حققت رواية «البحيرة وسنينها» ل(هيام عبد الهادي) جاذبيتها بانطلاقها من بيئة ذات خصوصية، لها محدداتها وسماتها، وواضح مقدار الجهد والعناء الذين بذلتهما الكاتبة حتى تستقصي معالم وملامح هذه البيئة القاسية، وتوسطت لكسر جمود هذه البيئة بأسفار وخلفيات لشخصيات روايتها، لكنها لا شك ألقت ضوء كبيرا من المعرفة والاستبصار على مهنة نلمس ثمارها كل يوم – السمك – دون أن نعرف مقدار ما ورائها من معاناة، وما ورائها من قصص وحكايات، هي مهنة صيد الأسماك. يمكن القول إنها رواية عن أربعة صيادين يعملون في بحيرة السد العالي، ويلق ثلاثة منهم حتفهم بينما يبق الرابع مجهول المصير. لكن الرسالة الأكثر حضورا: التنبه إلى أن مصير الانسان الموت؛ فالمركزي في الحياة الموت والهامشي الحياة نفسها. يقول الراوي: ((كلنا غرباء على ضفاف البحيرة .. نرى الموت يمر على أحبائنا يحصدهم أو يداعبهم ويتركهم ولكنه الموت)) ص234، وفي اعتقادي فإن هذه المقولة مفتاح الرؤية المتضمنة، ويمكن التوسع في النظرة للبحيرة لتصبح رمزا للأرض، فالرواية في مجملها تلخيص لمعيشة البشر في صراعهم مع الحياة والموت، مع الخير والشر، مع الغنى والفقر، والكثير من الثنائيات التي يمكن استحضارها. وأكثر ما يلفت انتباهي من تقنيات السرد في الرواية ما يتعلق ب "تكنيك الحكي"، الطريقة التي تم بها تقديم الرواية للقارئ، لقد بدأت الرواية من النهاية، اتخذت "شكلا مقلوبا"، و"نهاية داخلية" و"سردا خارجيا"، فهي بدأت من لحظة انفجار المغارة وطيران أجساد الصيادين إلى الخارج، ليجد الراوي الثاني «يوسف»، نفسه ملقيا على ظهر المركب ويطالبه الراوي الأول: «الصياد المنقذ له» بأن يقص عليه أقصوصته، وبينما سيموت الراوي الثاني «يوسف» قبل الوصول للشاطئ في البحيرة، سيروي الراوي الأول «الصياد المنقذ» كيفية دفنه ل «يوسف» في القبر الذي حفره «يوسف» من قبل، وبعد أن تنته كلا من الحكاية والحبكة، سيأتي نصا مستقلا بذاته يمكن القول عليه أنه خاتمة خاصة ب «الأنا الثانية للكاتبة»، تقول فيها: ((سأل سليمان نملة: - أي طينة قد عجنت بالهموم والأحزان أكثر من الكل؟ قالت: - إنها الأجرة الأخيرة في المقبرة الضيقة حيث أن الأجرة الأخيرة التي تلتصق بالأرض تقطع الصلة بكل أمل)). ص 257 ومن الملاحظ أن "المتن الروائي" يثير إشكاليات كثيرة، فإذا ما أردنا الاجابة عن سؤال: كم عدد فصول الرواية؟ سنجد حيرة في ذلك، فقد بدأت الكاتبة العديد من المقاطع السردية بتعليقات استهلالية في رأس الصفحات، هل هذه التعليقات عنونة للفصول؟ أم أنها مجرد تأكيدات فرعية، وكم عدد فصول الرواية؟ لو اعتمدنا أن كل استهلال بالبنط العريض في رأس كل صفحة هو عنوان فصل، أو بالأدق عنوان لنتفة سردية سريعة ؛ فسنجد أن عدد فصول الرواية 118 فصلا، لكن هناك استهلالين خاصين بمكالمات أخت «سامح» يمكن حذفهما، وبالتالي يصبح عدد فصول الرواية 116 فصلا، وهو عدد كبير جدا، فضلا عن أن التكرار قد طال عناوين هذه الفصول كثيرا، فمثلا، العنوان الذي يحمل صيغة: «فيما يروى عن الجريمة» قد تكرر 4 مرات في الصفحات: [74، 91، 143، 165] وهكذا الأمر مع عناوين كثيرة ستتكرر عن الثعابين والعقارب والتماسيح والجن وغيرها من العناوين التي ستحمل الكثير من التكرار، وفي اعتقادي أن الكاتبة أرادت أن تضفي صفة الملحمية على عملها، فكانت محاولة لاستيعاب أكبر كم ممكن من الرسائل المتضمنة عن معاناة الناس في تلك الأماكن التي لا يعرف الكثيرون عنها شيئا، فاتخذت لنفسها تيمة «فيما يُروَى». وهذه التيمة «فيما يُروى» والتي تذكرنا بكتب التراث وتبويبها هي تعميق لفكرة الملحمية، ولفكرة تناول جوانب الإنسان في حياته من زوايا عديدة وعبر تاريخ مديد، والتيمة الثانية الأكثر تكرارا في عناوين الفصول: «اللهم لا تمتني»، والتي وردت [10] مرات في الصفحات: [13، 20، 33، 50، 79، 108، 120، 128، 212، 219] وتقريبا لم توجد مِيْتَة يمكن أن يموتها الانسان كغريق أو حريق أو مخنوق أو على قضبان قطار، او مقتولا برصاصة، أو من اعتداء دابة أو غيرها، لم توجد نوعية من نوعيات الموت وإلا تم التعوذ منها، هل هذا تعبير عن خوف الانسان الشديد من الموت؟ أم إشارة إلى عدم الاستعداد للموت؟ لا يخفى طبعا أن بيئة الأحداث الروائية صعبة جدا، مليئة بعناصر الانقضاض على الحياة كالحيات والعقارب والسباع وغيرها، لكن في النهاية هي لعبة المؤلفة، هي من تعرض لنا ما تشاء وتترك ما تشاء، والتأكيد على العناوين التي يتم تقديمها هو تأكيد على عناصر الرسالة التي ترغب في تمريرها. مثلا فطوال الرواية وفي معاناة قاسية بين الصيادين الأربعة وبين الذئاب، لم تكشف لنا الكاتبة عن وجود سلاح مع أيٍّ منهم، رغم أن السلاح عنصر أمان لهم في مواجهة الذئاب، إلا بعد مجموعة من الحوادث قرر (يوسف) أن يقتن سلاحا محلي الصنع، ومع ذلك سيتناسى أنه يملكه في مواجهة (الهجام) عندما يهددهم في بعض الأوقات باغتيال (سامح)؛ وأعود من جديد لطريقة تقسيم الرواية، إذ يوجد فجوة في السرد، فبينما يقص «يوسف» قصته للصياد، ورغم أنه ذكر بعض التفاصيل الخاصة بالمغارة، إلا أن الصياد سيظل مستفهما عن الواقعة الغريبة التي حدثت معه عندما أطلق الهجام عليه النار، رغم أنه يُفترض فهمه من سياق الحكي أنهم فعلوا هذا حتى يتركهم لشأنهم ينقبون في المغارة عن الآثار، والفجوة الثانية موقف «يوسف» من (الهجام)، فرغم اجتماع الخيوط التي تشير إلى وحشيته، وإلى أنه المدبر لما وصلوا إليه، إلا أنه سيظل متمسكا بتلمس الأعذار له. لقد ورد في متن العمل الكثير من الاشارات لعادات وسلوكيات الحيوانات، وجميعها تم نسبتها لكتاب الحيوان للجاحظ، ودون تناسي أن تخصص الكاتبة الأساسي هو الطب البيطري فأعتقد أنه كان يعنينا كثيرا أن تقدم لنا الرأي العلمي، حتى عندما حاولت تفسير حرق كبد الغزال، في الملاحظة التي أوردتها في الهامش قالت – على ما يبدو أن السبب كذا؟ هذا الموقف ربما يكون قد ساعد الجو الروائي في فرض حالة التضارب واللا-يقين تجاه بعض الأشياء، لكنني أرى أنه تم الاستفاضة فيه بشكل يمكن معه حذف الكثير من هذه التفاصيل دون أن يتأثر السرد؛ فالكثير من اقتباسات الحيوان للجاحظ، وتفسير الأحلام لابن سيرين يمكن إسقاطها دون تأثير على مسيرة الحكي أو حبكة الرواية. لقد لعبت «الأحلام» دورا مركزيا جوهريا في تحريك مسيرة الأحداث، ف «يوسف» تنشأ مشكلته الأساسية مع زوجته من خلال اقتناعه التام بتأويل حلمه، ورغم أن الرواية تشير في النهاية إلى أن خيالاته عن عدم إخلاص زوجته كانت بلا مبرر وبدون سند، ورغم ذلك فإن الأحلام ستحتل مكانة جوهرية مع «مصطفى» و«سامح»، بالطبع يمكن القول بأن رمزية الأحلام قابلة للتوسع، فيمكن تمديدها لتصبح مجمل التصورات والانطباع عن الحياة، ويمكن أن نعاني ونكابد مرارات عديدة في الحياة إذا ما كانت تصوراتنا عن الواقع بها الكثير من الخلل، لكن تشكلات اليقين حول صحة تفسير الأحلام، أدخل الرواية في قدر من الغيبيات، اتخذت تماما مسار التشكل الواقعي في النص، مثل الحكايات عن الجن والعفاريت، والحكايات عن استخراج الكنوز وغيرها، دون طرح إمكانية أن تكون هذه الحكايات قابلة للشك، وذلك يعكس بقدر كبير تمثل البيئة وثقافاتها السائدة لدى قاطنيها، رغم أن الإشارات الضمنية التي توردها الكاتبة في سياقها تنافي الكثير من هذا الايمان المطلق لدى أصحاب هذا الواقع، كالحديث عن نصب «الشيوخ» فيما يخص استخراج الكنوز، ونفي فكرة الرسد [الجني حارس المقبرة]، والتوطين لأن الخيانة قد جاءت من صديقهم الهجام، كل ذلك يضع النص في موضع تنويري، رغم كونه غني بتسجيل الغيبيات. إن الأربعة شخوص الرئيسية في الرواية: «يوسف»، و«سامح»، و«مصطفى»، و«الهجام»، يمكن النظر إليهم على أنهم أربعة جوانب لطباع البشر، ما بين الخير – «يوسف»، والشر – «الهجام»، والخوف – «مصطفى»، والرقة – «سامح»، كل إنسان منا يعيش بداخله قدر من هذه الجوانب بين جوانحه، وعلى هذا الأساس تدور المعركة بين كل جانب منهم، مثلما تدور أيضا بين الأشخاص وبعضهم، وفي كل يوم ينتصر جانب منهم على شخصية إنسان، ويدور الصراع بينهما مدى الحياة إلى نهاية الكون، الأنماط الأربعة من البشر سيستمرون في الوجود دون أن يُحسم الأمر لأحدهم، لقد تم رسم اضطرابات وخلجات الشخصيات بحرفية بالغة، ف«الهجام» – رمز الشر لم يخل من مروءة وشهامة في بعض الأحيان، ولم يخل من نقاط ضعف ومواطن رقة، لقد كانت هناك لحظة فارقة عند «يوسف» عندما اتعظ من رؤيته عظام الفقراء تنبش من الكلاب في المدافن، فحفر لنفسه قبره، وتغير حاله، وتشير بشائر الخاتمة – باختيار «يوسف» - بعد وفاته، المكان الذي يريد أن يدفن فيه، إلى سير الصالحين الذين يحددون بمسيرات جنائزهم أماك دفنهم، ويبقى النص طارحا على كل من يقرأه هذا السؤال: هل من استفاقة في خضم مطامع ومغريات ومجريات الحياة؟ هل يعي كل إنسان أنه في كل يوم يمر عليه هو فعليا يقترب من لحظة ولوجه للقبر وتجربة الموت، ذلك البعيد البغيض الذي يمكن أن يصبح جميلا لو كانت مسيرة الانسان وعمله في الأرض مما يُحمد عليه، ويشكر له عند الله وعند الناس وفق ما يقول النص.