عندما تعدي عليه السيد بالضرب لم يستطع " أنسيل " أن يدافع عن نفسه .. كان مجرد قن أرض يزرع الأرض لسيده ويعيش كالعبد علي فضلات موائد السيد وعلي ما يجود به خدمه عليه من فتات الخبز والجبن .. ورغم ضخامته الجسمانية وطوله المفرط فقد كان من غير المتوقع أن يدفع الأذى عن نفسه .. لذلك أستسلم للضربات المنهالة عليه من سوط يمسك به السيد ، الذي لا يتجاوز حجمه حجم ابن عرس ، سادا أذنيه عن السباب البذيء الذي يمطره به .. وكل ذلك من أجل قطعة لحم صغيرة سرقها من أمام الكلاب !! كان " أنسيل " قد أقدم علي فعلة مستهجنة قليلا وهي أنه أستغل فرصة تراخي حراس كلاب السيد وأخذ قطعة من لحم الخنزير المدخن الذي أمر السيد به لكلابه .. ولم يكن دافع القن الفقير لتلك الفعلة سوي توقه لذوق اللحم الذي لم يتذوقه منذ بضعة سنوات .. فهل أجرم ؟! الأمر لم يزد علي قطعة لحم صغيرة لكن السيد أعتبر الأمر وكأنه نهاية العالم .. كان السيد قد أكتشف الأمر بالصدفة البحتة السيئة بينما كان يتفقد كلابه المدللة فوجد خادمه الذي يشبه غوريلا ضخمة يلوك شيئا في فمه .. شك الشد فيما يلوكه " أنسيل " في فمه وأمره بأن يفتحه ويريه ما الذي يأكله .. حاول الخادم التملص قليلا لكنه سرعان ما أستسلم خوفا من إثارة غضب السيد أكثر من ذلك فصدع بالأمر وفتح فمه ليجد السيد قطعة لحم في مرحلة المضغ ترقد بين فكي خادمه وسرعان ما أدرك مصدره .. طبعا كان الأمر كله أصغر مما يستحق لكن السيد كان متعمدا لإيذاء " أنسيل " وتعذيبه أمام كافة الأقنان والخدم الآخرين وحتى أمام زوجته ، زوجة السيد ، نفسها ! ولسوء حظ السيد فقد كان الجميع يعرفون دافعه الحقيقي لرد الفعل المبالغ فيه هذا .. وأولهم زوجته التي لوت شفتيها ازدراء واشمئزازا وهي تري زوجها الضئيل ينهال علي ذلك العملاق بسوطه وعصاه من أجل قطعة لحم صغيرة تافهة ! كان الجميع يعرفون السبب الحقيقي .. حتى وإن كان السيد لا يعرف ولا يتخيل أنهم يعرفون ! ................................ في ضوء القمر تسلسل العملاق مبتعدا .. إنه يرغب في التواري عن الأنظار ويروم ألا يراه أحد وهو يفعل ما سيقوم بفعله بعد لحظات حتى وإن مطمئنا أن أحدا ما لن يجرؤ ولن يستطيع منعه من فعله كان قد وصل إلي قرار حثته عليه فكرة غامضة جنونية لا يعرف أحد من وضعها في عقله بالضبط .. سيظل للأبد عبدا مهانا مذلولا وسيتذوق المذلة والهوان ألون .. وإن جرؤ علي الهرب فسيصبح مجرد عبد آبق وستطارده الكلاب الصيادة وحاشية السيد حتى لو فر إلي آخر بلاد الدنيا .. أين تقع آخر بلاد الدنيا ؟ لا يهم .. فهو لا يعنيه معرفة أين تقع آخر البلاد وإنما يتوق لمعرفة أين تقع نهاية عذابه ومتى ستقع بالضبط ! لقد بدأ مشواره الجنوني بتفقد الأحراش ليلا بحثا عن تلكم الساحرات الشيطانيات اللائي قيل إنهم ينظمن ليل سبتهن في ذلك المكان المنقطع لكنه ، وبعد مراقبة مرهقة استمرت طوال الليلة ، لم يجد أحدا يتسلل إلي تلك الغابة الصغيرة لإقامة أية طقوس شيطانية .. كم تمني لو كانت أسطورة ليلة السبت صحيحة ، فهو يحلم بأن تقبله الساحرات خادما لهن على أن يعلمنه كيف يمتطي عصا مقشته ويطير مبتعدا محلقا بعيدا عن ضيعة السيد وعن صلفه وجبروته أو كيف يتحول لحيوان مفترس يمزق كل أعدائه في أمن من العقاب ! كلها كانت أوهاما باطلة لكن " ايزيا " المسكين عاش عليها شهورا طويلة معزيا نفسه بها عن تحرشات السيد واضطهاده الغير مبرر له الذي زاد في الآونة الأخيرة بصورة غير معقولة .. حتى حدثت حادثة غير معقولة في حياة " ايزيا " .. لقد ألتقي بمن يملك أن يحقق له أحلامه .. وألتقي به بالصدفة لطيب الحظ ! في ليلة سبت كان " ايزيا " يسير عائدا من الأحراش بعد أن أنتهي من المراقبة هناك فوجد نفسه أمام امرأة ناحلة جميلة بشكل غريب خاصة أن جمالها كان مخيفا للغاية .. عيون خضراء واسعة تبرق في ضوء القمر الساطع وشعر أشقر مسترسل حتى أسفل الظهر .. كانت تمسك في يدها قطة سوداء .. أو بمعني أوضح بقايا قطة سوداء ، فقد كان رأس القطة مفصولا عن جسدها ومتدليا بواسطة خيط صوفي مجدول في يد المرأة الأخرى ، وفراء القطة كان ممزقا لنصفين كاشفا عن لحمها الأحمر الدامي بأسفل الجلد .. نظرت المرأة باهتمام للعملاق الواقف أمامها في وجل وهمست له بوشوشة مناسبة لوشوشة الأحراش حولهما : " إيزيا .. أيزيا الجسور ! " كان القن يري هذه المرأة لأول مرة في حياته ولا يعرف من أين عملت باسمه وبصفاته الأخلاقية فسألها بصوت أجش مرتعش بسبب لذعة البرد تلك الليلة : " من أين علمت باسمي ؟! " ضحكت المرأة بصخب وأجابت بود : " لا أحد لا يعلم أنك " ايزيا " يا " ايزيا " .. تعالي معي ! " سألها بقلق طارئ : " إلي أين ؟! " ضحكت المرأة للمرة الثانية وأمسكت يده وقادته عبر الأحراش وهي تهدهد مخاوفه كطفل وتقول له مطمئنة : " لا تخشي من " سيليمن " شيئا .. فهي صديقتك وهي التي ستحقق لك أحلامك ! " وبدون مزيد من التساؤلات سار الاثنان إلي ناحية تملؤها أشجار القسطل حيث أوقفته المرأة بإشارة من يدها .. ثم توجهت بمفردها ناحية رقعة صغيرة خالية من النباتات في المنتصف وتلت همهمات وتعازيم لم يفهم منها " ايزيا " شيئا .. لكن تمخض عنها ظهور تدريجي لمنزل صغير ، يشبه الكوخ ، لم يكن له وجود منظور إطلاقا قبل أن تطلق " سيليمن " تعويذاتها القوية .. فُتح باب المنزل ، الذي تحيط به غلالة من الضباب يبرق فيها برق خافت صامت علي شكل أسهم من الضوء المتقطع ، لاستقبال القادمين .. وتقدمت المرأة نحوه وهي تدعوا " ايزيا " للحاق بها في الداخل .. كيما تحقق وعودها له وأحلامه لنفسه ! ..............................