مجموعتي القصصية (بلون الدم) عن الانتفاضة الفلسطينية، والصادرة عن دار مجدلاوي في عمان عام 2006، كانت قد وصلت الى الأرض المحتلة.. ووصلتني رسائل من فلسطينين صغار قرؤوا قصصي.. واليوم إذ تقع غزة تحت النار لم أستطع إلا أن أضع بين أيديكم واحدة من تلك القصص.. " هل يموت مرتين ؟ " نادر.. نادر.. اخترق صوت الأم الظلام الذي يلف البلدة.. والصمت الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي مع منع التجول للمواطنين.. أو حتى الخروج من منازلهم وإلا تعرضوا للرصاص. الأم تلحق بابنها الوحيد الذي بقي معها وهو (نادر).. بعد أن اختفى أبناؤها الثلاثة الآخرون وهم أكبر منه سناً، واستشهدت ابنتها (انتصار) ذات الستة عشر عاماً برصاص جنود العدو قبل أيام. الأم في حالة من القلق والذعر شديدين فلو أن (نادر) توجه الى المقبرة حيث دفنت أخته فسوف تكون نهايته لأن فرقة من الجنود الإسرائيليين تسد منفذ المقبرة خوفاً من تجمع الفدائيين فيها بعد تشييع جنازات الشهداء.. أو أن يزوّد بعضهم الشبان المتحمسين للفداء بقنابل يدوية أو ما شابه ذلك.. وأكثر من هذا فإن الجنود الإسرائيليين أصبحوا يجعلون من القبور مصيدة لقتل المواطنين فهم يضعون عبوات متفجرات في فتحات القبور التي ضمت أبناءها من الشهداء أو هي مهيأة لأن يدفن فيها أحد.. وما إن يقترب منها ذوو الشهداء أو الذين يريدون أن يدفنوا عزيزاً لهم إلا وينفجر القبر في وجوههم، وتقع إصابات قد تودي بحياة بعضهم أو تصيبهم بالجراح. الصوت.. صوت الأم بدأ يضعف عندما لمحت شبحاً يحوم حول الدبابة على ضوء مصباح كهربائي يدوي سلطه أحد الجنود.. فصرخت من جديد: نادر.. نادر. لكن الشبح اختفى.. واضطرب ثلاثة من الجنود يحومون حول الدبابة كأنما يبحثون عنه ليقبضوا عليه. يا الله تردد الام لنفسها يا إله العالمين.. لطفك ورحمتك بابني.. طفل لا يتجاوز العاشرة.. ليس له ذنب سوى انه فلسطيني. ماذا أفعل يا ربي؟ وأجبرها دوي رصاص في المكان وإن كان غير مصوب نحوها.. أجبرها على العودة من حيث أتت.. قبل أن تصاب هي الأخرى.. ولا يبقى في الأسرة أحد يرعى تلك العجوز المريضة المسكينة أمها. لكن (نادر).. وقد وصل الى الدبابة وفي يده قذيفة صغيرة بحجم برتقالة، تردد هل يرمي بها الجنود أم لا عندما قبضت يد حديدية على عنقه فسقطت القذيفة، ولم تحدث أي أثر. قال الجندي باللغة العربية: وأنت.. أيها القرد.. ما الذي أتى بك الى هنا.. وما هذا الذي سقط منك.. قذيفة؟ أجب من أنت؟ أجاب (نادر) بقلب ثابت: أنا محمد.. محمد أبو هنّود. انفجر الجندي الإسرائيلي غضباً، وقال: أبو هنّود أيضاً؟ ألم نسترح من هؤلاء (الأبو هنّود) محمد.. ورياض.. وحتى الذي اسمه محمد؟ امش أمامي.. سوف أقصف رقبتك. ثم قال لرفيقه باللغة العبرية كلاماً مستعجلاً فهم منه (نادر) كلمة أبو هنّود فقط.. فهيأ نفسه لأن يعتقلوه.. أو ربما يقتلوه.. ولماذا لا يفعلون ذلك.. كثيرون من رفاقه حصل معهم مثل ذلك.. وماذا في الأسر؟ ليفعلوا ما يشاؤون.. ولكن ليت القذيفة انفجرت لكان قد استرد حقه من هؤلاء المحتلين إلا أنه سوف يفعل أي شيء آخر.. في مرة أخرى لو أفلت منهم. وردد لنفسه: "لو أفلت منهم.. لو أفلت منهم.. ولكن كيف؟".. وبينما الجنود مضطربون يريدون أن يستخلصوا معلومات من الصبي عن عائلة (أبو هنّود) كلها.. وعن رفاق محمود أبو هنّود.. بينما هم كذلك.. فوجئوا بجندي رابع يسوق امرأة من عنقها وهي تصرخ: نادر.. نادر.. ابني نادر. سأل أحد الجنود بعصبية: وهل اسم ابنك نادر؟ هذا الذي معنا هو محمد أبو هنّود. أجابته وهي تبكي: أروني إياه وأنا أقول لكم. وأثناء ذلك تملص (نادر) بخفة أرنب وقد عرف صوت أمه.. وتظاهر أنه متجه نحوها.. ثم وبسرعة كبيرة هرب باتجاه أكياس الرمل المرصوصة ليختفي وراءها. وعندما وجد نفسه قادراً على الركض أكثر.. والطريق خالية فقد فر هارباً.. يركض.. ويركض.. ولا يعرف الى أين سيصل. ولقد وصل (نادر).. ليس الى بيتهم أو حيهم.. بل الى حي آخر يسكنه العرب.. والتجأ الى أسرة فقدت أبناءها وغاب عنها رجالها. طمأنوه.. واعتنوا به.. ووعدوه أن يعيدوه الى بيته، لكنهم لم يفعلوا.. لأنهم عرفوا فيما بعد أن أمه استشهدت، وأن الجنود اقتحموا بيته، وماتت على إثر الرعب الجدة المريضة العجوز. و(نادر).. ظل يشارك في الحملات التي يقوم بها الصغار لإقلاق المحتلين من الجنود ولو كانت بوضع ركام الهدم في طريقهم.. أو رميهم بحجر. وظل يروي لرفاقه كيف أن الجنود الإسرائيليين قالوا: وهل يموت أبو هنّود مرتين؟