حتى لا نتوه الثورة المصرية والنظام الراسمالي .... تعتبر الراسمالية الغربية ظاهرة تاريخية، ارتبطت بالظروف التي أنشأتها، ومكنتها من التجدد عبر خمسة قرون، (من منتصف القرن الخامس عشر وحتى الآن)، وهي ظروف لن تتكرر لأن التاريخ لا يكرر نفسه، وظهرت الرأسمالية كنمط إنتاج في القرن السادس عشر، ثم تطورت تدريجياً، بتحالفات سياسية متغيرة، وأحداث عالمية مهمة، حتي حققت الثورة الصناعية، التي أحلت الآلة محل الجهد العضلي للإنسان، فكشفت بذلك عن حقيقتها، وسعت للاستيلاء علي الحكم، وتغيير الأوضاع السياسية والقانونية والأخلاقية، وليست الاوضاع الاقتصادية فقط، وأنشأت الدولة القومية، محل دول الملوك، وجعلت الأمة مصدر السلطات، محل الملك صاحب الحق الالهي. وما يهمنا هنا هو مدى تأثير النظام الرأسمالي الغربي على تطور ونمو الاقتصاد المصري، وعلى مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في بلادنا، وكيف استطاعت، على مراحل متعدد، تطويع وتكييف كل بلاد العالم الغير رأسمالي، واخضاعها لشروط نمو الراسمالية الغربية، ونمو حركة تراكم رأس المال بالمراكز الصناعية، وكيف أفضت الليبرالية الجديدة، وهي أعلى مراحل نمو الراسمالية، لان تكون السبب الرئيسي لإندلاع ثورات الربيع العربي. كانت البدايات الاولى لنهب ثروات دول شرق المتوسط، عن طريق حروب الفرنجة، المسماة بالخطأ (الحروب الصليبية)، 1096 1291م، وذلك من اجل توريد ما يلزم من مؤن وغذاء وسفن وخيول لجيوش نبلاء الحرب القادمين من غرب اوربا، وشراء او سرقة السلع الترفيهية لبيعها لأغنياء أوربا بأرسعار غالية جداً، وكانت بلاد شرق المتوسط وقتها الاكثر تقدماً وثراءً واستقراراً، بينما كانت دول الغرب مازالت تعيش في ظلام العصور الوسطى. ثم بدأت مرحلة الكشوف الجغرافية ، من نهاية القرن الخامس عشر، حتى منتصف القرن السابع عشر، باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1497م، والوصول الى الهند والامريكتين، ونهب موارد البلاد المكتشفة، وتكوين مستعمرات ومحطات تجارية للمستوطنين البيض على المناطق الساحلية، وتم ذلك باستخدام القوة والقهر والإبادة الجماعية والقرصنةللسكان الاصليين في البلدان المكتشفة، وفي تلك الحقبة التي بدأت الراسمالية الغربية في التكون، كانت بداية الاحتلال التركي لمصر 1517م، وبداية عزلها عن العالم الخارجي، الآخذ في التطور بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري، واستمر ذلك حتى الحملة الفرنسية على مصر 1799م. وابتداءً من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كانت مرحلة الرأسمالية التجارية في الغرب، وظهر فيها ما يسمى بالدول القومية في اوربا الغربية، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي، عن طريق الشركات العملاقة على أسواق العالم، وهي فترة تجارة العبيد، ونهب الكنوز الطبيعية لتلك البلاد، والتكدس الهائل لفائض راس المال، الذي كون التراكم البدائي لرأس المال في مرحلة الثورة الصناعية. ثم أتت مرحلة الثورة الصناعية، الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، نشأة هذه المرحلة من تحالف البنوك مع الصناعة، وظهور رأس المال الصناعي، وافضت الى نمو هائل في المنتجات الصناعية، والتى تفيض عن حاجات أسواق البلاد الصناعية، وظهور الحاجة الى منافذ خارجية لهذه المنتجات، وقد ادى رخص وجودة هذه المنتجات، إلى تدمير المنتجات المحلية لبلاد الأطراف الغير راسمالية، وضرب نمازج الإنتاج التقليدية المتنوعة في تلك الدول، وكانت تلك بداية تقسيم الأدوار في النظام الرأسمالي العالمي، واصبح دور دول الأطراف في النظام الجديد يتمثل في تصدير المواد الأولية الزراعية والمنجمية، وإستيراد جميع المواد المصنعة، واتباع سياسة السوق الحرة، واصبحت التجارة الدولية، المحدد الرئسي لمركز وقوة كل دولة في النظام الراسمالي. وخلال تلك الحقبة كانت الحملة الفرنسية على مصر (1799 1801م)، والتي كشفت الفجوة الرهيبة في التقدم والتطور الصناعي والعلمي والمعرفي بيننا وبين الغرب، وكانت بذلك محاولة محمد علي (1805) انشاء دولة حديثه، وجيش قوي، وكانت اول محاولة مصرية لبناء قاعدة صناعية في مصر، وتحقق ذلك ببناء المصانع اللازمه لتصنيع جميع احتياجات الجيش، وانشاء مدرسة المهندسخانه، وبدأت هذه القاعدة الصناعية في التوسع، بسبب تزايد احتياجات الجيس بتوسع الفتوحات العسكرية، ولكن سرعان ما ادرك الغرب خطورة ما يقوم به محمد على، وقام بكسر محاولته، بتدمير اسطوله وهزيمة جيشة، وتحجيم دولته بمعاهدة لندن عام1840م، وبدأت بعدها الصناعات في التراجع بأطراد. ومع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت مرحلة الاستعمار والإمبريالية الغربية، وتميزت بتكوين اقلية مالية مسيطرة ومحتكرة للأسواق، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة،منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبدأت حقبة الاستعمار العسكري، لاخضاع دول الاطراف بالقوة العسكرية، واخضاعها بالكامل لخدمة النظام الراسمالي الغربي، وحتى عام 1900م، كانت 90.4% من دول افريقيا، و75% من دول اسيا، تحت الاحتلال الاجنبي، ولكن لم تكن حصص دول المركز الراسمالي لترضي أغلب دوله، وتسبب ذلك في الحروب العالمية الاولى والثانية، وما تلاها من بروز حركات التحرر الوطني، وانتهاء الاحتلال العسكري، لاغلب دول العالم، والتي انتهت بظهور الولاياتالمتحدةالامريكية‘ كقوة قائدة للعالم الرأسمالي، لضمان بقاء دول الأطراف بنفس الهياكل الاقتصادية المشوهة، لإستمرار نفس العلاقات الغير متكافئة، ولكن باسلوب سيطرة جديد، يعتمد علي خلق روابط قوية مع الطبقات الاجتماعية السائدة، من كبار الاقطاعيين وكبار الملاك وكبار التجار، وكبار البيروقراطيين، وذلك تحت مسميات مختلفة مثل العلاقات الخاصة الثنائية بدول المستعمرات السابقة، والمعونات الاقتصادية، واستخدام القوة العسكرية اذا لزم الامر. ومنذ بداية حقبة الاستعمار البريطاني لمصر 1882م، حرصت سلطات الاحتلال على تجميد الاوضاع الاقتصادية في مصر، لاستمرار تدفق المنتجات الزراعية والمنجمية، وتولدت صناعة مصرية مشوهه، مرتبطة بنظام الاقطاع البدائي، وكانت اغلب ارباح التجارة والصناعه تعود مرة اخرى للاستثمار في الاراضي الزراعية، وكانت الصناعة المصرية طوال هذه الفترة ذو تكوين اجنبي، وذلك لاسباب كثيرة، منها تفضيل التجار المصريين الاستثمار في الاراضي الزراعية، بعد الاصلاحات التي قام بها كرومر في شبكات الري والصرف، وزيادة انتاجية الاراضي الزراعية، واستصلاح مساحات واسعة من الاراضي، وبسبب الثقافة الدينية لدى المصريين آنذاك عن المصارف والتامينات، بالاضافة الي الامتيازات الكبيرة التي حصل عليها الراسماليين الأجانب بعد الإحتلال البريطاني لمصر. وكانت المحاولة الثانية لمصر لبناء قاعدة صناعية وطنية، بعد عام 1952م، وتبني الدولة الناصرية، مشروع التنمية المستقلة، ودعمت الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وتدخلت الدولة في التصنيع بقوة، وخاصة في الصناعات الثقيلة، وكانت جميعها بمساعدات مالية وتكنولوجية وعلمية من الاتحاد السوفيتي، ولم يكن الغرب راغباً في ذلك، بل حارب هذه المحاولات بكل الطرق السياسية، والاقتصادية، والعسكرية. وبوصول خلفه السادات الى الحكم، بدأ مسلسل هدم هذا الصرح الوليد، بأشكال متعدده، من ضمنها الارتباط الكامل بالرأسمالية العالمية، ولسياسات السوق المفتوح، والتي تتعارض مع مصلحة الصناعات الوليدة، الغير قادرة بطبيعة الحال على الدخول في منافسة مع دول المركز الرأسمالي، واستمرت سياسات هدم الصناعة الوطنية المنتجة، طول فترة خلفة مبارك، بتخريب وبيع مصانع القطاع العام، وظهور الراسمالية الريعية والعقارية وتحالفها مع النظام، على حساب الرأسمالية الصناعية الوطنية. وبدأ منذ ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد منذ سقوط منظومة الاشتراكية العاليمة، وما تلاها من انهيار منظومة التحرر الوطني، وانحصار دور التيارات والقوى الاشتراكية، وظهور حقبة القطب الواحد، وبداية سيادة مفهوم الليبرالية الجديدة، وهي احدث مراحل السيطرة على دول الاطراف الغير رأسمالية، وتميزت باقترانها بالتطور الهائل في في مجال الاتصالات، وثورة المعلومات، والتكنولوجيا، وقيام التكتلات الاقتصادية العملاقة، واصبحت هناك حاجة لفكر جديد يبرر ويخدم تلك الليبرالية الجديدة، تحت مسميات جديده مثل تحرير التجارة العالمية، وإعادة الهيكلة، والتكيف، والخصخصة، وأصبحتالسياسة التجارية للدول المستقلة، ولأول مرة شأناً دولياً، وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية الخالصة، وتطلب ذلك وجود مروجين ومنفيذين محليين (الليبراليون الجدد)، واعتمدت الليبرالية الجديده على آليات عالمية لتنفيذ برامجها الاستعمارية الجديدة، مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ولكن الطبقات المنتجة كالعمال، والفلاحين، والحرفيين، والفئات الفقيرة والمهمشة، وطبقة البرجوازية الصغيرة، بالاضافة للطبقة الوسطى التقليدية، لم تعد قادرة على تحمل ويلات هذه الامبريالية الجديدة، وما افضت اليه من تشريد قطاع عريض من الطبقة العاملة، بخدعة المعاش المبكر، وزيادة عدد العاطلين عن العمل الذي طال خريجي المدارس والجامعات، بل وحاملي شهادات الماجستير والدكتوراه، وضرب ما تبقى من الصناعة الوطنية، عن طريق السوق المفتوح، ونظام التجارة الحرة، والارتفاع الكبير في اغلب الاسعار، لاسباب كثيرة اهمها الاحتكار لجميع الانشطة الاقتصادية، وعيره. وبدأت الهبات والاضرابات العمالية والفئوية في التصاعد بشكل غير مسبوف منذ بداية الالفية الجديدة، وكانت زروة تلك الاحتجاجات في انتفاضة عمال المحلة في 2006م، وما تلاها من ارتفاع عددي وكيفي في كل اشكال الرفض، والتي اصبحت ظاهرة يومية في كل مدن مصر، ولم يفطن النظام المفصول عن الجماهير، لما وصل اليه الاحتقان الجماهيري، فراح يزور الانتخابات البرلمانية في عام 2005م، وانتخابات 2010م، بشكل كامل، وكانت تلك الشرارة التي مهدت لثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011م. وبمجرد سقوط رأس النظام السابق، وخوفا من تحول الثورة السياسية الى ثورة اجتماعية شاملة، بدأت الراسمالية العالمية بقيادة الولاياتالمتحدةالامريكية، بالتحالف مع اليمين الديني المتطرف (الليبراليون الجدد الملتحون)، والذين يملكون شعبية جماهيرية وقتها، وقد سبق الترتيب معهم، اضافة الى ترتيبات مع جهات اخرى عربية واقليمية، على تطويع وتكييف المنطقة العربية ومنطقة الشرق الاوسط، واخضاعها لشروط المؤسسات المالية العالمية، المعبرة عن مصالح دول المركز للراسمالية الغربية، لضمان نفس الاهداف القديمة الجديدة، وهي استمرار نفس العلاقات الغير متكافئة مع دول الاطراف، وضمان استمرار تدفق المواد الاولية الزراعية والمنجمية، واستمرار الاستحواز على الاسواق المحلية، واستمرار تدفق رؤوس الاموال لدول المركز الرأسمالي، وذلك لاستمرار ضمان بقاءه ونموه، ولكن مالبث هذا السيناريو ان انهار لأسباب كثيرة، لامجال لذكرها هنا، ويعتر هذا اهم اسباب التمسك الشديد للادارة الامريكية، كممثلة لدول المركز الرأسالي، ببقاء نظام الاخوان وحلفائة المتأسلمين في السلطة. ولكن هل يصلح النظام الاقتصادي السائد، التابع للراسمالية العالمية المتوحشة، لتحقيق آمال وطموحات الشعب المصري، في تحقيق اهداف ثورته، ام انه سيتسبب في اكتمال الثورة، وتحويلها من ثورة سياسية الى ثورة اجتماعية شاملة، تحدد خياراتها حسب اهدافها. ام ان السلطة القادمة بعد انتهاء خارطة الطريق، ستكون بنفس ذكاء وفطنة ونبل وعظمة جمال عبد الناصر، ولكن بطريق ديمقراطي، وتستطيع استباق الثورة الاجتماعية، بعمل اصلاحات جذرية وشاملة، ترقي الى مستوى تطلعات الجماهير الثائرة حتى الآن، وعندها فقط ستكون الجماهير مؤيدة وداعمة لها. فقط اردت ان انهي مقالي بسؤل، ربما تكون الاجابة علية من السلطة القادمة، او من الشعب، ولكن في الحالتين، اعتقد أن الاجابة لن تتأخر .