ينقسم فى العادة كتّاب الرواية العربية إلى نوعين، نوع أول ورث عن الجدة شهرزاد ملكة الحكى فتدرب وتمرّس بقراءة ما تيسر من الرواية العالمية والعربية، ونوع ثانٍ عكف على الدراسات الفلسفية والنظرية الأدبية. غير أن ما يميز هذا النوع الأخير الذى سنتناول منه نموذج الكاتب المغربى الكبير محمد برادة بمناسبة صدور كتابه «من أجل النسيان» من «دار الشروق» هو استفادته الواسعة من نظرية الأدب ومن علوم السرديات وعمارة النص الأدبى. ولا يعنى هذا أن يتحول الروائى إلى منّظر يستعرض ما لديه من إمكانات وما يملكه من معارف، أو إلى كاتب يتعالى على القارئ و«يتفلسف عليه»، ولكنه يكون أقرب من المثال الذى ساقه يوما الأديب يحيى حقى حين شبّه الكاتب الحاذق بالعازف الماهر الذى يلامس أوتار عوده دون أن يشعرك بصوت الريشة، أى الذى يخرج بقطعة فنية فريدة من غير أن ينقل لك الجهد والعرق الذى تكبده. «من أجل النسيان» هو عنوان الكتاب الثلاثى الايقاع الذى يجمع روايتىّ «لعبة النسيان» و«امرأة النسيان» المكملتين لبعضهما البعض بصورة ما ويتممهما الروائى بالحركة الثالثة كما فى المعزوفة الموسيقية «من أجل النسيان» وهى بمثابة «خلاصة» تحليلية وكشف وتعرٍ للذات فى مشروع الكتابة، يفسر فيها محمد برادة محاولاته لكتابة الذاكرة بوصفها مصدرا للهوية والانتماء، محددا مشروعه قائلا: «ساعتئذ قابلت لعبة النسيان التى تسمح بالانتقاء والحذف والزيادة، لأن (الحفاظ على الذاكرة يعنى التأمل فى النسيان) على حد تعبير هايدجر». إذ يشير الكاتب هنا لعنوان روايته «لعبة النسيان» كما لوكانت «تقنية» و«لعبة» كتابة توصل إليها بين النهل من مخزون الذاكرة واستدعاء الزمن الماضى وبين المحو والنسيان. فالكتابة بطبيعتها هى فعل تذكر واستحضار ومقاومة لفعل الزمن، هى «بحث عن الزمن المفقود» وكتابة للمنسىّ «غير القابل للنسيان»، لكنها تصبح عند محمد برادة من أجل نسيان الموت، كما لو كان فعل تجاوز ينذر فيه الكاتب ما يعتمل داخله «من أجل النسيان». تبدأ رواية لعبة النسيان التى نشرت أول مرة عام 1987 واعتبرها النقاد من أهم أعمال برادة الروائية بموت الأم بالرجوع إلى البدايات الأولى حيث يحمل عنوان الفصل «فى البدء كانت الأم» وهى شخصية «لالة» الغالية التى يؤسس برادة لوجودها الطاغى فى الدار وعلاقتها بأهله فى فصل أسطورى يذكرنا بفصل «الخبيز» فى رائعة عبدالحكيم قاسم «أيام الانسان السبعة»، وحين يتناول راوى الرواة ذكريات الابن «الهادى» حول موت خاله «سيد الطيب» نقرأ: «...يمكن أن أتلكأ أكثر مستحثا ذاكرتى على تقديم لقطات أخرى عن سيد الطيب الذى أشعر، بغموض، أن ما رويته عنه، وما يمكن أن يُروى عنه، غير كافٍٍ.. لكننى الآن أنتبه إلى أن كل هذا التلكؤ إنما ألجأ إليه لاُموه على نفسى حقيقة كونه قد مات. «أى أن التلكؤ فى استحضار الذكريات يطيل «جلسة استحضار» الشخصيات من الأعماق ويجعله يعيش فترات الحياة مع الشخصيات فى الخيال قبل الوصول للحقيقة الواقعة أى الموت. النسيان ليس فقط طريق الخلاص فى مواجهة الموت لكنه يصبح لدى الكاتب صمام الأمان فى مواجهة اليومى المبتذل، إذ يكتب برادة فى «من أجل النسيان»: «وجدت القاسم المشترك بين النصيّن هى خلفية النسيان المشتركة بينهما، التى غدت بمثابة صمام أمان لدىّ ألجأ إليه كلما تراكمت الخيبة والمرارة، وتعذر الفهم والقبول بالأمر الواقع. عدت إذن لأكتب فى ظل النسيان ومن أجله...». الإضاءة والتعتيم عبر فصول الروايتين تظل لعبة التذكر والنسيان بين اليومى والحلم وبين المعيش والمتخيل هى المسيطرة على البناء السردى. فى الرواية الأولى «لعبة النسيان» يُطلع الراوى الكاتب قارئه على استراتيجية الكتابة، يصحبه إلى كواليس مشروعه الإبداعى ليس فقط ليطلعه على ميلاد الفكرة لديه، ولكن ليثبت له أن الفكرة الواحدة قد تتعدد طرائق حكيها إلى ما لا نهاية وكأنها تدريبات على ديمقراطية السرد. يطلعنا الراوى على احتمالات البداية المختلفة التى تتمحور كلها حول موت الأم. فنقرأ «مشروع بداية أول» وهو عبارة عن مونولوجا يحادث فيه الراوى نفسه: «منذ الآن لن أراها، قلت فى نفسى وهم يضعون جسمها الصغير المكفن داخل حفرة القبر ويهيلون عليها التراب...»، ثم يسرد الراوى «مشروع بداية ثان» حول صعوبة الحديث عن الأم، وبعدها يؤكد «ثم صارت البداية هكذا» التى يصف فيها الزقاق الذى يقع فيه الدار الكبير وكيف ينطبع وجود الأم «لالة الغالية» على الدار ومن فيها وعلى علاقاتها بالأهل والجيران، ويدعو القارئ للإطلال على الشخصية بعد أن تم تسكينها فى الفضاء المكانى قائلا «لنطل على لالة الغالية...». فتبدو هكذا بنية الرواية منذ البداية متسقة مع حركة النسيان والتذكر، والكتابة والمحو، ليس فقط من خلال طرق السرد المختلفة وتعدد الرواة الذى يسمح بالتعرف على أصوات الشخصيات ووجهات نظرهم مثل شخصية «الهادى» وأخيه «الطايع» وخاله «سيد الطيب» وزوج أخته «سى ابراهيم» ليكللهم جميعا بصوت «راوى الرواة»، بل تظهر أيضا فى تقنية استحدثها الكاتب فى تبويب الكتاب وعنونها «إضاءة» و«تعتيم» كما لو كانت تواكب حركة الاضاءة والتذكر والحياة ثم التعتيم والنسيان والموت. فيقدم الراوى شخصية الأم لالة الغالية على سبيل المثال ثم يضىء بعض التفاصيل حولها تلك «الغالية» لكل من حولها، الأم النموذج التى رفضت الزواج بعد وفاة شريك حياتها، ثم يأتى جزء «التعتيم» ليتناول فيه الراوى مشاعره حيال موتها «أقول الآن: الأم، كالموت، وعلى عكس الأب، لا يُفكّر فيها إلا من خلال الافتقاد. لكنى أحسك حاضرة ومكتسحة. تلازمنى مشاهد الذكريات، وأقطع حوارا معك لأبدأه من جديد». المحو والتذكر ويستخدم الراوى نفس تقنية الإضاءة والتعتيم عند عرض شخصية سيد الطيب لكنه يتمها بوجهة نظر «راوى الرواة» العارف بكل شىء الذى يفسر مجريات الأمور ويكشف المسكوت عنه. حيث يستعرض تعلق الجميع بصاحب «الصوت القوى ذى النبرة المقتحمة للنفس» الذى أصبح هو ولالة الغالية محور البيت الكبير. ليصف لنا بعدها فى جزء «تعتيم» مقدار الفقد وتحول شخصية سيد الطيب إلى أسطورة («هل أبدأ بوصف نهايتك؟ أم هى بدايتك الحقيقية ربما؟»)، ومدى لوعة الراوى الهادى إثر موته: «لن أرى، لآخر مرة، تلك البسمة التى كانت لغتك الخاصة معى. ولن أرى الوجه المدوّر، الممتلئ، الطافح أبدا بالحيوية والقوة.. ذبل الجسد وظل الوجه شامخا مكتسحا». ليأتى راوى الرواة القريب من وعى الكاتب نفسه ليضىء لنا الجزء الغائب فى شخصية الطيب وهو علاقته بنفسه وبجسده وبالأشياء، ويعثر على الخيط الذى تنتظم عنده كل التناقضات وهو ارتباط سيد الطيب بمدينة فاس، أى تماهى الشخصية بالمكان إلى الحد الذى يجعله يصف صورته وهو فى الرباط أو البيضاء بأنه «خارج فاس كان يبدو «متقلصا» أو بأنه «كان يفقد الكثير من حضوره، بل من وقاحته: أعنى التصرف وكأنه يمتلك من وما حوله، ثم وكأنه مملوك بدوره.. «يكون رافعا الكلفة مع الحياة» ربما هذا تعبير أدق». وينتقل الكتاب من «لعبة النسيان إلى امرأة النسيان» لتستمر لعبة المحو والتذكر من خلال بنية ثنائية تعتمد على خط سردى أول هو شخصية «ف.ب» التى نزحت على حد تعبير الكاتب من رواية لعبة النسيان، فيدخلنا الروائى فى كتابة «حداثية» تجعل إحدى شخصياته تنهض من مكمنها لتحيا فى نص جديد، ولا تكتفى الشخصية بذلك بل تقوم بمحاكمة الكاتب وتصحيح ما وقع فيه من «أخطاء» حول تفاصيل حياتها فى الرواية الأولى التى كتبها، إذ تستقبل ف.ب كاتبها بعد عودتها من باريس تعيش وحيدة وتنتابها حالة من حالات الجنون، ويتأرجح حديثها بين الحكمة والهذيان فى معظم الوقت: «يُخيل إلىّ أننى خُلقت من نسيان وإليه أعود. ليس النسيان لعبة، النسيان امرأة منها يُجبل المولود والمعدوم وعبرها يتجدد الجسد والذاكرة والنسوغ وكل ما يمت بصلة إلى الحياة». وعبر امرأة النسيان، يسوق الكاتب مسارا موازيا للرواية وبنية ثنائية يتناول فيه حكومة التناوب التى تأسست فى 1998، فتبدو امرأة النسيان كما لو كانت ذريعة أو مجازا لمحاولة نسيان انهيارات التنظيم وتغلغل الفساد بداخله، محاولة لغض البصر عن زمن الانهيارات الذى طال كل شىء. والجميل فى هذه المراجعة وتلك الانتقادات التى يوجهها الراوى بالكثير من المرارة لما آل إليه الحزب أنه ينطبق على مشكلات التنظيمات اليسارية فى معظم البلدان العربية ذات الصوت الأوحد. فتعكس الحوارات بين الراوى المعارض الذى لا يريد أن ينخدع بترميم ما يصعب ترميمه، الذى ينتقد الحكومة ويضيق بالركود الذى وصل إليه التنظيم وانفصاله عن الجماهير، وبين الشخصية المقابلة «المعتصم» الذى لا يقبل النقد الذى يتشبث بجموده «لا يجوز» قائلا لصاحبه «يدك منك ولو كانت مجذامة» داعيا إياه بتقبل الوضع حتى وإن لم يناسبه.