انتخابات الشيوخ 2025.. التنسيقية: لجان الاقتراع في نيوزيلاندا تغلق أبوابها    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    «الاتصالات» تطلق مسابقة «Digitopia» لدعم الإبداع واكتشاف الموهوبين    روسيا: تحرير بلدة "ألكساندرو كالينوفو" في دونيتسك والقضاء على 205 مسلحين أوكرانيين    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    الكوري سون يعلن نهاية مسيرته مع توتنهام الإنجليزي    تفاصيل القبض على سوزي الأردنية وحبس أم سجدة.. فيديو    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق "بلبيس - السلام" بالشرقية    «تيشيرتات في الجو».. عمرو دياب يفاجئ جمهور حفله: اختراع جديد لأحمد عصام (فيديو)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت 26 مليونا و742 ألف خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    هايد بارك ترعى بطولة العالم للاسكواش للناشئين 2025 تحت 19 عامًا    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    الثقافة تطلق الدورة الخامسة من مهرجان "صيف بلدنا" برأس البر.. صور    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات المكان في الرواية: المفهوم والدلالة والتأويل
نشر في صوت البلد يوم 28 - 07 - 2010

وعندما تذكر أمامنا، أو تطفو علي سطح ذاكرتنا، تأتي ومعها كل إيحاءاتها، ونتوءاتها، وأيضا قيمها. يعتري مصطلح المكان إشكاليات في الدراسات النقدية، وهي ناتجة عن الترجمة الغربية للمصطلح Space، Espace فلم يتعامل النقاد الغربيون مع مصطلح "المكان" إلا عرضا. وترجم بعض النقاد العرب المصطلح الأجنبي ب "الفضاء"، وهو يعني في طياته الخواء والفراغ، وأيضا يعني الخلاء المكاني، والبعض يترجمه ب "الحيز.. "، ويشمل معطيات المكان: النتوء، والوزن، والحجم والشكل، وهو الشيء المبني في فضاء مكاني، وهو أيضا الامتداد المتصور، ويمكن أن يدرس من خلال وجهة نظر هندسية، فالفضاء بمثابة الوعاء الضخم الذي يستوعب بداخله الأمكنة المختلفة: الكون بمجراته ونجومه وكواكبه، والأرض بما عليها، وإن كانت دلالة الفضاء تعني في الذهنية العربية: الفراغ والخواء وأيضا العدم . ولفضّ هذه الإشكالية، ما بين إطلاق تسمية المكان أو الحيز أو الفضاء، نعود إلي المفهوم المقصود بدايةً، فهو يشير إلي دلالة الموضع الذي يعيش عليه الإنسان علي سطح الأرض، وهذا الموضع يشمل موقع سكنه، وعمله، وسائر أوجه نشاطاته وعلاقاته الإنسانية بكل تداخلاتها وأبعادها، ويتسع أكثر ليشمل الطبيعة من حوله: صحراء، غابات، أنهار، أمطار، وهو تنعكس علي تكوينه، مثلما تتأثر بأنشطته وحياته.
والدلالة اللغوية في المعاجم العربية، تشير إلي أن المكان هو: الموضع، وتعني التوسع المكاني، وتطلق علي وكنات الطير والمنازل ونحوها. وأيضا تعني الاستقرار والوجود والثبات في مكان ما وجمعها أمكنة وأماكن، وبالتالي، فإن المعني هنا يتفق مع الدلالة المبتغاة، فلا بأس من إطلاق تسمية المكان عليها، فالعبرة بالدلالة المقصودة والمفهومة لدي الباحث والقارئ، خاصة أن المصطلح مستخدم في الدراسات الأدبية العربية منذ عقود، واستقر استعماله بشكل كبير . فعندما يذكر المكان فهو: موضع العيش والإقامة، وموضع السفر والهجرة، وهو الحيز الذي يحوي الإنسان وأنشطته، ويتسع ليشمل الأرض بما عليها. وبعبارة أخري، فإننا نربط المكان بالرؤية الأدبية والنقدية المتفق عليها، وننأي به بعض الشيء عن المقصود الحرفي للكلمة الأجنبية، التي قد تشمل الفضاء الخارجي، وهذا ما يؤيده الفلاسفة وبعض العلماء، بتحجيم خصائص الفضاء (الحيز) وقصرها علي مجرد علاقات بين الأجسام الحقيقية، فالمكان "مجرد وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن هذه العلاقات وهم يرون أن العلاقات المكانية بين الأجسام لا تحتاج إلي وجود شيء ملموس قائم بذاته اسمه المكان إلا بقدر ما تحتاج العلاقة بين مواطني بلد ما شيئا ملموسا اسمه المواطنة"، كما يري ديفيز في "المفهوم الحديث للزمان والمكان" (ترجمة د. السيد عطا ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1998، ص12). وهذا يعني أن المكان مجرد اصطلاح دال علي وجود، وهذا الوجود: بشر، بيوت، مصالح، تشابكات، تعاركات، ومن وراء ذلك هناك أفكار ومشاعر وأحاسيس ورؤي تتوالد، وهذا ما يترسخ في أعماق الأديب، لتملأ وجدانه، ويفيض بها مداد قلمه. لذا فإن مفهوم المكان في الأدب لا يفهم من خلال الوصف المادي فحسب، وإنما في العلاقة الجدلية التي بين الإنسان/ البطل/ الأديب والمكان، وفي العلاقة الدافئة أو الحادة، التي تستشعرها الذات الأدبية في علاقتها بالمكان، وهذا ما سيتم تفصيله بعدئذ. قد يكون هناك تصور أن لا علاقة بين المكان والزمان؛ فشتان بينهما، فالمكان مادي، أما الزمان فهو يدرك ويلاحظ، أي غير مادي، وإن كان يمكن متابعته وقياسه بوسائل مادية.
ولكن علماء الرياضيات والفيزياء لهم رأي مختلف في هذا الشأن، حيث يكاد تعريفهم للمكان يتماثل مع تعريفهم للزمان، فهو يرون أن الحركة تعد حلقة وصل بين الزمان والمكان، فدراسة حركة الأجسام والإشارات الضوئية تكشف عن أن المكان والزمان ما هما في الواقع إلا مظهران لبنية واحدة تسمي المكان/ الزمان (حسب ديفيز) أو الزمكانية إذا جاز التعبير، وهذا لا يبدو إلا بالتأمل فيما حولنا، فالسفر، أيا كان برا، بحرا، جوا، وفي الفضاء الخارجي؛ يعبر عن الوحدة الزمانية والمكانية، فإذا كنا نقطع الطريق مسافة مئة كيلو متر لمدة ساعة، فهذا يعني مكان وزمان متحدين. ونفس الأمر في حركاتنا في الفضاء المكاني، فنحن نقضي حوائجنا بحركة أجسادنا في زمن ما علي مكان ما، وهكذا يكون الزمكاني، وبه نقرأ الوجود من حولنا، ونقرأ المكان قراءة شاملة، لا تحصره في المادي فقط، فهو يشمل الزمان والإنسان أيضا.
وهذا ما ينطبق علي الحدث في القصّ، فالحدث لا يختزل في مجرد الحركة، وإنما هو دال علي نشاط الإنسان، في فضاء المكان، خلال فترة من زمن، أي تتطور قراءتنا لأحداث القصص من فهم الحدث كحدث إلي تحليل المكان ودلالته، والزمان وأثره . علي جانب آخر، فقد ثوّرت النظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان بوصفهما وحدة واحدة، متجاوزة ما طرحه نيوتن؛ الذي رأي أن المكان ليس مطلقا في وعينا، بينما الزمان مطلق، فالمكان لديه نسبي أما الزمان فثابت، ثم يجيء أينشتين ليعارضه مؤكدا أن الزمان والمكان نسبيان، فكل إنسان لديه إدراكه الخاص للزمان، الذي يشابه المكان في نسبيته.
وكي تتضح الصورة أكثر، فإن إطلاق شعاع من جهاز رادار علي الأرض إلي القمر، سيختلف إدراكه زمانيا ومكانيا، فلو حسبنا مسافة الشعاع من مركز الشعاع علي الأرض إلي القمر ستكون مختلفة عندما نحسبها ونحن واقفون بعيدا عنها عند القطب الشمالي مثلا، ونفس الأمر في الزمان، فرؤيتنا لزمن الشعاع يختلف من مركز الأرض عنه من قطبي الأرض وهكذا (حسيما يؤكد ستيفن هوكنج في تاريخ موجز للزمان. الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2001 ، ص30 ، 31 ).
ولو طبقت هذه النظرة علي الصعيد الأدبي، فإن تعاملنا مع المكان يختلف من فرد لآخر، رغم الاتفاق علي مكوناته، فإدراك البدوي للصحراء التي عاش فيها وتعامل معها؛ يختلف جذريا عن إدراك الجيولوجي لها، وعن إدراك عالم النبات، وأيضا يختلف العصر زمنيا في وعي من عاشَه، عن وعي المؤرخ الذي يسجل أحداثه، أو من يقرأ هذا التسجيل في عصور لاحقة.. إذن وعي الذات للمكان، يختلف زمنيا، فلا يقرأ المكان بمعزل عن الزمان.
تحيلنا السيميوطيقا (علم العلامات) في قراءتها للمكان إلي إدراك جديد للمكان، يتجاوز ماديات المكان إلي علامات المكان؛ فهو "ليس فضاء فارغا، ولكنه مليء بالكائنات وبالأشياء .. ، والأشياء جزء لا يتجزء من المكان، وتضفي عليه أبعادا خاصة من الدلالات" . (حسب سيزا قاسم في القارئ والنص (العلامة والدلالة) المجلس الأعلي للثقافة ، القاهرة ، 2002 ، ص48).
فالمكان الذي نحيا فيه ليس سلبيا ولا صامتا، ولكنه يحمل دلالة تتخلل جميع الأبعاد والإحداثيات والأركان والظواهر الطبيعية والأشياء، وهي تتمثل خير تمثيل في الفن، فعندما نذكر أشياء من المكان فهي بمثابة علامات عليه وعلي مكوناته، فلا يحتاج المبدع إلي ذكر تعريف تفصيلي لمدينة شهيرة، وإنما يكتفي باسمها، وبعض معالمها في سياق نصه، وتكون هذه المعالم إحالات تعطي أبعادا معرفية وتأويلية ونفسية للقارئ . فتتم دراسة الإشارات المكانية ضمن منظومة (سيميوطيقية) علاماتية كاملة، وفي ضوء معطيات النص الجمالية والرؤيوية، فليست الأطلال في الشعر الجاهلي - الواردة مجرد إحالات معرفية بل إشارات مكانية، إنها رموز علي زمن تولي، كان للشاعر علاقات مع شخوص عاش معهم فيها، وكانت الأطلال ? كلما مر بها ? شاهدة علي حقبة زمنية، بكل تداعياتها وأحداثها. وتختلف هذه العلامة من شاعر لآخر، مثلما هي تختلف من مكان إلي آخر، ومن زمن إلي آخر، فتكون علامة مميزة للنص، وتفهم من سياقه، وتعكس نفسية شاعره.
إن كل نص له علاماته المكانية، التي تكون وسيطا بين المبدع والقارئ، وتبدأ هذه العلامة بمعلومة مفصلة أكثر، ثم تتحول في متن النص إلي علامة علي هذه المعلومة، وكلما ارتبطت الأحداث بهذه العلامة المكانية، ازدادت إيحاءاتها كلما ذُكِرَت في النص، ويتفرع عنها ? في ثنايا النص ? علامات فرعية، تشكل في مجملها شفرات مكانية، تسهم في إنتاج الدلالة بشكل إضافي، إذا قرئت بعناية . فالشفرات السيموطيقية "توفر إطارا تصوريا، تصبح العلامات فيه مفهومة، أي أنها أدوات تفسيرية تستخدمها الجماعات أو التجمعات التأويلية" (حسبما ورد في معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات "السيموطيقا"، دانيال تشاندلر، ترجمة: د. شاكر عبدالحميد ، منشورات أكاديمية الفنون، القاهرة ، 2002، ص30).
للمكان مظهران؛ المظهر الجغرافي المباشر، الذي يرصد المكان بشكل تقليدي واضح، ويرصد جزئياته بوصف الجبل والطريق والبيت والمدينة وغير ذلك، وهناك المظهر الخلفي غير المباشر للمكان، حيث يمكن تمثل المكان بواسطة كثير من الأدوات اللغوية ذات الدلالة غير التقليدية، مثل سافر، خرج، أبحر، مر بحقل. فيكون المكان حاضرا كصدي، وضمن الخلفية.
وعندما يقرأ النص من منظور مكاني، لا يقف القارئ الفطن عند المظهر الجغرافي ولا المظهر الخلفي، وإنما يقرأ المكان ضمن الهرمنيوطيقا (علم تأويل النصوص) وهو "نظام من الممارسات التفسيرية الضمنية أو المضمرة، يتصف نسبيا بالانفتاح والاتساع، وينشط غالبا علي مستوي اللاشعور، وذلك في مقابل الشفرات الأكثر وضوحا وتحديدا من الناحية الشكلية" (حسب معجم العلامات)، وهذا يحفز القارئ إلي إعادة التعاطي مع المكان بوصفه عالما يتجاوز المادي إلي اللامادي، وتتفاعل في أعماقه العلامات التي يوردها السارد عن المكان، ليعيد تلقي النص بشكل مختلف، ولا شك أن قراءة علامات المكان ستسهم في فهم النص بشكل مختلف، وتعطي المزيد من الدلالات والتأويلات.
فالمبدع يتعامل مع المكان بإدراكه الخاص، بخياله، وأحاسيسه، وبرؤيته لطبيعة البشر القاطنين في المكان أو المرتحلين عبره. وهو يتجاوز الأرضي إلي المكان الفسيح في الكون: نجوما، وكواكب، وسموات، فيمكن أن يصهر كل هذا في نص واحد، وفي جملة واحدة.
وعندما نتأمل القص العربي مثلا نجد أن المكان شهد تجليات عديدة، اختلفت حسب رؤية المبدع وعلاقته وتعبيره عن المكان، وحسبما استقر في وعي القارئ، وهذا ما يمكن تأويله في محاور أربعة: حيث يكون وعاء للأحداث والشخوص، ومعبرا عن روح العصر، وطبيعة المجتمع والعلاقات الاجتماعية الكائنة، وأيضا العلامات المعمارية فيه. وهذا يبدو في أعمال نجيب محفوظ مثل: زقاق المدق، قشتمر، وثلاثيته: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية• فهذه عناوين لأحياء شعبية في القاهرة، فقد جاء المكان كوعاء يحتوي الشخوص وحركتها وتوجهاتها الفكرية والثقافية، فلا غرابة أن تتعنون الروايات بعناوين الأحياء، فهي ليست روايات أحداث وشخوص، إنها روايات عالم بأكمله، يتجاور الأحياء ويتحاورون ويتعايشون ويتعاركون فيه، وتتعاقب عليهم الأزمنة في نفس المكان، وتتنوع الأحداث، وتهرم الشخصيات، ويولد الجديد، وتتبدل معالم المكان، ولكن يظل المكان حاويا لكل هذا• وبتعبير نقدي إنه "تماهي الأزمنة، وثبات الأمكنة"، فالمكان ثابت، والأزمنة والشخوص تتبدل، وتتغير الأحداث، وعندما ننظر برؤية مكانية (وعائية) إلي روايات نجيب محفوظ سابقة الذكر، نجد أنه يعبر عن أمكنة متقاربة جغرافيا، ولكنها تتسع زمنيا، وتتنوع في أنماط البشر وأخلاطهم، فكأن العناوين المكانية معبرة عن ثبات المكان، رغم التسليم بتبدل معالم هذا المكان، وتحولات الشخصيات فيه. حيث يصبح المكان هو المهيمن والمتحكم في حركة الشخوص ومسببا للأحداث الرئيسة فيه، ونري هذا في ثلاثية عبد الرحمن منيف "مدن الملح"، فقد كان المكان بصحراويته القاحلة الشاسعة الجافة، هو المهيمن علي تصرفات الشخوص، وهو أيضا السبب في قدوم شركات النفط الأجنبية، التي قلبت حياة سكان الواحة رأسا علي عقب، ومن ثم تغيرت معالم المكان، وتغيرت النفوس وتصارعت الأحداث، وتبدلت الأفكار.
ونفس الأمر نجده في أعمال الروائي الليبي إبراهيم الكوني مثل: الواحة، البئر، التبر، نزيف الحجر، ديوان النثر البري، حيث نري الطبيعة الجبلية مهيمنة علي سلوك وتكوين الشخصيات، وأحيانا صانعة للأحداث، فعندما تنحدر الصخور العملاقة من أعالي الجبل تصبح هي الحدث الرئيس الذي تدور حوله أحداث عديدة، وتختفي شخوص، وترحل شخوص. وعندما يجرف السيل قرية بأكملها، تتشتت الجثث، وتتفتت الأسر، فالمكان هو المهيمن في كل ذلك، وهذا ليس مجرد أحداث فرعية، وإنما تبدأ الرواية بوصف المكان، ومن فيه، ومن ثم تتوقف حياة الشخصيات حسب ما ينتج عن المكان من خير أو شر.
ويتفرع عن هذا المحور ما يسمي "معلم المكان المهيمن" وفيه يكون أحد عناصر المكان هو البطل المهيمن، كما في القصة القصيرة "أم الشعور" ليوسف إدريس مثلا، وفيها نشاهد علاقة شجرة أم الشعور ورعايتها لطفل عاني الفقد والحرمان، فيتعايش معها، وتحتضنه بظلالها، وتعانقه بأغصانها، وتتكون علاقة أشبه بالأمومة بين هذا المعلم المكاني في بيئة زراعية.
وفيه يتراجع المكان، ويكون علي هامش النص، أي يكون إطارا وحوافا، فيكتفي السارد بذكر إشارات مكانية بسيطة، تجعل القارئ يدرك إطار الأحداث الدائرة، لأن صناعة الحدث هنا تتأتي من معطيات أخري، مثل رواية العيب ليوسف إدريس، فقد اكتفي بذكر القاهرة كإطار جامع للشخصيات، ومن ثم تتفاعل الأحداث، حيث تتعرض البطلة إلي ضغوط الأسرة وحرمان الأخ من دخول الامتحان لعدم دفع المصاريف، ومن ثم ترضخ البطلة إلي الإغراءات وتتنازل لزميلها في العمل، في الوقت الذي كان يفكر فيها كزوجة.
ويكون المكان إطارا خادعا أيضا، كما في روايتي " فيينا 1960"، ونيويورك 1980" ليوسف إدريس، فالسارد في الروايتين مبهور عند وصوله إلي المدينتين بمظاهر الحضارة العربية ومعالمها، ولكنه يستسلم لغوي النفس، وبدلا أن يقيم علاقة إيجابية مع المكان (ثقافيا وفكريا)، يصبح المكان خادعا وينحدر الخداع إلي درك علاقة جنسية مع امرأة نمساوية (في رواية فيينا)، وتكون جلّ الأحداث فيها حول هذه العلاقة التي بدأت بتحرش في الباص، ثم مرافقته لها إلي مسكنها، ليظل البطل علي هامش المكان، مستسلما لغوايته وهي غواية تقليدية كما اعتدنا في السرد العربي لكل من تعامل مع الغرب مكانيا، ويتكرر الأمر ذاته في روايته نيويورك 1980، حيث يقف البطل عند حافة المكان ليكون شاهدا علي قسوة المجتمع الأمريكي، وتهافته، وأيضا تجاوزاته.
ويكون حضور المكان ضعيفا، يكتفي السارد بإشارت بسيطة عن المكان، وهو اتجاه استدعته ضرورة فنية، حين يكون الحدث أو الشخصية هي أساس الرؤية، وأيضا يكون المكان معروفا مألوفا للمتلقي، فلا يحتاج إلي تفصيل وإيضاح، وإنما هدف القارئ الوقوف علي معطيات القص والحدث. وهذا واضح في العديد من الروايات مثل رواية "في عيون الآخرين" للروائي علاء الدين مصطفي، فالمكان شقة يعيش فيها البطل مع زوجته وأمه، وتكاد تتلاشي أية خصوصية للمكان فيها، إنها شقة في مدينة عصرية، وتنصب أحداث الرؤية علي شخصية الزوجة التي تنمحي في شخصيات مَن حولها، فلا نراها إلا من خلال عيونهم، إنها تعيش علي هامشهم، وكل أفعالها صدي لأفعالهم، فتحيا في أزمة وضياع طيلة أسطر القص، لا نكاد نعثر علي فكر لها، ولا تصرف حاسم يميزها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.