كثيراً ما يجذب القراء العرب ما يكتب عن حياة أصحاب السمو والسعادة والسيادة، وما يكتب عن الفضائح والجرائم هنا وهناك، ويكاد يغيب أو ينعدم الاهتمام بالحديث عن تجارب الناس العاديين، وحتى عن رواد العمل الاجتماعي والإنساني والثقافي. منذ عامين، تعمّدت أن أبدأ هذه السلسلة من "عرفتهم" بالكتابة عن عبد الله حمزات، وتجربته الإنسانية المؤثرة، لإيماني أن أي إنسان مهما كان موقعه عادياً، يستطيع أن يقدم رسالة حية لكل الناس، سيما إذا استطاع أن يواجه تحديات الحياة وصعابها، وأن يتحلى بالصبر والعزم والإيمان. نعم، لا أزال على قناعة أننا إذا ما أمعنا النظر والتأمل في كل ما يحيط بنا، فإننا سرعان ما نجد ونستلهم الكثير من الأفكار والمبادرات والعبر والعظات من الناس العاديين البسطاء، فالقضية تكمن أولاً في قدرتنا على التعلم من رسائل الآخرين من أبناء مجتمعاتنا الإنسانية. ينتمي عبد الله محمود حمزات (1974-2004)، إلى عائلة فلسطينية لجأت إلى سورية عام 1948، وعانت مرارة النكبة، وقسوة الحياة في المخيمات، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد داهم الموت أخته إثر صراع سريع ومرير مع المرض، وولدت أخته الثانية صماء، بينما أصيب والديه بأمراض مزمنة تحتاج إلى علاج دائم. في سنواته الأولى، هاجمه شلل الأطفال، فلم يدعه إلا بعد أن أصاب رجله وظهره وذراعه ويده بالشلل الذي منعه من المشي والحركة لأشهر طويلة إلى أن انتهى به الأمر إلى الاستعانة بعكاكيز وجهاز شلل للظهر والرجل اليمنى حتى يستطيع المشي ببطء شديد، لكن ذلك لم يثنه عن الدراسة رغم صعوبة الانتقال من وإلى المدرسة، ورغم نظرات الشفقة الجارحة في عيون أقرانه في المخيم والمدرسة، وما هي إلا سنوات مرت ثقيلة حتى حقق حلمه الأول، وأنهى المرحلة الثانوية، ومن ثم التحق بالمعهد التجاري، ليواصل تعليمه العالي، وقبل أن تكتمل فرحته بالإنجاز والانتصار داهمه مرض عضال سرعان ما انتشر في جسمه كالنار في الهشيم، فانقطع عن الدراسة بعد أن أنهكت جسمه النحيل الضعيف جلسات المعالجة الشعاعية والكيماوية ومضاعفاتها، وما أن هجع المرض حتى عاد إلى دراسته وبذل جهداً مضاعفاً ليل نهار، ما لبث أن تكلل بالنجاح والتخرج من المعهد التجاري العالي، وسرعان ما التحق بأول فرصة عمل سنحت له ليتمكن من مساعدة أهله. لم تمنعه الظروف القاهرة تلك من التطوع وخدمة أبناء مجتمعه، فقد التحق بلجنة المتطوعين في الهيئة الفلسطينية للمعوقين في سورية، وشارك بفعالية في الكثير من نشاطاتها التثقيفية والتدريبية والاجتماعية، ولم يمنعه المرض العضال الذي أصابه في أكثر من موضع من الاستمرار في ذلك، بل أخذ يحث زملائه على التطوع وحضور الندوات والمشاركة في حملات التوعية وغيرها من الفعاليات الاجتماعية والإنسانية، وكثيراً ما كان يزورني في عيادتي الطبية ليحدثني عن أخباره بروح التفاؤل والمرح. أذكر أنني في عام 1998 قد دعوته إلى إلقاء كلمة باسم المتطوعين في ندوة ثقافية نظمتها في المركز الثقافي العربي بدمشق، فرحب بذلك على الفور، وفي اليوم الموعود، أدهشني بكلمته أمام الجمهور وقد حفظها عن ظهر قلب، وألقاها مرتجلاً بثقة واقتدار نالت إعجاب الحضور، واختتمها بعبارة طالما رددها في أكثر من مناسبة "ليس العاجز من يحمل العصا .... إنما العاجز من لا يستطيع تحدّي الحياة" نعم... لم يستطع اللجوء، والفقر أو المرض أو الإعاقة فرادى و مجتمعين من الانتصار عليه أو النيل من إرادته فظل متمسكاً بالأمل على طريق الحياة. لقد كافح "عبد الله حمزات" الفقر رغم سطوته ... والإعاقة رغم شدتها .. وصارع المرض رغم خبثه وانتشاره، وفوق كل ذلك كان من رواد العمل التطوعي الاجتماعي الشبابي. لقد شارك في كثير من حملات التطوع لا سيما في العام الدولي للمتطوعين 2001، وسعى جاهداً حتى حصل على فرصة عمل في مشفى القلب كي يساعد أهله، وظل يحث كل من حوله ويبعث الأمل في نفوسهم، رغم هجمات المرض المتكررة حتى توفى في عام 2004 لتبقى الرسالة مستمرة بين العديد من زملائه الشباب. نعم لا يملك المرء أمام هذه التجربة الإنسانية إلا أن ينحني احتراماً لهذه الشجاعة والعزيمة اللتين تحلى بهما "عبد الله حمزات" ، وهو في مقتبل العمر، لقد قدم نموذجاً حياً للإنسان الذي يرفع راية الأمل في أحلك لحظات اليأس. إن هؤلاء الأفراد من أبناء مجتمعاتنا العربية يستحقون منا كل وفاء، لأنهم يمثلون قيماً إنسانية، وحق لهم وواجب علينا جميعاً أن نعمل على إيصال تجاربهم ورسائلهم الإنسانية إلى شعوب العالم الأخرى فحضارة الشعوب الحقيقية تكمن في احترام حقوق جميع أبنائها، والوفاء لهم، فالوفاء للإنسان من الوفاء للمجتمع والوطن، والوفاء للمجتمع هو حجر الزاوية في كل حضارة إنسانية تسعى نحو غد أفضل. "عرفتهم" زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور.