مع ريفها مليوني نسمة، لم يعتصم أهلهما في الساحات، فكيف نقدم نحن في بانياس علي الاعتصام في هذه الساحة، بينما لا يتجاوز عدد سكان مدينتنا ما نسبته 0,5 في المئة من سكان سوريا؟! قبل أن أنهي كلمتي، هجم جمع من الشبان علي المنصة وأنزلوني عنها، وحاولوا ضربي، بعدما انتزع أحدهم الميكروفون من يدي وأخذ يؤكد ضرورة الاعتصام ويشجع المتظاهرين ويحمسهم عليه. وهذا ما أدي إلي إنقسام في الرأي بين المتحشدين، فدار لغط ومناقشات حامية ما بين الشبان الناشطين، وفي حلقات الذين أحضروا أمتعتهم وباشروا الاعتصام، وغيرهم من الحائرين المترددين. علي هذه الحال إستمرت اوضاع الناس ومواقفهم حتي حلول المساء، من دون ان تغادر الساحة إلا قلة قليلة منهم. بعد صلاة العشاء في الساحة، بدأت ترد أخبار من المحافظ في طرطوس - وهي مركز المحافظة التي تشمل بانياس تفيد بأن رجال الأمن سوف يهاجمون الساحة لفض الاعتصام بالقوة، في حال استمراره إلي ما بعد منتصف الليل. لذا تفاقم الانقسام واللغط والمناقشات ما بين المعتصمين، فيما حاولنا، نحن الشبان الناشطين، أن نساعد الأهالي المصرين علي الاعتصام، علي تقبل فكرة فضه والانصراف إلي بيوتهم، علي أن نواصل التظاهر في الأيام التالية. كنت أقف بين جمع من الرجال العاميين البسطاء، محاولاً إقناعهم بتفكيك خيمة نصبوها في جهة من الساحة، حينما هب أحدهم لمواجهتي قائلاً: أنت غني، أما نحن الفقراء فلا نحصّل ما يكفي لطعامنا، لذا نعتصم ولن نغادر الساحة. وحتي الساعة الحادية عشرة ليلاً، كان ما لا يقل عن 10 آلاف شخص حاضرين في الساحة، فدعونا الشيخ أنس عيروت من بيته لمساعدتنا في إقناع الناس بفض الاعتصام، فأتي الشيخ وألقي كلمة مطولة، قبل أن ينزل عن المنصة ويروح يتنقل بين أصحاب الخيم المنصوبة في الساحة، ويدعوهم الي تفكيكها والانصراف الي بيوتهم. استمر الحال علي هذا المنوال حتي ما بعد منتصف الليل بقليل، حينما بدأت الساحة تفرغ رويداً رويداً من أواخر المعتصمين، فقمنا، نحن الناشطين، بتنظيف الساحة والشوارع المؤدية اليها والقريبة منها، ثم انصرفنا الي بيوتنا، فيما كانت دوريات رجال الأمن تجوب الشوارع في بعض نواحي المدينة، بعيداً من الساحة. هلع الفجر وقتلي النهار بعد وقت قليل من وصولي الي بيتنا في حوالي الساعة الثانية من ليلة الجمعة السبت تلك، انقطع التيار الكهربائي وجميع أنواع الاتصالات عن بانياس، فدب الذعر في نفوس الأهالي الذين كان معظمهم لا يزال ساهراً في البيوت. خرجت من بيتنا وجلت في الشوارع القريبة المعتمة التي سرعان ما راح يتكاثر فيها رجال وشبان وفتيان أخرجهم من بيوتهم الخوف من توقع هجوم رجال الأمن والشبيحة علي أحياء المدينة. همهمات وأصوات عارية إلا من الهلع، أخذت تتعالي وتتجاوب أصداؤها وتتلاشي في عتمات الشوارع وبين البيوت الملطخة جدرانها بظلال شبحية لبشر يتدافعون من بيوتهم حاملين مصابيح يدوية. صغيرة، وترسل أضواء مستطيلة، تشع في ظلام جعل البشر وظلالهم، فيما هم يهتفون: الله اكبر، الله أكبر، كما البشر في أزمنة السبي والحروب البدائية القديمة. ظل هذا الهتاف يتردد متباعداً في أرجاء المدينة، مع تكاثر الناس علي مداخل الأحياء، وسريان شائعات عن أن الهجوم الأمني سيبدأ عند الفجر. موجات هلع الأهالي بعثت في مخيلتي صور مقتلة حماه في العام 1982 بعض من العائلات تراكضت نحو المساجد للاحتماء فيها، فعلا التكبير من المآذن بأصواتٍ مذعورة. بعض من الشبان والرجال أقاموا حواجز علي مداخل أحيائهم السكنية، مستعملين حجاراً وأخشاباً وبقايا معادن مهملة، وحاملين قطعاً وقضباناً من الحديد، وما توافر من بنادق الصيد والبومب اكشن ورشاشات الكلاشنيكوف والسيوف والخناجر القديمة، للدفاع عن أحيائهم وبيوتهم. أما بعض من صيادي الأسماك في ميناء المدينة، فاستعمل خبرته في الصيد بالديناميت، وجهز متفجرات من الأسمدة الزراعية التي يستعملها المزارعون في تسميد شتول البندورة في خيم البلاستيك المنتشرة بكثافة في السهل حول المدينة وفي قراها القريبة. عند صلاة الصبح في المساجد، قام مجند سابق في الجيش. وهو من الشباب الناشطين في التظاهرات بجولة سريعة في المدينة، فمر في ساحاتها، ثم عاد الي مداخل الأحياء معلناً للرجال والشبان علي الحواجر، أنه لم يبصر أثراً لرجال الأمن والشبيحة، وأن لا شيء ينبئ بهجومهم المتوقع، فبادر كثيرون من الرجال والشبان الي نزع الحواجر، من دون أن يغادروا مداخل الأحياء ويأووا الي بيوتهم. لكن في حوالي الساعة الخامسة فجراً، فوجئ الناس بسبع سيارات مليئة بعناصر أمن مسلحين، تنطلق في سرعة قصوي في بعض من الشوارع، مطلقة زخات متتالية من الرصاص العشوائي في اتجاه البيوت والبنايات. كنت في جامع القبيات، فخرجت منه بعد هنيهات من سماعي رشقات نارية، فلمحت سيارة الأمن تبتعد مسرعة، تاركة خلف المسجد أربعة جرحي إصاباتهم طفيفة في أرجلهم أو أذرعهم، فنقلوا الي أحد مشافي المدينة. لكن إطلاق زخات الرصاص العشوائي لم يتوقف، فإحدي سيارات الأمن خلّف مرورها قرب جامع أبو بكر الصديق ثلاثة جرحي آخرين، منهم أسامة الشيخة الذي توفي بعد أسبوع في المستشفي، متأثراً بجروحه البالغة. بعض من الرجال والشبان أطلقوا النار من بنادق الصيد والبنادق الحربية القديمة علي سيارات رجال الأمن التي مرّت مسرعة وأطلقت زخاتٍ من الرصاص علي البيوت، من دون أن يعلم أحد من الأهالي إن كان أي من رجال الأمن قد أصيب. استمرت غاراتهم السيارة ورشقات نيرانهم العشوائية الغزيرة علي البيوت، حتي حموة الشمس علي شوارع المدينة شبه المقفرة والمزروعة بالخوف وأزيز الرصاص وبأصدائه المدمدمة. وفي حوالي الساعة العاشرة بدأت تبتعد أصوات الرشقات النارية وتتخافت أصداؤها، بعد مواجهة حصلت علي الأوتوستراد عند طرف المدينة، بين مجموعة من شبانها المسلحين ورجال الأمن والشبيحة المنسحبين في سياراتهم التي تركوا منها إثنتين علي الأوتوستراد وفروا في السيارات الخمس الأخري. وهذا ما حمل جموعاً من شبان بانياس ورجالها علي إدخال السيارتين الأمنيتين الي ساحة السنتر التحرير، وإضرام النيران فيهما، فكتبوا علي إحداهما، بعد احتراقهما وخمود النار فيها: انتبه أنت في بانياس لا في إسرائيل. ابتداء من الساعة الثانية ما بعد ظهر السبت، 2 نيسان، أخذت مجموعات من رجال الأمن والشبيحة تتكاثر في حي القوز العلوي علي طرف المدينة، قريباً من محلة تدعي رأس النبع. وبعد حوالي نصف الساعة شاهد الأهالي وحدة من الجيش النظامي تتقدم علي الأوتوستراد، وتتوقف غير بعيد من رأس النبع. لم تكن الوحدة التي يبلغ عدد جنودها نحو المئة، تستعمل دبابات ولا مصفحات، بل سيارات عسكرية صغيرة وناقلات جند، وعلي رأسها عقيد، شاع بين الأهالي أنه حرّك الوحدة من دون أمر عسكري من قيادة الجيش، بل بالتعاون مع أجهزة الأمن والشبيحة، وكي يظهر ولاءه للقيادة السياسية العليا في البلاد، وينال حظوتها. وسرعان ما أخذ جنود الوحدة العسكرية الذين شوهد بعضهم عراة الصدور إلا من قمصان داخلية بيضاء يطلقون النار، تارة في اتجاه رأس النبع وحي القوز العلوي، وطوراً في اتجاه حي القلعة السني الذي يتوسطه جامع الرحمن. ثم شرع رجال قناصون من الشبيحة والأمن باطلاق نيران قناصاتهم علي حي القلعة، من حيث يتمركزون علي سطوح البيوت في حي القوز، فدار إطلاق النار بين الحيين، العلوي والسني، وشارك فيه جنود الوحدة العسكرية. وحتي الساعة السابعة مساء، كان قد قتل من شبان حي القلعة أربعة شهداء، وجُرح خمسة آخرون من الاهالي، فنقلوا، وسط انطلاق التكبير من مساجد بانياس، الي المستشفيين في المدينة. وفي الأثناء، وفقاً لرواية شاب أعرفه، أطلق العقيد، قائد الفرقة العسكرية، النار علي ستة من جنوده رفضوا أوامره، فأردي ثلاثة منهم، وجرح ثلاثة آخرين، قبل أن يبادر أحد الجنود بإطلاق النار علي العقيد. وروي الشاب أيضاً أنه استطاع، مع رفاقه، نقل الجنود الجرحي الي المستشفي الحكومي، قبل أن يهاجمه رجال الأمن والشبيحة، ويقتلون الجرحي فيه، ويحتلونه ويحولونه مقراً أمنياً أو عسكرياً لهم. أما المستشفي الآخر في بانياس وهو بدائي التجهيز، ويدعي "مستشفي البر والخدمات الاجتماعية"، وتديره جمعية أهلية فاكتفي رجال الأمن والشبيحة باطلاق رصاصات من بنادقهم عليه بين وقت وآخر. وهذا ما حمل شباناً من المدينة علي وضع شاحنتين أمامه، لحمايته من الرشقات النارية. في نشرة أخبار التلفزيون السوري الرسمي التي تذاع في الثامنة مساء، قال بيان عسكري إن ضابطاً من الجيش قتل في بانياس، وإن ضابطاً آخر أصيب وبترت رجلاه. والضابط هذا روي في مقابلة مصورة بثها التلفزيون السوري مساء الأحد 3 نيسان، أن أحد الشبان "القبضايات" في بانياس هاجمه بحزمةٍ من الديناميت قذفها داخل سيارته. وبلهجته العلوية الموصوفة التي لا تخفي علي السوريين، قال الضابط المبتور الرجلين: "قرد، بحياتي ما شفت هيك قوة قلب. فتح (الشاب) باب السيارة (التي كنت في داخلها) وحط ضرب الديناميت، وسكر الباب، وهرب، يا قرد". الحصار ومغادرة العلويين مساء ذلك السبت، 2 نيسان، خلا حيا العلويين في بانياس، القصور والقوز، خلوا تاماً من سكانهما الذين نزحوا من بيوتهم الي قراهم في جبلهم القريب. وفي المساء نفسه، وحتي ساعة متقدمة من الليل، دارت اتصالات مكثفة ما بين جهات عليا في الدولة وبعض من كبار ضباط الجيش ومحافظ طرطوس من جهة، ورئيس بلدية بانياس وبعض من رجال الأعمال والتجار فيها علي صلات ما بالسلطة وأجهزة الأمن، بينهم تاجر مثَّل الشيخ أنس عيروت الذي رفض المشاركة في المفاوضات، من جهة أخري. اتفق الطرفان علي انسحاب أجهزة الأمن من بانياس، ودخول الجيش النظامي اليها، وتوقف الأهالي عن التظاهر في المدينة التي جلا عنها فعلاً رجال جهاز أمن الدولة، حاملين أثاثات مقرهم قبل قفله. وفي صبيحة نهار الأحد قدمت الي محلة رأس النبيع وحدة عسكرية صغيرة، وأخلت جثث الجنود الثلاثة الذين قتلهم العقيد أمس، بعد رفضهم أوامره. صبيحة نهار الاثنين، 4 نيسان، انتشرت قوة عسكرية كبري من الجيش، بدباباتها وآلياتها، علي أطراف المدينة وتخومها، من دون أن تدخلها. وحين حاولت الدبابات التقدم الي داخل المدينة للتمركز فيها، خرجت جموع من الاهالي الي الشوارع في تظاهرات تصدّت لدخول الدبابات التي عادت أدراجها وتمركزت خارج المدينة. أما قوات الأمن والشبيحة التي خرجت من بانياس، فأقامت حواجز علي جميع الطرق المؤدية اليها، ضاربة حولها حصاراً، ومانعة إدخال المؤن اليها، مع قيامها بحملة خطف واعتقال لكل من يدخلها ويخرج منها. لذا شلت دورة الحياة في المدينة، وأقفلت معظم المتاجر في سوقها، وتوقف العمل في مؤسساتها وإداراتها الحكومية العامة، لأن معظم موظفيها من العلويين الذين لم يبقَ منهم أحد في بانياس. أما المدارس فأقفلت أبوابها ايضاً، فيما دفع الخوف والحصار بعضاً من العائلات السنية الي مغادرة المدينة، برغم خوفها من الحواجز الأمنية التي اختطفت أو اعتقلت شباناً من هذه العائلات. الجمعة الرابعة: جنازة الشهيد الأول بعدما جلت الأجهزة الأمنية عن بانياس، وأخلي رجالها مقارهم من محتوياتها وقفلوا أبوابها ليلة الجمعة السبت 2 نيسان، عاش أهالي المدينة في حال من القلق والحيرة والترقب، يخالطها شعور غريب وجديد بالتحرر من سطوة تلك الأجهزة ورقابتها المزمنتين. فالتحرر هذا كان محاصراً بحواجز رجال الأمن علي الطرق المؤدية الي المدينة، فيما وحدات من الجيش ودبابته ترابط علي تخومها وتحاصرها. كل شيء كان جديداً علينا في تلك الأيام الاولي من نيسان. حتي ضوء النهار في الشوارع وعلي البيوت كان جديداً وغريباً، كأنه يطيل مكوثه في الأماكن، كالأصوات التي صارت أشد وضوحاً ومتطاولة الأصداء في أسماعنا، فيما نحن ننشط لحشد المتظاهرين وتسيير التظاهرات اليومية. في نهار من تلك النهارات دُعينا، نحن مجموعة من الشبان، الي حضور اجتماع في منزل تاجر ميسور في بانياس. ضم الاجتماع زهاء 50 شخصاً من وجوه العائلات ورجال الأعمال والتجار المعروفين بعلاقاتهم المتفاوتة ببعض أركان الحكم ومقدمي الأجهزة الأمنية. وحضر أيضاً أعضاء المجلس البلدي ورئيس البلدية. وجمع من الأطباء والمهندسين ومدرسي الجامعة. كنا نحن الشبان نعلم مسبقاً أن لدي الداعين الي الاجتماع تفويضاً من مقدمي أجهزة الأمن المركزي في طرطوس، وأنهم مكلفون بالعمل علي تهدئة الوضع في المدينة، وبحملنا علي العزوف عن التظاهر. بعد زهاء ساعتين من المناقشة وتبادل الرأي انفض الاجتماع الذي تعهد فيه بعضنا، نحن الشبان، علي مضض، بوقف التحريض علي التظاهر والدعوة اليه، فيما ظل آخرون منا صامتين، كناية عن رفضهم هذا التعهد. في النهار الذي تلا الاجتماع، غادر معظم الأطباء المدينة، بعدما وصلتهم من جهاتٍ في نقابتهم تهديدات بسحب ترخيص ممارسة المهنة من كل طبيب يقدم علي معالجة أحد "الإرهابيين". أما الأطباء القلة الذين لم يغادروا ومكثوا في المستشفي الحكومي، فتعاونوا مع رجال الأمن والممرضين علي تعذيب الجرحي والتنكيل بهم، بحجة أنهم "متآمرون علي النظام". حتي المرضي العاديين حرموا من الرعاية الطبية. وحين نقل سائق تاكسي طفلة تعاني من انحلال في الدم الي المستشفي، قام رجال الأمن المرابطون فيه باعتقال السائق، والتحقيق مع أم الطفلة، فامتنع أصحاب سيارات التاكسي عن نقل المرضي والمصابين. والشاب الذي قام بنقل أخيه المصاب بفشلٍ كلوي علي دراجته النارية الي المستشفي، أعتقل بدوره مع أخيه المريض. بعد صلاة الجمعة 8 نيسان، خرجت من مسجد أبو بكر الصديق تظاهرة صغيرة، شارك فيها ما بين 200 و300 من الشبان، بعضهم من بانياس وكثيرون منهم من بلدتي البيضا والبساتين القريبتين. وفي الطريق الي ساحة السنتر التحرير، انضم الي المتظاهرين زهاء 60 شاباً. لم يمكث شبان هذه التظاهرة الصغيرة وقتاً طويلاً في الساحة، فغادروها قبل صلاة العصر. لكن وفاة أسامة الشيخة في المستشفي فجر الاثنين 11 نيسان، متاثراً بجروحه الخطرة جراء إصابته برصاصات رجال الأمن العشوائية التي أطلقوها في الشوارع قرب جامع أبو بكر صبيحة 2 نيسان، جدّدت غضب أهالي بانياس وغيرها من القري، وسخطهم، معتبرين أن الشاب الجريح ربما تُرك يموت من دون علاجٍ في المستشفي. لذا خرج أكثر من 10 آلاف شخص في جنازة الشيخة. فبعدما نُقل جثمانه، صباح الاثنين، الي بيت أهله في قريته القريبة، البساتين، انطلق منها موكب تشييعه، عابراً في القري التي خرجت جموع من أهلها وأنضمت الي الموكب الذي أخذ يكبر ويكبر في الطريق الي جامع أبو بكر في بانياس، حيث صُلّي علي الجثمان، وانطلقت الجنازة مجدداً في شوارع المدينة. كان قد سبق الشيخة في الاستشهاد أربعة شبان قضوا في إطلاق رجال الأمن رصاص بنادقهم العشوائي علي حي القلعة، بعد ظهر السبت 2 نيسان، فدفنوا في النهار التالي. لكن وفاة الشيخة بعد أسبوع من إصابته، ومن تحرر بانياس من القبضة الأمنية وحصارها من خارجها، حملتنا علي اعتباره شهيدها الأول، مما حوّل جنازته تظاهرة كبري سارت الي مثواه الأخير في قريته البساتين. موكب التشييع ذ كبري في حمص وداريا ودوما في ريف دمشق، ألهبت حماسة أهالي بانياس، وبعثت فيهم العزم علي مواصلة التظاهر، برغم تردد فئة منهم، فضّلت التريث والانتظار. الجمعتان الخامسة والسادسة: النساء في الشوارع بعد صلاة ظهيرة الجمعة 15 نيسان، خرجت من مساجد بانياس الي ساحة السنتر التحرير، تظاهرة حاشدة. مكث المتظاهرون في الساحة حتي أقاموا صلاة العصر، فألقي مثقفون إسلاميون وليبراليون ويساريون كلمات دعوا فيها الي مواصلة التظاهر حتي إسقاط النظام، فخرجت ظهيرة الثلاثاء 19 نيسان تظاهرة اخري كبري تجمعت روافدها في الساحة نفسها التي كانت علي موعد مع استمرار التظاهر ظهيرة الجمعة 22 نيسان، ومع خروج النساء للمرة الأولي الي شوارع بانياس، متظاهرات في جموع منفصلة عن الرجال. امرأة في الثلاثين من عمرها وقفت خطيبة في النساء المحتشدات في ناحية من الساحة، فدعتهن الي مواصلة المشاركة في التظاهر، والي الخروج غدا السبت في تظاهرة نسائية، دعماً لأهالي درعا وإحياء لذكري شهدائها، واحتجاجاً علي هجوم الجيش عليها وعلي اللاذقية التي يتعرض أهلها للقتل اليومي أيضاً. في ظهيرة السبت 23 نيسان، احتشدت جموع من نسوة بانياس وقراها القريبة متظاهرات في ساحة التحرير، من دون مشاركة الرجال. وفي أثناء التظاهر إتصل بعض من أهالي مدينة جبلة بأقاربهم ومعارفهم في بانياس، وقالوا إن مدينتهم تتعرض لهجوم عسكري، فتداعي أهالي بانياس الي التظاهر غداً، الأحد 24 نيسان، الذي خرجوا في صبيحته جموعاً من رجال ونساء وشبان وشابات، وتوجهوا الي الأوتوستراد الذي يعبر في طرف مدينتهم، ويشكل شريان حركة المواصلات ما بين اللاذقية شمالا وطرطوس جنوباً علي الساحل السوري. عطلت الحشود حركة السير علي الأوتوستراد، لكن النساء وحدهن مكثن محتشدات في وسطه حتي المساء، احتجاجاً علي العملية العسكرية في جبلة. الجمعة السابعة: خوف وتظاهرات ليلية بعد تظاهرة الأوتوستراد، أخذت تصل الي بانياس تهديدات مصدرها المحافظ في طرطوس، وتفيد بأن ساحة السنتر التحرير ستتعرض لهجوم رجال الأمن، في حال استمرار التظاهر. ومع التهديدات أُشيع أن المحافظ علي استعداد لتلبية ما يريده أهالي بانياس من المطالب، برغم استيائه من خرقهم تعهداتهم السابقة بعدم التظاهر. وحين طالبنا بإطلاق سراح معتقلي جبلة الذي يبلغ عددهم زهاء 70 شخصاً، وعد المحافظ بإطلاقهم بعد نهار الجمعة 29 نيسان، حالما يعلم بأننا لم نخرج الي التظاهر. إذذاك إشترطنا بأن يعتذر المحافظ علناً في وسائل الاعلام، من أهالي جبلة وبانياس. كنا موقنين أن مطلبنا هذا مستحيل، وأخذنا ننشط في الاعداد لتظاهرة الجمعة المقبلة، وسط تكاثف شائعات عن عزم رجال الأمن علي اقتحام ساحة التحرير. لذا قررنا نقل التظاهر الي ساحة دوار البلدية التي شهدت تظاهراتنا الأولي. وبرغم خوفهم من التعرض للخطف او الاعتقال علي حواجز رجال الأمن خارج بانياس، أقدم بعض من عائلاتها علي مغادرتها الي طرطوس وحلب ودمشق، خائفين من تعرض مدينتهم لإقتحام أمني وشيك. لكن الخوف لم يقلل من عزمنا علي تشجيع الأهالي علي التظاهر، ولطمأنتهم وضعنا، مع مجموعات منهم، خطة لحماية المتظاهرين في الساحة وفي الشوارع المؤدية اليها، حيث توزعت حواجز من الشبان والرجال يحملون العصي والسلاح الابيض، من خناجر وسكاكين وسيوف وقضبان من الحديد، إضافة الي بعض من بنادق "البومب أكشن" والكلاشينكوف في مواضع خلفية، لاستعمالها في حال تنفيذ رجال الأجهزة الأمنية تهديدات المحافظ باقتحام الساحة وإطلاقهم النار علي المتظاهرين. والحق أن الخوف وتوقع الهجوم، دفعا زهاء 15 الف شخص من أهالي بانياس وقراها، وخصوصاً من بلدة البيضا والبساتين، الي الاحتشاد في مساجد مدينتنا للصلاة في ظهيرة الجمعة 29 نيسان، قبل اندفاعهم الي الشوارع متظاهرين في اتجاه ساحة دوار البلدية، وهاتفين بحماسة غير مسبوقة لله وسوريا وللحرية، ولاسقاط النظام. علي خلاف التظاهرات السابقة، لم تستغرق تظاهرة الجمعة هذه أكثر من 3 ساعات، تفرقت الجموع بعدها، وخلت الساحة تماماً من الناس. في الأيام التي تلت تظاهرة هذه الجمعة في 29 نيسان، استمر خروج التظاهرات يومياً الي شوارع مدينتنا، فيما كانت بلدة البيضا وغيرها من القري القريبة منها، تتعرض لهجوم امني وعسكري كبير، فتصل الينا اخباره اليومية مع تكاثر الأقاويل والشائعات عن اقتراب موعد اقتحام بانياس التي اخذت تخرج جموع من شبانها واهلها في تظاهرات ليلية مدفوعة بالقلق والخوف من البقاء في البيوت، ودفعاً للقلق والخوف. الهجوم علي البيضا كانت الاجهزة الامنية تعلم ان شبان بلدة البيضا التي تبعد عن بانياس زهاء 10 كلم، ويقيم كثيرون منهم في مدينتنا، هم الشبان الانشط في تحريك التظاهرات وحشدها وتنظيمها. وكان محافظ طرطوس قد بعث الي اجتماع الوجهاء الاخير في بانياس، لائحة باسماء زهاء 300 شاب من شبان البيضا، مطالباً بتسليمهم الي الجيش، متعهدا باطلاق سراحهم، بعد الحصول علي افاداتهم، باعتبارهم من اطلقوا النار علي الجنود الذين قتلوا في محلة رأس النبع في 2 نيسان، ويعلم اهالي بانياس ان العقيد، قائد وحدتهم العسكرية، هو الذي اطلق النار عليهم، بعد رفضهم اوامره باطلاق النار علي حي القلعة. وبحجة عدم استجابة اهالي البيضا وبانياس طلب المحافظ والجيش، بدأت وحدات عسكرية وامنية وزمر من الشبيحة بالهجوم علي البيضا، بعد تظاهرة بانياس الحاشدة نهار الجمعة 29 نيسان. مهّد الجيش للهجوم بقصف مدفعي كثيف علي البلدة، قبل ان تدخلها وحداته التي قال جنودها للأهالي ان هدفهم مصادرة السلاح الذي استعمله شبان من بلدتهم في قتل الجنود في بانياس. هذا بعدما كان القصف المدفعي قد قتل رجلاً من الاهالي قرب بيته، وآخر في حي النصاري علي طرف البلدة. وسط تقدم الجنود واطلاقهم نيران بنادقهم الرشاشة في الطرق وعلي البيوت، يتبعهم رجال الامن والشبيحة الذين بدأوا باعتقال الرجال عشوائيا وضربهم وشتمهم، فر شبان البيضا من بيوتهم هاربين الي الحقول والبساتين. استمرت هذه الاعمال ساعات انتهت بجمع زهاء 300 رجل من الاهالي في ساحة بلدتهم، بعدما دخل رجال الامن والشبيحة من القري العلوية القريبة، الي البيوت وأطلقوا النيران علي اثاثاتها ثم حطموها، ونهبوا مدخرات اصحابها المالية التي قدِّرت، لاحقا، بمئة مليون ليرة سورية ومليونين من الدولارات الاميركية، اضافة الي مجوهرات النساء. استمر احتجاز الرجال في ساحة البيضا ليلة كاملة منطرحين ارضا، مقيدي الايدي والارجل، فيما رجال الامن والشبيحة ينهالون عليهم رفساً بأقدامهم، وضربا بالعصي وبأعقاب البنادق، شاتمين امهاتهم ونسائهم وبناتهم واخواتهم أقذع الشتائم. وبين وقت وآخر من تلك الليلة المعتمة ذ من القري القريبة كان رجال الامن والشبيحة يعتلون ظهور الرجال المرميين ارضاً، متقافزين عليها هاتفين صارخين: الله وسوريا وبشار وبس، ثم يقومون بجر بعض الرجال من ارجلهم، مسددين الي رؤوسهم رفسات من اقدامهم علي وقع صرخاتهم: بدكن حرية يا منايك، بدكن حرية؟! خوذ حرية ولاه، خوذ ولاه خنزير. وفي اثناء نوبات الرفس هذه والقفز علي الظهور، كان هذا او ذاك من رجال الامن والشبيحة ينادي قائلا للآخر: شوف هالخنزير هاد، شوف. ليك هالخنزير هاد، ليك هالكلب ابن الكلب، يا قرد، قال بدو حرية، قال... خوذ حرية يا حيوان... خوذ... مش عارف انو بشار ربكم، ولاه؟! مع انبلاج الفجر انهي رجال الامن والشبيحة افعالهم هذه، باحضار عدد من الباصات الي ساحة البيضا. وبعدما افرغوا من مثاناتهم البول علي اجسام الرجال ورؤوسهم وفي افواههم، فكوا ايديهم وارجلهم المقيدة، وأدخلوهم الي الباصات، ثم ساروا بهم متجهين الي القري العلوية التي خرجت جماعات من اهلها الي الطرق لاستقبال رجال البيضا بنوبات جديدة من طقوس الاهانات والشتائم والتشفي والتنكيل. فما ان كانت الباصات تصل الي هذه القرية العلوية او تلك، حتي يصعد اليها جمع من نسائها ورجالها وشبانها، فينهالون علي الرجال المعتقلين او الاسري بأقذع الشتائم، باصقين علي وجوههم التي تروح قبضات بعض شبان القري تنهال عليها بلكمات الحقد وسط زغردات النسوة، وصرخات رجال الامن والشبيحة المتهكمة، فيما يصرخ هذا الشاب او ذاك برجال الامن قائلا: اعطونا هذا الراس لنذبحه، شقد حق هالراس، شقد؟ عشرة آلاف؟ هاي عشرة آلاف، عطونا ياه لنذبحو. حتي الظهيرة استمرت جولة المهانة والحقد هذه في القري العلوية، فقاد رجال الامن والشبيحة الباصات برجال البيضا الي فرع الامن العسكري في طرطوس، حيث بدأت من جديد نوبات تعذيبهم مع زهاء مئة رجل وشاب من بانياس كان رجال الامن قد اعتقلوهم علي الحواجز والكمائن التي نصبوها علي الطرق المؤدية اليها. وفي سجون الامن العسكري والسياسي بطرطوس، تعرض بعض الرجال والشبان الاربعمئة المعتقلين لتعذيب منهجي، فكسرت ارجل كثيرين، ونُتف الشعر من ذقون الذين يطيلون لحاهم، وفقئت عيون ما لا يقل عن خمسة رجال. صبيحة النهار التالي خرجت نسوة البيضا من بيوتهن في البلدة، وسرن علي اقدامهن مسافة تزيد اربعة كيلومترات، حتي بلغن الاوتوستراد القريب من بانياس، التي خرجت مجموعات من نسوتها ايضا، فاشتركن مع نساء البيضا في تعطيل حركة السير علي الاوتوستراد طوال النهار. وعند العصر وصل محافظ طرطوس في سيارته، ووعد النساء المعتصمات باطلاق سراح رجال البيضا وبانياس الاربعمئة. لكن النسوة لم ينهين اعتصامهن، الا بعدما علمن بأن الرجال أطلق سراحهم فعلاً بعد هبوط الظلام. وحينما وصلت نسوة البيضا الي بيوتهن وجدن رجالهن محطمين، وكثيرين منهم ترك التعذيب تشوهات في وجوههم واجسامهم. وفي صبيحة النهار التالي جاء جمع من رجال القري العلوية الي البيضا لتقديم اعتذار لأهلها الذين اعتكفوا في بيوتهم، رافضين استقبال رجال الوفد العلوي وقبول اعتذاره. ترويع المسيحيين وقتيلات المرقب هجوم وحدات من الجيش علي البيضا، افتتح هجمات مماثلة علي قري بانياس، وعلي بانياس المدينة. مهّد الجنود لدخولهم القري المسيحية أولاً، كظهر صفرا والروضة، بإطلاقهم عليها رشقات من نيران أسلحتهم الرشاشة، فاختبأ الأهالي في بيوتهم، واندفعت الي القري مجموعات من رجال الأمن والشبيحة. مشاة من دون آليات اندفعوا في الطرق بين البيوت مطلقين رشقات من بنادقهم، ولترويع الأهالي المسيحيين، وإيهامهم بأن جماعات إسلامية سلفية تهاجم قراهم، أخذوا يهتفون: علوية عَ التابوت، والمسيحي عَ بيروت. (لاحقاً أطلق رجال الأمن إشاعات تقول أن هذا الهتاف ردده المتظاهرون في بانياس). دخل المهاجمون عدداً من البيوت، فأطلقوا النار علي أثاثاتها، وأخرجوا منها سكانها، ونهبوا ما خفّ حمله، واعتقلوا بعضاً من الشبان واقتادوهم الي مقارهم الأمنية. بعد حملة الترويع هذه، دخل الجنود القري المسيحية نفسها، مشاة من دون آليات، موهمين الأهالي، مجدداً، بأن الجيش جاء لحمايتهم من السلفيين الإرهابيين. لكن الأهالي لم تكن تخفي عليهم هوية المهاجمين الذين اصطحبوا معهم من القري العلوية القريبة رجالاً يعرفهم أهالي القري، وقام رجال الأمن بتجنيدهم لقاء أجر مدفوع، اضافة الي ما يسطون عليه وينهبونه من البيوت أثناء حملات الدهم والترويع. ثم إن هيئات المهاجمين وأعمارهم وملابسهم كانت تشير الي هويتهم التي لا تخطئها خبرات السوريين وتجاربهم المريرة. فرجال الأمن وأعوانهم من زمر الشبيحة، غالباً ما يكونون في الأربعين وما فوق من أعمارهم، وينتعلون أحذية رياضية، ويرتدون ثياباً مدنية، ويتركون لحاهم نابتة، لكن من دون أن يطيلوها. أما الجنود الذين يستخدمون في الاقتحامات وحملات التأديب والترويع، فيكونون من الشبان والفتيان المجندين تجنيداً إجبارياً في الجيش، وتراوح أعمارهم ما بين 18 و20 سنة، ويقودهم ضابط، من دون أن يكون بينهم جنود محترفون من الرتباء وصف الضباط. فالقيادة العسكرية الأمنية تدرك أن الجنود الرتباء المحترفين، قد يرفضون الأوامر العسكرية وإطلاق النار علي الأهالي، لأنهم في غالبيتهم الساحقة من السنّة، شأن الجنود الأغرار الذين تحول خشيتهم وخبرتهم الضئيلة في الجيش، دون إقدامهم علي التمرد ورفض أوامر الضباط العلويين غالباً. بعد حملة ترويع القري المسيحية، توجه المهاجمون الي قرية البساتين السنيّة التي، منذ بدايات الانتفاضة، لم تتعرض لحملات ترويع وتأديب. فأهلها لم يشاركوا في التظاهرات، سوي قلة من شبانها. لذا قامت القوة الأمنية والعسكرية المهاجمة بتمشيط القرية سريعاً وسط إطلاق النار العشوائي، واعتقال بعض من رجالها وشبانها. أما قرية المرقب السنيّة ايضاً، وقلعتها علي تلة مشرفة علي بانياس، فقامت بالهجوم عليهما قوة عسكرية مؤلفة من 20 دبابة وخلفها مجموعات من الجنود المشاة. بدأ الهجوم علي القلعة التي كان يحتمي فيها شبان من القرية، يحمل بعضهم بنادق كلاشنيكوف وبوم أكشن، للدفاع عن أهلهم وقريتهم من زمر الشبيحة التي تنطلق من القري العلوية القريبة، ومنها قرية ظهر الزوبة المشهورة بشبيحتها. وبعد قصف مدفعي عنيف علي القلعة ومحيطها، تقدمت الدبابات اليها، وحاصرتها، ثم أتي ضابط من الجيش بمختار قرية المرقب، لإقناع شبان القلعة بتسليم أنفسهم للسلطة العسكرية، وليس للسلطة الأمنية، لكن الشبان فروا من القلعة هاربين الي بساتين الزيتون والأراضي الزراعية، رافضين وساطة المختار، فأخذت مدفعية الدبابات ورشاشاتها الثقيلة تمشط البساتين والكروم ومحيط القرية. أصيب في حملة التمشيط هذه بعض من الشبان الذين التقيت أحدهم بعد أيام في المعتقل، فروي لي ما حدث في المرقب وقلعتها. كان الشاب مصاباً في رجليه كغيره كثيرين من المعتقلين الجرحي الذين تلقوا، قبل اعتقالهم، علاجاً بدائياً في البيوت، لئلا يقتلون في حال نقلهم الي مستشفي بانياس الحكومي، حيث أقدم رجال الأمن والشبيحة علي قتل عدد من الجرحي وإخفاء جثتهم. دخل الجنود القلعة وتمركزوا فيها، بينما أخذت دباباتهم تقصف خراج قرية المرقب التي دخلتها وحدة من مشاة الجيش، يتبعها رجال الأمن والشبيحة، مطلقين النار علي البيوت شاتمين سكانها المختبئين فيها. وإذ لم يجدوا الشبان الراغبين في اعتقالهم ولديهم قائمة بأسمائهم، قام المهاجمون باعتقال أهلهم وأقاربهم من الرجال، من دون أن يوفروا الأطفال والأولاد ما فوق السابعة من أعمارهم، مطلقين النار علي أثاثات البيوت وجدرانها الداخلية، غضباً وانتقاماً، ومروعين النساء اللواتي خرجن من بيوتهن صارخات معولات، ومحاولات تخليص أطفالهن وأولادهن وحمايتهم من عنف رجال الأمن والشبيحة الذين يجرونهم من شعرهم مع آبائهم وأقاربهم. حدث هذا نهار الاربعاء 4 أيار. وفي صبيحة النهار التالي خلت المرقب وقبلها البيضا من رجالهما تقريباً، فخرجت منهما النسوة والأمهات الملتاعات علي أطفالهن وأولادهن المعتقلين، وسرن في تظاهرة عفوية غاضبة علي الطريق ما بين القريتين، فأطلق رجال الأمن والجيش النار عليهن، وأردوا منهن أربع نساء وجرحوا سبعاً أخريات وسط الطريق، فتناقلت صورهن محطات التلفزة العالمية، وروت امرأة من الناجيات أنها شاهدت ضابطاً يطلق النار علي جنديين ويرديهما، بعدما رفضا إطلاق النار علي النسوة المتظاهرات. الجمعة الثامنة: اقتحام بانياس الجمعة الثامنة الواقعة في 6 أيار، كانت جمعة غضب في بانياس، رداً علي حملات الدهم والترويع في القري المجاورة، وعلي قتل النسوة المتظاهرات ما بين البيضا والمرقب. واستباقاً للهجوم المتوقع علي المدينة، تدافع سكان بانياس الخائفون الي المساجد لأداء صلاة الجمعة، ثم إلي التظاهر في ساحة دوار البلدية. كانت التظاهرة حاشدة صاخبة، فيما وحدات الجيش المدرعة ودباباته تضيّق الحصار علي المدينة. لم يمكث المتظاهرون وقتاً طويلاً في الساحة، علي خلاف عادتهم في الجمع السابقة، فغادروا سريعاً إلي بيوتهم. وقبيل منتصف الليل انقطع التيار الكهربائي وتعطلت الاتصالات في بانياس. وعلي خلاف ما حدث في الهجوم الأول قبل أكثر من شهر، لم يُخرج الخوفُ والعتمةُ الأهالي إلي الطرق، فأنكفأوا في البيوت علي هلع مكتوم يملؤه دوي الصمت في أسماعهم، فإذا بصليل مجنزرات الدبابات علي الاسفلت يقترب مختلطاً بأصوات أذان الفجر المنبعثة من المساجد. كانت أصوات الأذان غريبة في انطلاقها حيّة بلا مكبرات صوت، كأنها آتية من البعيد، وتترك في الفضاء الضيق المختنق أصداءها المتقطعة، قبل أن يبتلعها صليل المجنزرات الذي أخذ يطفو وتتزايد ارتجاجاته المتطاولة مع خيوط الفجر القصديرية. ومع حموة الشمس كانت الدبابات قد توغلت في شوارع المدينة من ثلاثة محاور أو أربعة، الرئيسي منها في ناحية رأس النبع، حيث الجسر فوق مجري نهر بانياس. نحن شبان المدينة الناشطون، كنا قد اتفقنا علي عدم مجابهة الجيش ومقاومته، وعلي أن من لديه قطعة سلاح يخبئها ويخفيها، تاركين الخيار لمن يقرر الهرب أن يهرب إلي الأراضي الزراعية والبساتين، وكنت من القلة التي قررت البقاء. فأنا ليس لدي قطعة سلاح، وبيتنا يخلو منها، مع العلم بأن الغالبية الساحقة من شبان سوريا يجيدون استخدام السلاح، وشيئاً من الفنون القتالية، لأنهم خدموا في الجيش مجندين إلزاميين. من محاور رأس النبع والمحطة الحرارية وحي القلعة وطريق قطرايا، وغيرها من الطرق المؤدية إلي المدينة، تقدمت الدبابات، مطلقة زخات متتالية من نيران مدافعها الرشاشة، كأنها تتوغل في ساحات حرب، لكن خالية تماماً من أي مقاومة. حي القوز العلوي القريب من رأس النبع ذ ، مثله حي القصور العلوي ايضاً - بدأت تنطلق فيه رشقات نارية في الهواء ابتهاجاً، ثم في اتجاه الأحياء السنيّة، بعدما كانت الدبابات قد تجاوزت الحي العلوي، وأخترقت الأحياء السنيّة التي منها أخذت الدبابات توجه نيران رشاشاتها في اتجاه حي القوز، لايهام الأهالي السنّة بأن الجيش يطلق النار لأنه يتعرض لمقاومة من مسلحين في المدينة التي لم يطلق أي من أهاليها رصاصة واحدة علي الجيش. ومن يكون مطلقو النار من الحي العلوي الخالي غير رجال الأمن والشبيحة الذين أتوا خلف وحدات الجيش ودباباته المتوغلة في أحياء بانياس؟! عدد من البيوت بدأت تلتهمها النيران، فيما الأهالي يلفهم الهلع في غرف بيوتهم الداخلية. لا أدري ما الذي أخرج رجلاً من جيراننا إلي مدخل بيته، لأسمعه يصرخ فجأة مستغيثاً، فتجرأت علي الخروج من بيتنا والاختباء قرب جدار. رأيت الرجل قاعداً امام عتبة بيته والدم ينزف من رجله، ولمحت في الشارع رجلاً آخر يركض رافعاً يديه بشارة النصر، ثم ينبطح ارضاً أمام دبابة لمنعها من التقدم. لا أعلم إن كان الرجل أصيب أم لا، لأنني أسرعت في الدخول إلي بيتنا، مستجيباً صراخ والدي. لاحقاً، في النهار التالي، بعدما اعتقلت مع جموع من أهالي المدينة، علمت أن ما لا يقل عن ثلاثة شبان قتلوا في إطلاق النار العشوائي الكثيف علي الأحياء السكنية، اثنان منهم في حي التربة القريب من المقبرة، وثالث في رأس النبع، أما عدد الجرحي فتجاوز العشرين، كثيرون منهم أصيبوا علي عتبات بيوتهم. حتي عصر السبت 7 أيار، استمر توغل الدبابات في أحياء بانياس التي تحوط حاراتها الداخلية الكثيفة السكان، من دون أن تتوقف عن إطلاق نيران رشاشاتها. وفي الاحياء هذه، شن مشاة الجيش حملة اعتقالات يعاونهم فيها رجال الأمن والشبيحة، فشملت الحملة جميع الذكور المتراوحة أعمارهم ما بين 14 و75 سنة. بعد الغروب، ومع حلول الظلام، توقفت حملة الاعتقال الجماعي، وتمركزت الدبابات في الاماكن التي وصلت إليها، لكنها في الصباح الباكر استأنفت تقدمها إلي أحياء المدينة الداخلية، مطلقة صليات نارية خفيفة ومتقطعة. وبعد تمركزها علي مداخل هذه الأحياء، باشر مشاة الجيش ورجال الأمن عمليات الدهم والاعتقال، فوصل عدد المعتقلين إلي حوالي 4 آلاف شخص، كنت بينهم مع والدي البالغ عمره 75 سنة، والذي كنت وإياه وحدنا في البيت مع والدتي، بينما نجا إخوتي الثلاثة من الاعتقال، لأن أحدهم اختبأ في مكان ما خارج بيتنا، وكان الآخران قد غادرا بانياس قبيل اقتحامها. في أحد مواقع تجميع المعتقلين قرب المحطة الحرارية، أخبرني شاب أن جندياً يعرفه وشارك في الحملة، روي له في غروب نهار السبت، أن عدد الدبابات التي هاجمت بانياس وقراها من قبل، يبلغ 75 دبابة، أضافة الي ألوف من جنود الفرقة الرابعة استقدموا من جبل الشيخ علي الحدود السورية الاسرائيلية. كان الجنود المستقدمون من المجندين اجبارياً منذ اكثر من سنة، لأن القيادة العسكرية والامنية السورية تحسب الف حساب لمدينتنا وقراها. فالي حسبانها ان شبان المدينة مسلحون ولن يتهاونوا في مقاومة الجيش، فان بانياس تحتل موقعاً استراتيجياً مهماً وحيوياً لن تتهاون القيادة السورية العليا في السيطرة عليه. فهي تضم مصفاة للنفط يُوزع منها علي المدن السورية، ومنشآة حرارية اساسية، ومحطة مركزية للقطارات، اضافة الي ان الاوتوستراد الذي يمر علي تخومها يشكل شريان المواصلات البرية الحيوي علي الساحل السوري. وروي الشاب المعتقل نقلا عن الجندي ان كلاً من أطقم الدبابات المهاجمة ضم، الي المجندين من الفرقة الرابعة، ضابط امن علوياً يساعده اثنان او ثلاثة من رجال الامن العلويين، لوضع جنود الأطقم تحت رقابة امنية مشددة، تحول دون عصيانهم وانشقاقهم، وقيامهم باطلاق النار علي الدبابات الاخري المهاجمة. وهذا يعني أن الحرب الاهلية تعسّ ويتفشي دبيبها انشقاقات واغتيالات وعمليات قتل، داخل وحدات الجيش، وليس بين الاهالي وفي صفوف المتظاهرين السلميين الذين يخرجون الي الشوارع، ويتلقّون الرصاص بصدورهم، مما يؤجج النعرات الطائفية ودبيب الحرب الأهلية في صفوف وحدات الجيش. رحلة التنكيل في القري العلوية الملعب البلدي الرياضي في بانياس، سماه الاهالي "المسلخ" بعدما حوله الجنود ورجال الامن والشبيحة مركزاً لتجميع زهاء 4 آلاف معتقل من سكان المدينة البالغ عددهم الاجمالي حوالي 50 الف نسمة. كان المعتقلون في اثناء عمليات الدهم، قد جُمعوا اولاً في مواقع ثلاثة أو اربعة، قرب المحطة الحرارية، وفي جامع ابو بكر الصديق، وفي منطقة رأس النبع التي اقتادني اليها مع والدي خمسة من رجال الأمن اقتحموا منزلنا واعتقلونا، ثم عصبوا عيوننا وأوثقوا ايدينا خلف ظهرينا وانهالوا علينا بضرباتهم وشتائمهم طوال مسافة كيلومتر. وعلي هذه الحال نقلونا مع جمع من الاهالي الي ساحة قرب المحطة الحرارية، ومنها الي الملعب البلدي ذ . 8 والشبيحة عدداً كبيراً من الباصات لأخذنا في رحلة الاهانات والتنكيل في القري العلوية القريبة. قبل ان يدفعني ضابط أمن برجله لأصعد الي احد الباصات، قام بقص شعري بآلة حلاقة كان يحملها، لكنني تمنّعت عن الصعود الي الباص الذي سبقني والدي في الصعود اليه، كي لا اراه يُضرب ويُهان في حضوري. بركلة قوية من رجله رماني الضابط ارضا، ثم اعتلي ظهري متقافزاً عليه شاتماً ابي وامي واخواتي وديني، وفي هذه اللحظات انطلق الباص مع زهاء 35 رجلا، فحمدت الله علي نجاتي من ان اكون مع والدي في هذه الرحلة. عرّج الباص الآخر الذي اصعدني ضابط الامن اليه، علي حي القوز الذي تعرضنا فيه الي نوبة اولي من الشتائم والبصاق والصفعات واللكمات التي سددها جمع من سكانه العلويين الي وجوهنا، صارخين: بدكن حرية يا عرصات يا منايك... خذوا حرية، خذوا. رجل مسن علي المقعد قربي، اخذ يبكي في صمت، ورأيت دموعه تختلط بالبصاق علي وجهه، فأرجعت ظهري قليلا الي الخلف، وبكل ما أوتيت من قوة غضبي ومهانتي ومهانة الرجل المسن، سددت بقدميّ الاثنتين رفسة الي بطن الشاب الذي يشتمنا ويضربنا ويبصق علي وجوهنا، فوقع الشاب في ارض الباص بين صفّي المقاعد، صارخاً. وفي هذه اللحظة لم اعد اميّز علي اي مواضع من جسمي انهالت عليّ الضربات، قبل ان يحملني عدد من رجال الامن المسلحين من يديّ ورجليّ، ويرمونني من نافذة الباص الي الخارج، حيث ارتطمت بالارض، وسمعت صوت الشاب الذي رفسته يصرخ بأن يتركوني ليتدبر امري، فقال له احد رجال الامن ان يفعل بي ما يشاء ويعيدني الي الملعب البلدي. حين انطلق الباص وانهال عليّ الشاب يضربني بعصا خشبية، حمدت الله مجدداً، لأنه ألهمني ان افعل ما فعلت، مما قصّر رحلتي في القري العلوية التي اخبرني من عادوا منها قبيل غروب نهار الاحد ذاك بأن عدد محطاتها تجاوزت الخمس، لتأجيج الاحقاد الطائفية وتعميقها ما بين السنّة والعلويين. الملعب البلدي مسلخ بشري بعدما أنهكهم ما انزلوه من الوان الشتائم والعنف بكل ما أُوتوا من احقاد، جرّني الشاب العلوي مع اثنين من امثاله، طوال الطريق من حي القوز الي الملعب البلدي. مدمي الوجه والصدر جرّوني مرات علي الارض وسحلوني، كأني فضلة بشرية، فتبقعت مِزَقُ ثيابي بدمي المتخثر بعضه تحت جلد ربلتي ساقي المخدرتين مثلي، بعد اغماءات متتالية. علي هذه الحال رموني في الساحة امام مبني الملعب البلدي. لا ادري كم من الوقت مضي عليّ في اغماءتي بين اجسام المعتقلين المرمية في الساحة، او الجاثية علي ركبها، فيما مجموعات من رجال الامن والشبّيحة، تتقافز علي ظهور المنطرحين ارضا، أو تنهال بالهراوات والعصي والأرجل والأيدي علي اجسام الجاثين المترنحة قبل ان تتهاوي الي الارض. في حقل الاجسام هذا كان الأنين يختلط بالهمهمات وبكلمات مخنوقة تستجير بالله والانبياء، فيما كانت تتعالي فوق هذا الخليط من الحشرجات صرخات شاتمة الله والنبي، ومرددة: انتو ربكم الله، ونحنا ربنا بشار، ورح نشوف مين بينتصر بالآخر، رح نشوف. بدكن تسقّطوا النظام؟! يا قرد، قوم ولاه قوم سقّط النظام لشوف. انتو ما بتعرفو انو الله تبعكن ما بيقدر يسقّط النظام؟ّ! ما بتعرفوا انو بشار وحافظ هن حطوا الله بالسما؟! بدكن حرية؟ رح نفرجيكن الحرية في قبوركم اليوم. تقدم احدهم مني وداس بقدمه رأسي، ثم هرسه ارضاً وقال: قوم وقف ولاه قوم وقف، وقول مين اسيادك. واذ لم أقوَ علي الوقوف، امسكني بمزق الثياب علي صدري وأوقفني، فقلت كالمنوم إن حافظاً وبشاراً اسيادي، لكنني في قلبي قلت: هُبل، هُبل. فهبل، الي الزرافة، هي من تسميات بشار الاسد الشائعة في سوريا، وتحمل معني مزدوجا: صفة الهبل، وتسمية الوثن الجاهلي هُبل في الكعبة ايام الرسول محمد. وحين تركني رجل الامن أو الشبيح، لا فرق، تهاويت الي الارض، ولمحت قربي، في حقل الأجسام البشرية المطروحة، شاباً اعرفه، يدوس رأسه شبيحٌ، وينزف الدم من اذنيه وفمه. ثم سمعت الشبيخ يسأله مَن ربه، فلم يجب الشاب بأن بشار الاسد ربه، الا بعدما تكاثر عليه الشبيحة، دوساً ورفساً. عند الغروب بدأوا باجلاء الساحة من اجسامنا المدماة المحطمة، لتتلقي نوبات جديدة من الركل والصفع واللكم، فيما هم يدخلوننا الي مبني الملعب البلدي. أحدهم، فيما هو يرفسني من الخلف، صرخ بي: كم يرسل اليكم سعد الحريري من النقود، كي تتظاهروا؟! وكم تقبضون من المال من السعودية وقطر والأردن؟! في الباحات الداخلية التي تعلوها سقوف المدرجات العالية، لمحت من بعيد والدي بين جمع من رجال مسنين يدخلونهم الي واحدة من غرف تبديل الملابس الخاصة بلاعبي كرة القدم. اما نحن الشبان والفتيان والكهول غير المسنين، فحشرنا كل حوالي 500 شخص في مهجع لا يتسع لأكثر من مئة. قبل أن أدخل الي مهجعي، قلت لرجل أمن انني اريد قضاء حاجتي، فرفسني في بطني قائلاً ان اقضيها في ثيابي. اربعة ايام بنهاراتها ولياليها امضيتها في المهجع كغيري من المعتقلين المكدّسين متلاصقي الاجسام كقطعان بشرية في وقوفها وقعودها، وفي تمددها علي الأرض، رؤوس تحاشر اقداما، ورؤوس علي اقدام، وايد لم تعد تميز ما بين الايدي والاقدام، ولا تشعر بأي من الجذوع تتصل، كأننا في مستوعب ضخم للنفايات. لعاب وانين وبول وغطيط ودم متخثر وحشرجات وهواء مبنج بروائح كربونية... ورجال يندفعون كثيران هائجة الي مهجعنا، ويطلقون الرصاص من بنادقهم علي الجدران فتتطاير منها شظايا اسمنت تتساقط علينا قبل أن يتقافز الرجال علي اجسامنا المتلاصقة ويضربونها بالهراوات واعقاب البنادق ومورينات الخشب والعصي، فيما صرخاتهم تتعالي: كساس، عرصات، شراميط، حيوانات... وفي واحدة من نوبات هجومهم علي مهجعنا، رأيت رجلا منهم يخرج عضوه التناسلي ويوزّع بوله علي كومة من الاجسام، مرسلا تنهدات نشوته، هاتفا: حرية، حرية، حرية. الله وسوريا وبشار وبس، فيما هو يتقافز علي الظهور والجذوع البشرية. وفي نوبة اخري اخرج رجل منهم قداحة من جيبه، فأشعلها وقعد علي ظهر فتي صغير وأخذ يحرق شعره، بينما أطلق رجل ضرير صرخات متتالية، جراء ضربه بعقب بندقية علي رأسه. وكان بيننا في المهجع مرضي عقليون يجهلون اسماءهم. وحين اغمي علي أحدهم من شدة الضرب ونفر الدم من اذنيه، حملوه الي الخارج. وبعد وقت صَعُب علي تقديره، اعادوه عاريا مبللا بالماء، ورموه علي كومة من الاجسام، فصرخ احدهم: قوموا نيكو، قوموا، حيوانات، فرأيت الجسم المرمي يرتجف ارتجافات متسارعة، كمصاب بالحمي. اما من كان شعر ذقونهم طويلا، فكان نصيبهم اقتلاع لحاهم بالبنسات او الكماشات، انتقاماً من اسلاميتهم. ومع اقتلاع كل خصلة من لحي هؤلاء، كنت اسمع، مع صرخة الرجل، صرخة اخري يطلقها الشبيح او رجل الامن، قائلا: حرية ولاه، حرية هاه؟! بدك حرية؟! خوذ حرية لقلك خوذ. وحين قال احد الرجال الملتحين للشاب الذي شرع بنزع شعر لحيته، بأنه كان معلمه في المدرسة قبل سنوات، قام الشاب، بمساعدة شابين آخرين، بفتح فم الرجل عنوة، ثم اقتلع بالكماشة سناً من أسنانه. بعدما أعادوه الي المهجع من نوبة تحقيق في غرفة جانبية، روي لي طالب في ثانوية بانياس، إن المحقق قال له: بدي خليك تحكي من قفاك يا حقير يا كلب، قبل أن يقوم رجلا أمن بخلع ثيابه عنه، ثم أدخل أحدهما عصاً في شرجه، وأخرجها منه، ووضعها في فمه، قائلاً له: هلق حكي يا حيوان، يالله حكي. شاب كان جريحاً في المستشفي الحكومي، قبل اقتياده الي الملعب البلدي، حيث أخبرني أنه في منتصف ليل استيقظ، فجأة، علي صفعاتٍ علي وجهه في المستشفي، فإذا بممرضات تمسكن أحذية تنهلن بها علي وجوه المرضي النائمين في أسرتهم، يساعدهن في ذلك بعض الأطباء الذين أخذوا يضغطون بأصابعهم علي جروح المصابين. ووسط صراخ الجرحي الأليم، أخذ الأطباء والممرضات يهتفون متضاحكين: ألله أكبر، ألله أكبر... عَ الجنة رايحين، شهدا بالملايين؟! شاب آخر مصاب إصابة طفيفة في رجله، روي أنه مع صديقٍ له خرجا الي الشارع حاملين قطعتين من قماش أبيض، وراحا يلوحان بهما للجنود عند دخولهم الي بانياس، فتعرضا لإطلاق نارٍ أصابته إحدي رصاصاته في رجله، بينما أصيب صديقه في بطنه. وبعد نقلهما الي مستشفي جمعية البر، قام طبيب بتضميد جرحه، فيما انشغل طبيب آخر باسعاف صديقه. لكن مجموعة مسلحة من رجال الأمن دخلت فجأة الي غرفة الطوارئ، وأخذت تضرب الطبيبين بأعقاب البنادق، لأنهما رفضا التوقف عن إسعاف الجريحين، قبل إرغام الطبيبين مغادرة المستشفي، ثم قام رجال الأمن بتقييد يدي صديقي ورجليه الي سرير الطوارئ، واقتيادي في سيارتهم الي الملعب البلدي. وأخبرني الشاب ايضاً بأن قريبه اتصل به هاتفياً من اللاذقية، قبل أيام من هجوم الجيش علي بانياس، فروي له أنه كان بين متظاهرين هناك، عندما انهمر عليهم الرصاص، وتمكن من الاختباء في مكان أبصر منه عدداً من الجرحي والقتلي وسط الشارع. وبعد دقائق من فرار المتظاهرين وتفرقهم، وصلت شاحنة جمع نفايات تتقدمها سيارة ترجل منها عدد من المسلحين، أخذو يحملون المصابين، قتلي وجرحي، ويرمونهم في الشاحنة، وسط استمرار إطلاق الرصاص عشوائياً علي البنايات. عارياً فوق بانياس وفي بيروت في ظهيرة النهار الرابع من أيامي في مسلخ الملعب البلدي، دخل الي مهجعنا ضابط أمن، فتلا أسماء 30 او 40 شخصاً منا سمعت بينهم اسمي. قال الضابط أن نتبعه، نحن من تليت اسماؤنا، ونمشي خلفه في صف منتظم، ففعلنا وصولاً الي باحة داخلية واسعة في الملعب الرياضي، حيث امرونا بأن نمر واحداً واحداً امام طاولات يجلس وراء كل منها رجال جهاز أمني: الأمن السياسي، والعسكري، والجوي، والجنائي، والمركزي، وأمن الدولة... رجل من كل هذه الاجهزة شرع في سؤالنا عن اسمائنا، ودوّنها في ملف امامه علي الطاولة، حتي اذا ارتأي او استحسن اي من هذه الاجهزة ان يستمر اعتقال هذا او ذاك منا، جدّدوا اعتقاله. هذا ما حصل لرجلين سبقوني في المرور امام الطاولات، فتوقعت الا يطلق سراحي، وأخذت استعد لتجديد اعتقالي. لكنني في الساعة الثانية ما بعد الظهر، تقريباً، وصلت حافي القدمين الي ساحة دوار البلدية. لوهلة لم أصدق ما اسمع وأري: تظاهرة نسائية ضخمة وسط الساحة، تطالب بإطلاق سراح الرجال المعتقلين، أزواجهن وابنائهن وإخوتهن، اذ ليس من امرأة في بانياس لم يتعرض رجل من بيتها او اسرتها او عائلتها للاعتقال. كغريب وقفت مبتعداً ومنتحياً جانباً من الرصيف. مبنَّج الحواس، زائغ البصر، نظرت الي وجوه النساء استعرضها، علّني ابصر وجه امي. لكنني بعد لحظات قليلة مشيت متجهاً الي بيتنا، عازفاً عن ان اري أمي وتراني حافياً محطماً، ممزق الثياب، وفي وجهي وجسمي كدمات وجروح ينز بعضها دماً ماصلاً ومتخثراً في ربلتي ساقيَّ اللتين أبذل جهداً مضاعفاً ومؤلماً لأحملهما وأنقلهما، لأمشي. علي هذه الحال مشيت في شوارع وطرق خالية شبه مقفرة، كأنني لا اعرفها ولا اعرف احداً فيها. ضوء النهار اصفر ماصل علي الاشياء، ويؤلم عينيَّ ألماً لم اجربه من قبل. وحين جعلت اغمضهما بين وقت وآخر، كانت إبر الظلام تروح تخزني في دماغي وروحي، فأشعر بغثيان وملوحة في فمي ولساني المتخشب. وصلت إلي بيتنا، فإذا بابه مفتوح، كأنه مهجور منذ زمن بعيد. كيف لأربعة ايام ان تجعل العالم غريباً ونائياً ومهجوراً وغير حقيقي كمنام؟! فكرت، فيما انا اجتاز العتبة وأدخل متنقلاً بين الغرف، فإذا بوالدي الذي كنت ناسياً وجوده ملقي علي السرير نائماً، فدهمتني فكرة النوم. علي سرير في غرفة أخري ارتميتُ، وسريعاً غفوتُ ورأيتني في منامٍ أطير عارياً فوق بانياس، محلقاً وموصولاً بخيوط معدنية الي جثة علي السرير وسط جموع من النساء الصارخات بلا صوت. اطير عارياً وفي يدي هاتفي اصوّر به شوارع خالية مقفرة. فجأة ظهر الشيخ أنس عيروت يركض وحيداً في شارع، وفجأة اختفي، فإذا بي اسقط في هوة معتمة، وأعب الماء من نبع بانياس، فيرشح الماء من جسمي كله، وتدرزه طلقات بلا صوت. ممرضات وممرضون حولي علي سرير ابيض، وصراخ جرحي في ثكنة عسكرية، وجنود يتخاطفون جثثاً من علي الأسرة. والدي يتسلم جثتي ويوقِّع علي ورقة في مكتب رجل امن، وفجأة سمعت صوت امي تناديني باسمي، فيما يهتز جسمي اهتزازات سريعة، فأفقت وقعدت علي السرير قرب امي، بينما رأيتُ والدي يقف صامتاً ينظر إلينا من اقصي الغرفة. كان ذلك النهار نهار الخميس 12 أيار الذي سبق "جمعة الحرائر" في 13 أيار، فلم اخرج من بيتنا. قلة قيلة من رجال بانياس المسنين، مشوا في شوارع خالية شبه مقفرة، متوجهين لأداء صلاة الجمعة في المساجد، كأنهم في مدينة اشباح. من لم يعتقل من شبانها ورجالها مكثوا في بيوتهم مع النساء في إقامة جبرية او في مدينة محتلة ومحاصرة. بعد الظهر بقليل خرجت زهاء 60 او 70 امرأة من بيوتهن محاولات السير في تظاهرة، احتجاجاً علي اعتقال الرجال، لكن وحدات الجيش ودباباته المنتشرة بكثافة في الشوارع والأحياء، فرّقت النساء سريعاً، فعدن الي بيوتهن. الأسواق والمتاجر والافران مقفلة. الفرن الوحيد الذي استمر يعمل طوال الشهر الذي سبق الهجوم الكبير والاعتقالات الجماعية، اعتقل صاحبه وأولاده جميعاً، فتعرضوا لأعتي اشكال التعذيب والتنكيل في الملعب - المسلخ البلدي، قبل نقلهم الي احد سجون اجهزة الأمن في طرطوس، لأنهم لم يستجيبوا طلب المحافظ إقفال فرنهم ايام الحصار الذي سبق احتلال المدينة. اما مستشفي جمعية البر البسيط والبدائي، فنهبت تجهيزاته الطبية، ودُمر ما لا يُحملُ منها، ثم تحوّل مقراً للجيش ورجال الامن. الجرحي الذين كانوا فيه قتلوا، ولم تُسلَّم جثثهم الي ذويهم إلا بعدما أٌجبروا علي توقيع مستندات تفيد بأن جماعات إرهابية قتلتهم. الجرحي الذين نقلوا الي المستشفي الحكومي اختفوا. واحد منهم وصل الي المستشفي مصاباً برصاصة في رجله، فتسلم اهله جثته مصابة بطلقات في العنق. في البلدية والمدارس والحديقة العامة وضعوا كميات من الأسلحة والذخائر والقنابل، ثم اتوا بمصوري التلفزيون السوري وكاميراته، فصوروا ما ادّعوا انهم عثروا عليه من اسلحة وذخائر. الفرن الذي اعتقلوا صاحبه وأولاده، جلبوا اليه الاسلحة والمعدات التلفزيونية والمصورين في سيارة إسعاف، لأن مصوري التلفزيون يخشون الدخول الي الحي المكتظ بالسكان، للقيام بالمهمة الموكلة اليهم. وحين دخلت سيارة الاسعاف الي الحي، اطلق رجال الامن رشقات من بنادقهم علي جدران البيوت، لئلا يطل أي السكان من نوافذ البيوت، فيشاهدون الاسلحة التي نقلت من السيارة الي الفرن، حيث جري تصويرها. غادرت بانياس هارباً في ليل الثلاثاء 17 ايار، غير موقن بأنني سأصل الي الحدود السورية اللبنانية. من بيروت شاركت علي شبكة "فيسبوك" في مناقشات التحضير ل"جمعة ازادي" (الحرية) في 20 ايار. بعدها بأيام شاركت ايضاً في بث شرائط تصور أهالي بانياس يطلون من نوافذ بيوتهم في منتصف الليل، ويصرخون مرددين هتاف "الله اكبر، الله اكبر، سوريا حرة"، فيما تنطلق اصوات المؤذنين من المساجد، مختلطة بأزيز الطلقات في الهواء وعلي جدران البيوت، لمنع الناس من التكبير، لكن الناس استمروا في رفع اصواتهم أعلي من صوت أزيز الرصاص وأقوي. اما في "جمعة حماة الديار" في 27 ايار، فقد مُنع اهالي بانياس من الخروج من بيوتهم، ومن الصلاة في المساجد، سوي زهاء مئتي شخص تمكنوا من الوصول الي جامع الرحمن، لكنهم بعد خروجهم منه، لم يستطيعوا السير في الطريق أكثر من امتار معدودات، إذ هجمت عليهم بالهراوات والعصي وإطلاق النار، جموع كثيفة من رجال الأمن، فتفرقوا هلعين هاربين الي بيوتهم.