«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورسعيد الحكاءة
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 04 - 2011


القناة أوائل القرن الماضى
للمكان عبقريته التي تجذب عدسة المبدع، وتلهمه، ومن ثم تحضّه علي الامتزاج بمفردات المكان والزمان ومكوّناتهما في شبكة من العلاقات يصعب فيها الفصل بين ما هو بشري وغير بشري، موضوعي أو ذاتي، واع أو غير واع، بقدر ما يستحيل الفصل بين الزمان والمكان.
والمكان هنا له خصوصية حادة هي مواجهة الآخر فيما فرضه علينا ذلك الآخر من حروب، وصبّه علينا من جام حقده وطمعه. وبين أيدينا ثلاث من روايات الحرب لقصاصين من بورسعيد هم:
الشاعر القصاص السيد الخميسي، وعنوان روايته (الفرائس)، والقصاص إبراهيم صالح، روايته (أيام سمان أيام عجاف)، والقصاص زكريا رضوان، وعنوان روايته (عبادي)، وقاسم عليوة في روايته (الغزالة)، والسعيد صالح في قصته (رتوش ملونة علي بورتريه حزين).
والكتّاب ينتمون إلي جيلين من القصاصين، فهي بذلك قد تكون مهيأة للدلالة علي الحركة القصصية في بورسعيد علي نحو من الأنحاء، وإنْ لم تشمل الاتجاهات جميعها.
وبادئ ذي بدء نقول: إن الفن القصصي، والرواية علي وجه الخصوص، أشد التحاما بتصوير الواقع، ومعالجة قضاياه، ورسم ملامحه، ورصْد خطوات التغيير فيه، وحصر مواقع التحول والتغير في أحداثه وأمواجه وتياراته وتطلعاته، والمزج بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، حتي لتمتزج السيرة الذاتية علي نحو من الأنحاء في بنيانها، صرّح كاتبها بذلك أو لم يصرح.
بدا ذلك، بشكل واضح، في أحداث الروايات جميعها، لا سيما والكاتب في عصرنا مهموم بقضايا واقعه المحلي والعربي والعالمي، لا يقتصر دوره علي المتابعة اليومية اللاهثة المريرة فحسب. بل يتعدي ذلك إلي القلق والأرق المصاحب للتأمل والتحسر والعجزعن أداء دور مادي يقف في وجه الفساد المنتشر في الكون انتشار الوباء والفناء، والمتفشي تفشي النار والدمار.
عبقرية المكان
من هنا يدور فلك الرواية في المكان/ الزمان، والزمان/ المكان، اتفاقا مع الحقيقة الكونية والفيزيائية، وهي عدم انفصال الزمان عن المكان، إذ لا مكان بلا زمان، ولا زمان بلا مكان.
يلتحم الزمان بالمكان لدي سيد الخميسي في الجزء الثاني "الفرائس" من رباعيته التي بدأت ب "البشروش". والفرائس جمع فريسة؛ لأن المكان والزمان وما فيهما وقع فريسة اغتيال الأحلام في المدينة التي هي - كما يصفها - "صدفة عجيبة" - بتحريك الدال -، والتي تتنوع صفاتها بين: "مدينة طفلة"، و"مدينة عجيبة"، و"مكان عبقري" في فضاء مكاني يتنوع بين الشمال والجنوب والغرب والشرق "مكان عبقري يمتزج فيه التاريخ بالجغرافيا بالناس بالحرب وبالحياة وبالموت". هذه المدينة التي يعرفها النص المصاحب في نهايتها: "والمدينة أكبر من أن تحتويها عين أو حتي مئة عين؛ هي مع صغرها ميدان فسيح لصراع مصر من أجل البقاء، البوابة الشمالية - الميدان الفعلي لكل حروب مصر في العصر الحديث (العسكرية وغير العسكرية)، وتتوالي مفردات المكان: "البحيرة عالم مختلف ومعقد.. جزر ومراحات وغاب وحوش" - بتحريك الواو - هذا إلي الموانئ والمنائر، وحارة العيد، مختلطة بزمان ما قبيل الثورة، وسنوات ما بعد قيامها، وساحات القتال في الخنادق والقناة والترسانة والملاحات وبورفؤاد، حتي يبدد سعادة الفضاء العبقري والروحي للمكان قرار التهجير الإجباري الأليم.
الحرب الحرب الحرب
ويكون محور الأحداث: الحرب؛ ففي "الفرائس" نقرأ فيما يشبه الابتداء: "خاضت المدينة كل الحروب: الإنجليز، الفرنسيين،
الألمان، اليهود، لم يبق بيت إلا وفيه شظية...."، ويغتال اليهود يوسف؛ "فجن الكلب ووقف في الليل يعوي".
يمضي ذلك كله فيما هو من السيرة الذاتية أو قريب منها حتي يلج قلبها بنص من قصيدة الراوي التي يلقيها علي أصدقائه: شحاتة، والبلاسي، وعرنوس، يمضي ذلك في ضمير السرد السائد، وهو ضمير المتكلم السارد، وبخاصة في مطالع الفقرات والفصول: "يقول خالي _ وضعت خطتي _ كان من الممكن أن أكون صيادا _ المتولي أصغر أخوالي - ثم يكون عيد الجلاء، وتكون نكسة الخامس من يونيو، "ولم يعد الماء هو الماء"، وصيحات أحمد سعيد بصوت العرب: "أسقطنا خمسين طائرة إسرائيلية.... قواتنا علي مشارف تل أبيب"، وفي كل يتجسد رمز المقاومة والتحرير 1967 جنبا إلي جنب في مواجهة مع الجاسوس الذي يعيد سيرة سلفه في حرب 1956، فيعيد سيرة المقاومة في حرب 1967.
وعندما يتغير المكان تغيرا اختياريا من أجل الدراسة نجد ملامح المكان التعليمي الجديد: القاهرة، وما فيها من العطفة والحارة، والورش، وكلوت بك، واللوكاندة، وجامعة القاهرة، وما حولها، وما ذكّره مولد إسماعيل إمبابي بحارة العيد ببورسعيد، وعندما يتغير المكان بسبب الهجرة القسرية "التي تعتصر القلب"، يحمل السارد "شارعه" معه في كل شارع غريب.. بحجارته وناسه "ليصل إلي" زمان متحجر..
وفجوة أبدية".
ويلتحم الزمان بالمكان عند إبراهيم صالح في روايته الثانية "أيام سمان.. أيام عجاف" بعد روايته الأولي "السماء كم هي بعيدة" الصادرة سنة 2001، وإبرازا للزمان اختار الكاتب عنوان اللوحة رقم (17) عنوانا للرواية كلها، وكما يبرز الزمان يبرز المضمون في تلك المقابلة الواضحة بين "سمان" "وعجاف"، بما في ذلك من زخم التناص القرآني والحضاري المستند إلي تراث قصة يوسف عليه السلام، ومن عاصرهم وعاصروه من قوم فرعون، وقد مضت الرواية مع منهج اللوحات فكانت في ثماني عشرة لوحة، وهي _ كمنطق العنوان _ سنتان ونصف، وقام السرد علي نافذة تمهيدية شارحة هي :"النصوص المصاحبة"، وعددها سبعة نصوص، وهي نصوص مختارة بعناية لتؤدي معني مصاحبا وشارحا، كان منها من النصوص الدينية المقدسة: من الإصحاح الحادي عشر "إنجيل متي" مخاطبا المتعبين المثقلين بالأحمال حول حمْل النير والتحمل والتعلم، أو من العهد القديم عن الرحمة والحق، أو من العهد القديم عن الموت والجحيم، وغياب النصير والمغيث، اللهم إلا من الرب؛ وذلك كله مواجهة للتدخل الاستعماري الجديد البشع في العراق.
ومنها ما هو من لوح فخار بابلي عن الحزن، أو من جلجامش حيث صعب عليه رفع ما انقضّ عليه من السماء، كما استحال إبعاده، في حلم كما حلم يوسف، أو من زرادشت عن القوة التي تداوي الوجود؛ ونري في ذلك كله تراسلا مع الموضوع القصصي في الوجوه الكريهة المتعددة لمأساة العراق.
ومنها من التراث العربي ما رواه ابن كثير نصّا دالا بأكثر ما تكون الدلالة علي نحو يفوق دلالة أي سرد معاصر يحاول رسم الصورة الكئيبة لملحمة سقوط بغداد في العصر الحديث:
"ولما نودي في بغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كنّ بالمطامير والقني والمقابر كأنهن
الموتي إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا؛ فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد؛ فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلي".
وهذا النص المصاحب لا يقتصر علي حدود مرامي السرد التي تروي الواقع المعيش بالعراق، وتتقمصه. بل تتجاوزه إلي عقد تزاوج فني بين الماضي الذي لم يمت والواقع الحي الذي حدث بالفعل، والمستقبل المقروء عن كثب أو عن بعد، بما تحقق منه بالفعل في حدث ماض معلوم، أو فيما يتحقق آنيا، أو فيما سيتحقق في قادم الأيام المجهولة؛ ليواجه ماضي بغداد الأليم حاضرها الحزين .
لقد احتشدت هذه النصوص المصاحبة في شكل مفاتيح سردية بليغة التعبير بإيجازها، وإيحاءاتها، وعبق الزمان والتاريخ والحضارة والبعد الإنساني فيها، بما تحملها من معني إنساني ذي دلالة عالمية، ومن مصادر معظمها له قداسته التي تخاطب روحانية الإنسان في كل مكان.
واقترنت دلالات تلك النصوص المصاحبة الموغلة في تاريخ البشرية، في آخر الرواية، بدلالات التراث الشعبي العالمي في مصباح علاء الدين، أكثر من مرة؛ تأكيدا علي وحدة مصير الأمة العربية وتنوع همومها، والموت - مع هذا التعدد - واحد. بل اتحاد الهم العالمي، وأن السلام لا يتجزأ، وعناوين الصحف حمراء بلون الدم: "طائرات التحالف سحقت العراق".
وعلي الرغم مما قدمنا من امتزاج الذاتي بالموضوعي، فإن السارد اختار السرد من الخارج عن طريق ضمير الغائب الذي يعمل _ بطبيعته _ علي إزاحة خيوط السيرة الذاتية، تلك التي ظهرت خلسة من خلف ظهر ضمير الغائب، بدتْ في:
_ "عم سليمان بائع السمنية"، وعربته المعروفة في بورسعيد، ومقهي نور، والإعلانات التي تعبر عن التوجه العام للدولة مثل: "الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد الحر، والقطاع العام، والخصخصة"، ومن معالم بورسعيد كالميناء، وشارع كسري، وأحجار اللسان، وأنغام السمسمية، والصيادين، وأسراب السردين.... إلخ.
قلنا بعدم إمكانية انفصال الزمان عن المكان، ولهذا كانت جملة السرد الأولي في اللوحة الأولي:"يناير من عام 1991"، وكانت جملة السرد الأولي من اللوحة الثانية: "18 يناير 1991"، ليستمر السرد الزمني: .. مارس 1991.. إلخ، بتوظيف وسائله من: المذياع، والصحيفة، والمقهي، حتي "ليحصي عدد الأيام".
وللتاريخ قداسته، كما أن له دلالاته حين يرتد زمن السرد بالتذكر من حرب العراق إلي الانتكاسة التاريخية الكبري (67) التي ركّز القدر زمنها في ستة أيام؛ ليضاعف الإسرائيليون من مساحة الأراضي في حوزتهم منذ 1948 أربع مرات، وليستولوا علي عتاد عسكري قيمته عشرة مليارات من الفرنكات، ولهذا بدأ البطل في الرواية "طفلا صغيرا يتجرع الشعور بفقدان الأمان.... وقد تلاشت أجواء عام 1967 والأعوام التي تلته.."؛ ليستدعي الحاضر الماضي؛ وليؤجج الماضي الحاضر في دائرة المأساة العربية الكبري. بل يلعب الفلاش باك دورا في استدعاء الخيول الصليبية أمام صلاح الدين علي حدود الشام، وأكثر من ذلك استدعاء مصباح علاء الدين، واستدعاء حفر القناة، واجتياح الطوفان البركاني مدينة فيزوف الإيطالية، لتكون اللوحة الأخيرة بعنوان "دورة شمسية" ليخرج الجنّي من المصباح السحري؛ لتسبح النهاية في أحلام المستقبل "حتي ينتهي قرص الشمس من دورته الشمسية العنيفة".
وبين حين وحين كانت تتردد العبارة الروحية: "يا مالك الملك"، وتتردد أخبار البطالة، والموازنة الأليمة بين من يملك مالا من "البلطجية" ومن لا يملك من الشرفاء، حتي يسود إشعاع الحلم: "رأيتني في المنام أسبح في بحر متلاطم، يحملني موج كالجبال، وتزحف نحوي أطنان من المياه..... أصرخ، أنتفض، أصحو فزعا.. وأمي تقرأ المعوذتين. يا أمي
رأيت.. ...."، وهنا دلالة بلاغة الحذف المرموز له بالنقاط.
أما زكريا رضوان، فيقدم روايته (عبادي) بجزأيها في مجلد واحد: إمارات العشق، وأسطورة اليقين.
النصوص المصاحبة
وأول السمات توظيفه النصوص المصاحبة؛ للإبانة عن محتوي الرسالة الفنية المطروحة، وقد تنوعت تلك النصوص بين النص المقدّس المتمثل في القرآن الكريم: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي االأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور"، والنص النثري عن الاغتيال الهادئ الذي يشبه القتل بالمسدسات كاتمة الصوت، وصداه باق في الزمن بأكثر ما يتصور القتلة، والنص الموجز: "الزمن أعظم مؤلف"، ونص من بلاغة صلاح جاهين الشعبية:
"إيش يقهر الطير/ غير قلّة المغْني/ وإيش يفسد القول/ غير قلة المعني".
بما في ذلك من المقابلة بين: المغني والمعني في النصّ، وفارق ما بينهما من إعجام في حروف الكلمة، ومقابلة الاتحاد في: حرية التعبير في أهداف الكلمة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: الجمع ببن الطير والإنسان في نشدان الحرية والكرامة، وإباء القيد والأسْر، حتي نصل إلي النص الأشدّ قربا من خصوصية القصّ:
ألا يا ضحايا الظلم في الأرض كلها أنا بورسعيد الرمز والعنوان
وفي تلك النصوص - كما قدمنا - ما ينهض نصا موازيا يؤدي ما يؤديه النص الكلي من دلالات.
الذاتي والموضوعي
وكما قدّمْنا يصعب بتر ما هو موضوعي عما هو ذاتي في السرد؛ إذْ يكون أول ما يلقانا في الرواية: الإهداء؛ بما له من دلالة قوية، وهو:
"إلي عم عيد.. بائع الحلوي بشارع عبادي". ز. ر. وليس هناك ما هو أبلغ من ذلك التصاقا بالنص الكلي؛ الرواية.
ويمضي في هذا السياق الإشارت الدالة في:
ما حدث في قصر الثقافة يوم 24 ديسمبر، والبحر، والجامع العباسي، وشارع محمد علي، واللنوشة، والبحيرة، ومقهي عم دعدور، وصوت الريس حمام الحزين يغني للمهاجرين، كما يغني التراث الغنائي: "علي بلد المحبوب ودّيني"، وحي العرب، والمعدية.
ومفتاح عبقرية المكان هنا: البحر.
البحر يا بني عمره ما نسي. ردا علي السؤال: البحر يا جدة مجرد مقبرة؟
و.. منذ الصبا تعلمت أن البحر أخّاذ.
الحرب الحرب
وهي المحور الأساسي فيما يتوالي من إشارات منذ "كنوب" - جمع كامْب "كانْب" - الأورنس وهي تحترق، وصورة البطل مبتور طرفي اليدين، والشظية التي أصابت العين اليمني للبطل في السويس، ومعاش الإصابة، وذكريات معارك القناة، والعدوان الثلاثي، وهزيمة يونيو والرّوس، واللنوشة وهي تغرق بالأطفال في رحلة التهجير، أو الطيور المهاجرة، والطوربيد، وعلي شبانة الذي مات بالرسوة، وكتائب الطلبة، واحتفالات أعياد النصر، والضفة الشرقية بعد العبور.
بورسعيد والعالم
لنري اتصال بورسعيد بالجسد الأم محليا وعالميا: "نهاية شارع محمد علي حيث تتصل بورسعيد بسائر أقاليم مصر برا، وبسائر موانئ العالم بحرا".
يسبح ذلك كله في فضاء الفكر والأيديولوجيا: - "يا شيوعي" _ الاشتراكية _ الرومانسية، وما يحدث لبعض أصحاب المذاهب من مواقف.
ويقوم السرد علي جملة الحكي المستندة إلي أداتيْ الضمير الغائب والآخر المتكلم، مستعينة بفنون القول المساعدة من: الآيات القرآنية، والشعر الشعبي الذي يتردد كثيرا حول: العليل والدواء، والصبر، ويا ليل يا عين، والجراح، وصفّر يا وابور..، وفي بورسعيد الوطنية، وما يتبع ذلك من فنون أقوال
السمسمية الخالدة:
حاربوا جيش الاحتلال.. مبروك يا جمال... إلخ.
وإذا نأي السرد عن هذا المكان سافر إلي المكان الأم القاهرة وإلي حلوان؛ حيث المظاهرات ضد أحكام قادة الطيران ومحاكماتهم، أو هاجر إلي مدينة رأس البر، لنري تفاعل البيئات في السلم والحرب، واتصال الجسد الواحد وفق قانونه الخاص.
خصوصية المكان وصورة الآخر
في هذه الروايات، وما انخرط في فلكها، تتحدد صورة الآخر، والنظرة المتبادلة بين طرفي المواجهة، يبرز فيها وجه الكلمة الأدبية في شكل غير خطابي حقا، وبلا مباشرة أيضا. لكنه ربما كان هادئا أكثر مما يقتضي الأمر؛ إذ تقتضي المأساة المعالجة أن تكون صورة الآخر أبشع مما هي عليه في تلك الروايات التي انحازت إلي جانب السرد الهادئ أكثر من انحيازها للكلمة المقاتلة، أو علي الأقل المدافعة، وكادت النظرة الرومانسية تطغي علي كثير من الجوانب؛ نظرا لأن عدسة الكاتب غالبا ما كانت تعتمد علي عنصر "التذكر"، والسرد من الخارج أكثر من اعتمادها علي آلية "الاستدعاء"، والحركة الحية؛ فالفرق كبير بين: التذكر، والاستدعاء، في الحالة الأولي يكون الخطاب خطاب ذكريات وسير ومشاعر وخواطر، أما في الحالة الثانية فينتقل الخطاب خطوة أكثر فاعلية نحو الاستحياء، وإعادة التمثل، ومن ثم الثورة والاحتجاج، والنقد وإعادة بناء المواقف، وبخاصة في أدب الحروب، حيث نعيد الاستماع إلي
صدي طبول الحرب، ووقع مدافعها وآثار انفجاراتها، ونري نتائجها المدمرة، وضحاياها المضمخين بالدماء؛ وما تمّ من إهدار للقيم والمعاني الإنسانية، أو بمعني آخر نري الحدث ونرقب خطْوه، ولا نكتفي بالإخبار عنه. وفي ذلك كله يعمق المعني الإنساني الكامن في اعتداء الإنسان علي أخيه الإنسان في الوقت الذي يعلو فيه صوت الديموقراطية، وآخر للحرية، وثالث لشعار استهلاكي ثالث، ورابع وعاشر!!!
وهنا تكمن قيمة ما يعبر عنه النقاد ب "رؤية العالم"؛ إذ يكون المشهد _ حسب حالة الاستدعاء _ قابلا لتوسيع النظرة عالميا وإنسانيا؛ لتتجلي نظرة التجربة الإبداعية إلي العالم، من منظور أوسع وأشمل. وقد بدت بعض الملامح التي كادت تقترب بالتجربة الروائية من هذا الأفق الأوسع والدلالة الأعمق، مثلما رأينا لدي سيد الخميسي عن عبقرية المكان في بورسعيد وبحرها وبحيرتها، ولدي إبراهيم صالح في استحياء ابن كثير، وخبر الصليبيين، وفي رواية »عبادي« لزكريا رضوان:
- "كنت أجلس مختفيا وراء كتاب قديم عن الحرب الكونية الثانية".
لم يعمق الكاتب تلك الومضة؛ بالربط بين صدي وتداعيات الحربين العالميتين، وقد كانت لمصر وسواحلها مواقف فيهما. بل دعا الومضة تنقشع دون ربط بين الحرب الحديثة، وتلك القديمة، والتداعيات التي تهم الإنسان المكتوي بنارها في المواقف الحديثة.
ومثلما رأينا من الإشارة إلي الطريق الذي يصل ما بين ميناء المدينة وموانئ العالم، ومثلما رأينا في الرواية ذاتها من إشارة عجلي مقتضبة عن البحر، والبحر هنا هو أعظم بحر يمتلئ بالمعاني، ويغص بالتاريخ ويزخر بالأحداث منذ الأزل، وعلي مدي الحقب والقرون، وهو البحر الأبيض المتوسط، حيث تتربع علي ناصيته بورسعيد، كما نعلم، إنه يكتفي بسؤال السائل:
- البحر يا جدة مجرد مقبرة؟
- فتكون إجابة الجدة: البحر يا بني عمره ما نسي.
تلك هي عبقرية المكان الذي يستطيع الكاتب _ بعامة _ إظهار كوامنها بوسائل الإظهار المتنوعة المتعددة من: الجذب والتكاثر والتفاعل والخلْق والتخييل.
هل هذا يكفي في الحديث عن مدينة كهذه، في مكان عبقري كهذا، وموقع مرموق يحتل موقعه من ناصية هذا البحر، وفي تاريخ ممتد حافل فيه، وفي حرب، أو حروب ضروس دائرة فيه وعليه ومنه وبه؟
ويبقي في النهاية أن الروايات جميعها حملت بين جوانبها خصوصية المكان وعبقريته المتربع علي عرش ذهبي عند ناصية البحر
الأبيض المتوسط، وقناة السويس، ألا وهو.... بورسعيد.
غزالة قاسم مسعد عليوة
يمثل قاسم عليوة نوعا خاصا من المبدعين الذين يكادون يرسمون ملامح أولئك الذين أسرتهم صومعة الرهبنة الإبداعية، أو خلْوة الصوفية المتجلية؛ ذلك أنني مع مشاركتي إياه الانتماء والوجد ببورسعيد ما لقيته إلا ووجدته علي موعد مع حدث، أو سفر، أو همّ إو إنتاج أدبي، وهو مع هذا الذي يحيط به من أقطار نفسه جميعها، منْتج كمّا، وكيفا، متجدد نوعا وطريقة؛ فهو الذي أبدع في السرد: الضحك، وتنويعات بحرية، وصخرة التأمل، وغير المألوف، وحدود الاستطاعة، وخبرات أنثوية، ولا تبحثوا عن عنوان.. إنها الحرب، إنها الحرب، ووتر مشدود، وعربة خشب خفيفة، وحكايات عن البحر والولد الفقير، وأنشودتان للحرب، والديداموني ثم رواية اليوم، أو رواية الهلال (الغزالة)، وهو الذي كتب لنا: بحوثا في هويّة المدن، والقراءة المورفولوجية لها، وهو الذي كتب مجموعة من القصص والسيناريوهات للأطفال، إلي غير ذلك من جهوده المتنوعة المتدفقة.
ولي مع روايته التي هي بين أيدينا قصة وذكري تذكّرنا بباب شهير في مجلة الرسالة الجديدة كان اسمه (قصة القصة)، والعبرة فيها هي كيف ينمي المبدع فكرته ويخصّبها، ويمنحها قدرة توالدية تكاثرية جعلتنا الآن أمام عمل سردي مكثف مركز يختلف، فعلا، عما هو مألوف، هي صورة من الحياة، لكنها مختزلة لها، وهي في حياة البشر، لكنها تختزلهم علي طريقة النمط والأنموذج في رمزين، أو في قطبين، علي طريقة الصوفية أيضا، وذلك منذ الجملة الأولي للسرد:
"قلت لمعلمي: أتْبعك. قال: حاولْ لبسْت المرقّعة وحاذيته فنهرني: مه.. ما هكذا يكون اللباس، وما هكذا يكون الاتباع. قدّم لي خرقة كما تقدم خلعة أمير أو سلطان أو ملك. قلت: لكنها كثيرة الخروق مهلهلة. قال: من الخروق تنفذ، وبالهلهلة تفوز. هذان الرمزان هما: المتبوع والتابع المرسل والمستقبل، أو الرسالة والتلقي؛ حيث: (المعلم والتلميذ)، وبينهما عنصر آخر هو (الغزالة) التي ظهرت مع الموجة الأولي من السرد، وكان وجودها مواكبا ومعاصرا لوجود الرمزين السابقين، ظهرت والتلميذ جائع، فدفعته غريزة الجوع إليها راكضا ليذبحها ويأكلها، فكفّه أستاذه وحماها؛ لترافقهما الغزالة وترشدهما وتنقذهما، وتلازمهما حتي تهجره وترحل في صحبة معلمه، تاركين تأثيرهما في طالب الخبرة الحياتية التي منحها إياه أستاذه كأنها قارورة عطر، علي ألا يظل العطر حبيس القارورة، وكأنها هنا رمز الحقيقة التي نبحث عنها كما يفهم من تعدد معانيها؛ فالغزال: من الظباء، ومن هنا شبّهوا الجارية (الفتاة) بها تغزّلا (وقد انتهي السرد إلي غزالة فتاة فاتنة)، ومن معاني الغزالة: الشمس، وقيل: هي الشمس علي الحقيقة عند طلوعها، قالوا: "طلعتْ الغزالة، وذرّ قرن الغزالة"، وقيل: تطلق علي وقت الضحي تحديدا لظهور النهار واتضاحه، قالوا: "جاءنا فلان في غزالة الضحي"، ونحن مع غزالة عليوة كأننا مع غزالة ابن عربي، أو كأننا أمام عالم ابن المقفع فيما نقل من اللغة البهلوية إلي العربية من كليلة ودمنة في منتصف القرن الثامن الميلادي، وصاغه، فيما بعد، أبان بن عبد المجيد بن لاحق شعرا، أو كأننا أمام سهل بن هارون في "ثعلة وعفراء"، أو علي بن داوود في "النمر والثعلب"، أو قديما في السبع والفأر علي ورقة البردي، أو حديثا لدي "لافونتين"، وعربيا لدي: محمد عثمان جلال، وأحمد شوقي، وأمثالهم جميعا.
وتقوم شخصية المرسل أو(المعلّم) بدورها الفعال علي نحو قد يذكّرك بنبي جبران، وزرادشت نيتشه، وحلاج عبد الصبور، وبشر الحافي، وأمثالهم. لا علي سبيل (الفابولات)، أو الخرافة، أو الأسطورة. بل بالامتزاج بالواقع، والترميز، والإيحاء، كم أن السرد هنا لم يقصد إلي الهدف التعليمي، وإنما اتجه إلي تحليل الشخصية واستبطانها، لتقديم علامات وإشارات يمكن فك شفراتها بواسطة السارد العليم بكل شئ عن المجتمع المعاصر، وأنماطه ونماذجه البشرية.
إبيجراما القص في "رتوش ملونة علي بورتريه حزين": للسعيد صالح :
تمضي ظاهرة توظيف الإبيجراما والاستعانة بها أمام اطراد سرعة الإيقاع أعصي، فتلك المجموعة التي يكون التركيز والتكثيف أبرز سماتها استعانة ببلاغة الإيجاز، وأدق مثال لذلك أقصوصة (غروب) التي لا تتعدي بضعة أسطر علي نحو ما يبدو في نصها:
"شقراء الجدائل... تمشي مرحًا... أعدتها الحور العين قوامها تخطو كريحانة... تنثر عبرها في أرجاء الوجود بالأمس أفقت علي ذبولها وشحوبها!! تساءلت؟ قالوا: تزوجت".
ومثلها أقاصيص: (خيال)، و (محاولة فاشلة)، و (فرحة ما تمت)، و (خيال) وكل منها في أربعة أسطر.
ومع التكثيف الماثل في عدد الكلمات والجمل يأتي إيجاز الحذف، ودلالته النقطتان الأفقيتان (..)، وهو ما يسود المجموعة بأسرها.
وإلي جانب هاتين الوسيلتين من الإيجاز نجد الخاتمة أو النهاية اللماحة الموحية المكتفية عن ثرثرة السرد بالوقوف علي خلاصة الحدث ونهايته كتلك النهاية في (سحقا للنت)، حيث مفاجأة فراق الحبيب لحبيبته، ونهاية (حلم الجعان عيش)، حيث نفاد الدجاج.
كما نجد الجملة المفيدة التي تقع في نهاية السرد، تلك التي تغني السارد عن التبرير والتصوير وتفصيل القول، مثل آخر جملة في (في الظلام)، وهي: "يبصر بجانبه رداء أبيض آخر"، هذه الجملة التي فسرت الموقف كله؛ وذلك حين حدت المكان ووصفته، وبررت للأحداث والنهاية معًا، ومثلها (مطاردة)؛ حيث تنبئ جملة "النابح المسعور" عن بطل المطاردة التي تمت، ودوافعها وأسبابها.
أو البدء السريع؛ حيث اقتحام الأحداث دون تمهيد وصفي، كما بدا في تصوير حركة بطل (حصار).
وإذا وازنا بين منهجي السرد في المجموعة: المطول نسبيًّا، والمركز، وجدنا الغلبة للنوع الثاني، فلم يمل للإطالة النسبية إلا عن أقاصيص من بين أربعين أقصوصة، وبذلك مالت المجموعة إلي منطق الإبيجراما، وما مال إلي الطول كثر قيامه علي الجملة الفعلية القصيرة ذات الفعل المضارع: "يركل صفيحة صدئة... يلمح عقب سيجارة يلفظ أنفاسه... إلخ"، حتي لتضم بداية الأقصوصة ذات ثلاثة الأسطر أفعال مضارعة دالة علي تجدد الحدث وتدفقه واستمراره، وتضم الأقصوصة ذات أربعة الأسطر في جملتها عشرة أفعال مضارعة، وهكذا يمضي الفعل المضارع في جملته القصيرة مركزًا مكثفًا، وإذا غاب ذاك حل محله "الفلاش باك"، كما يدل عليه العنوان (ذكري)، أما سائر الأقاصيص الناحية منحي الإبيجراما، فيقل فيها الفعل نسبيًّا، ويكون الفعل الماضي دالا علي وقوع الحدث وتمامه، وانصرام الزمن وانتهائه. ومع الالتزام بالتركيز والتكثيف تأتي المفارقة في ختام الحدث والسرد القصصيين، حتي لتأتي المفارقة كالنصل المرهف الصقيل بحده الباتر، في وقفة خاطفة تستدعي انتباه المتلقي، وتحبس أنفاسه فيستسلم للتأمل والاستنتاج، أو مشاركة المبدع تأليفه، ويتحول التلقي إلي إبداع مواز، وفي تلك النماذج من المفارقات يبرز التناقض جريًا علي مبدأ ومنطق تلخصه الجملة المأثورة: "وبضدها تتميز الأشياء"؛ حيث يصرخ السود في مقابلة الأبيض، والأحمر في مقابلة الأصفر، ويبرز تناقض الدوافع والأسباب، والنتائج والغايات، والضمائر والسرائر، والواضح والمعلن في علاقات البشر وسلوكهم، يساعد علي ذلك دلالة العنوان وسيميائيته، كدلالة عنوان "في الظلام" علي النهاية، ودلالة عنوان "استباحة" علي الرمز الكامن في الأقصوصة، ذلك الرمز الذي يتعدي الدلالة الفردية إلي الدلالة المجتمعية الوطنية، أو الشاملة للأمة بأسرها؛ حيث تدل استباحة عرض الفرد علي انتهاك عرض الوطن كله. وغالبًا ما تكون المفارقة حادة غير متوقعة، تقلب ما أوحت به المقدمات رأسًا علي عقب كتلك المفارقات في أقاصيص:
(محاولة فاشلة)؛ حيث يطيح استغراق الزوج في النوم بأحلام الزوجة الراغبة، و (سحقًا للنت)؛ حيث يطيح فتي الأحلام بالحبيبة وبأحلامها، و (خيانة)؛ حيث يفضح العطر الغريب عن الزوجة مستورها وسرها، و (وهم الاشتياق)؛ حيث لا يتعدي هيام الرجل بفتاته وهم شاشة التليفزيون، و (يا فرحة ما تمت)؛ حيث تكشف ألوان ملابس اللاعبين تسديد اللاعب الكرة في مرمي فريقه. وتلعب المفارقة، علي ما سبق دورًا فنيًّا آخر، هو النأي عن التقريرية والمباشرة والفجاجة، وذلك باللجوء إلي النقد اللاذع والسخرية المرة، والتأمل الصريح؛ وذلك تطويرًا لمهمة الإبيجراما القديمة في الهجاء، أو مدح الثاوين في القبور، منذ ذلك نقد جوانب من العلاقات الزوجية في (محاولة فاشلة)، ونقد التشبث بالسراب في (سحقًا للنت)، ونقد الخيانة الزوجية في (خيانة).
استعانت المجموعة بنوعين من النصوص المصاحبة أو الموازية، تفسيرًا للدلالة ومساندة لها، وتعميقًا وشرحًا لأثرها، وإبرازًا للموضوع والقضايا والهم القصصي.
(أ) أحدهما النص المصاحب للأقصوصة، وذلك في نماذجه التالية:
1- الإهداء "إلي المستحيل الثالث... الخل الوفي... إلخ.
2- الاستهلال بنص شعري للشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي يعلي من شأن الصراحة، وينبذ الرياء، وإخفاء الحقيقة، وهذا ما تتغياه المجموعة.
3- تصدير التقسيم المفصلي للمجموعة بشعر مناسب لمحتوي المجموعة الجزئية؛ حيث تصدرت الجزء الأول، وعنوانه: "ظلال رمادية علي جدران سوداء"، رباعية لنجيب سرور عن ضياع قيمة كل شيء ما عدا الموت، وتصدرت الجزء الثاني، وعنوانه: "منمنمات أنثوية" أبيات للشاعر نزار قباني تحث المرأة علي الثورة علي واقعها، وتصدرت الجزء الثالث وعنوانه: "تباريح ضاحكة أحيانًا... باكية دائمًا" أبيات للشاعر أمل دنقل، حيث استسلام المرأة الفقيرة للواقع الأليم. كانت هذه النصوص المصاحبة شعرًا في مطالع المفاصل، أما في بداية القصة فكان النص المصاحب نثرًا، كذلك النص السابق لأقصوصة (فرحة الوداع): "كلما ازداد اليأس علي الأرض أرسل الله أما".
(ب) ثانيهما العنوان، بما له من أهمية بالإضافة لتلك العناوين المفصلية المشار إليها تنوعت العناوين إلي خمسة أنواع، أحدها: استيحاء الشائع الذائع علي ألسنة الناس مثل:
يعوض عليك ربنا _ خيال المآتة _ جواب نهائي _ حلم الجعان عيش _ يا فرحة ما تمت _ يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف _ ضربة خلفية مزدوجة _ كش ملك. وثانيها: العنوان الروحي والديني: سامحني يا رب.
وثالثها: العنوان المباشر: ثوب الثقة _ فرحة الوداع _ الساخر من الحياة _ خيانة _ مطاردة.
ورابعها: العنوان الرومانسي: الهمس الأبدي _ وحشة الفراق _ ذكري _ غروب _ لوعة الفراق _ ارتشاق الدموع.
وخامسها: العنوان المعاصر: سحقًا للنت _ ريكس.
وهكذا تقدم المجموعة الثالثة للكاتب السعيد صالح جديدًا بعد شقيقتيها: المرأة وأشياء أخري 1997، وتراتيل الزمن الحزين 2001 ماضية في ظواهر القصة الشبابية الجديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.