ليست مجرد رسالة من فتاة، فالرسالة ليست رسالة عادية والفتاة فتاة غير عادية. رسالة تحمل كماً من المشاعر الإنسانية الرقيقة والعذبة والمعذبة تحمل معانى رائعة من التضحية والوفاء والرحمة والتسامح. أما إيناس فهى نموذج للفتاة، وللأخت الرائعة المدهشة والاستثنائية. لم أستطع أن أنقل وأكتب مشكلة إيناس قبل أن أسجل احترامى وإعجابى، بل أنحنى لها مقدرة إنسانيتها وروعتها، فهذه مقدمة واجبة. تقول إيناس فى رسالتها: عمرى اقترب من الثلاثين، أنتمى لأسرة متوسطة الحال مستورة، أمى سيدة كبيرة ومريضة، أنجبت ستة أبناء، أنا أوسطهم، وأخى الأصغر معاق ذهنيا، وهذا الأخ الذى يبلغ 81 عاما هو المقرب إلىّ، أعتبره ابنى وأخى وصديقى، اختبرنا الله به، فكان أجمل اختبار رغم صعوبته وقسوته. منذ أن اكتشفنا إعاقته، كان عمرى وقتها عشرين عاما تقريبا، فأخذت عهدا على نفسى أن أتبنى أخى وأحاول تعويضه إعاقته، أحاول رعايته قدر المستطاع، لدرجة أننى بعد تخرجى فى كلية التربية لم أعمل مدرسة، بل اخترت أن أعمل فى مجال التنمية الاجتماعية وتحديدا فى مجال الإعاقة الذهنية حتى أفهم أكثر وأستطيع أن أرعى أخى بشكل أكثر جدية واهتماما، وعلى أسس علمية، وبالفعل قطعت شوطا معه فى بعض التدريبات، وحاولت أن أدمجه مع أطفال أصحاء، وحاولت أن أجعل عائلتنا وجيراننا ينظرون له نظرة متحضرة وإنسانية لا نظرة شفقة أو رفض، حاولت كثيرا لسنوات أن أدربه على الكلام والنطق وأن يكتب اسمه ويحفظ عنوان منزلنا ورقم التليفون، أحاول وأحاول معه حتى لا أشعر يوما بالتقصير فى حق هذا الشاب الذى لا حول له ولا قوة، وشعورى بالواجب تجاهه أصبح شعورا بالمتعة والحب لدرجة أننى لم أعد أشعر بالتعب من رعايته التى توليتها بالإنابة عن أمى المريضة التى لا تستطيع تحمل رعاية شاب ثقل وزنه وأصبح بنيانه قويا. لقد مارست الأمومة مبكرا مع أخى، وتعلمت معانى رائعة للحياة. هذا هو الجزء المضىء فى قصتى، أما الجزء غير المضىء فهو أننى نسيت نفسى، لم أعد أتذكر أننى فتاة تريد الحب والزواج والأمومة الطبيعية، تريد السكن والاستقرار، تريد الأسرة، تريد حياتها، أنا اخترت بمنتهى الرضا رعاية أخى، واشترطت بينى وبين نفسى أننى لن أتزوج إلا من شخص يحب أخى قبل أن يحبنى، يوافق على رعايته ومراعاة الله فيه قبل أن يرعانى، وفى كل مرة كانت تتاح لى فرصة الزواج كنت أعلن شروطى بمنتهى الحسم والقوة، وكان الرد يأتينى بمنتهى الضعف، فإما انسحاب من حياتى، أو موافقة مبدئية ثم اكتشاف بمعاملة أخى معاملة منافية للوعود، والنتيجة هى أننى أم لأخى، لكننى فتاة لم تعش حياتها، تحلم بالحب وبالونس وبالشريك.. أتمنى ألا يفهم من كلامى أننى نادمة، أقسم بالله أننى لست نادمة، ولكننى فى لحظة صراحة أشعر بأننى وحيدة وحياتى فارغة! إيناس.. ملاك الرحمة.. أنت رائعة وليتك تقدرين حجم روعتك وتدركين أن اختيارك ليس سهلا، لكنه الأصعب والأكثر تضحية وإنسانية ومعك كل الحق فى شروطك للقبول بزوج يحب أخاك ويرعاه قبل أن يحبك. لا أملك حلولا لك، دعينى أقولها لك وللمجتمع كله بكل صراحة، فحالتك تلك نموذج واضح لعجز المجتمع كله عن رعاية أبنائه المعاقين وذوى الاحتياجات الخاصة، ليس هذا فحسب، بل إن حالتك نموذج صارخ لقسوة المجتمع وازدواجيته، ففى الوقت الذى يدعى المجتمع أن زهوة التدين وصلت لذروتها، إلا أن سلوك المجتمع يدل يوما بعد يوم أنه بعيد عن التدين، مجتمع يصنف نفسه أنه من أهم صفاته العاطفية والرقة والإنسانية وعكس ذلك يتجلى من خلال قصتك مع أخيك، وأؤكد لك رغم أنك لم تذكرى هذا فى رسالتك، أن أغلب من تقدموا لخطبتك وللزواج منك كانت أهم صفاتهم الشكلية أنهم متدينون. أعلم أن درجة تحضر وإنسانية المجتمعات تقاس بمدى اهتمامها بالأطفال وبالعجائز كبار السن وبالمعاقين، ودعينى أقول لك أننا فى مجتمعنا نعانى من سوء الاهتمام بالقطاعات الثلاثة خاصة المعاقين وتحديدا المعاقين ذهنيا، حيث إنه لا توجد دور رعاية متكاملة آدمية ترعى بحق هؤلاء المواطنين خاصة إن كانوا غير قادرين على دفع آلاف الجنيهات للالتحاق بمؤسسة أو مدرسة خاصة للرعاية والتأهيل. عزيزتى إيناس: قصتك فجرت لدىّ طاقة غضب واستياء من المجتمع، لكنها أيضا فجرت لدى طاقة إيجابية بأن فى هذا المجتمع أناسا رائعين مثلك لديهم القوة والقدرة على اختيار الأصعب. أعلم أننى - ربما لم أكن قادرة على إفادتك بحل تنتظرين سماعه - لكننى وبكل تأكيد أعرف أن قصتك ستثير مشاعر خاصة لكل من يقرأها لأنها صادقة ولأنك صادقة فى اختياراتك. أومن - وبشكل شخصى - أن ما يصدر من القلب بصدق يصل إلى قلوب الآخرين بمنتهى الصدق - لهذا ستجدين يوما ما - ذلك الشخص الخاص الذى يفهم مدى صدق مشاعرك ويقدر تضحيتك أو واجبك البديهى تجاه أخيك، وسيكون ذلك الشخص هو السند والونيس الذى يشاركك الرحلة، ويرعى أخاك، وأتمنى أن تحققى حلمك فى الأمومة، لكن دعينى أهمس فى أذنك بأن عليك قبل التفكير فى مسألة الأمومة أن تكونى واثقة من أن إعاقة أخيك لن تسبب أى مشكلة أو أذى، والعياذ بالله، بالأطفال، وأعتذر عن هذا الطرح المؤلم، ولكنه واجب علىّ أيضا تنبيهك. تفاءلى.. افتحى قلبك للحياة.. اتبعى قلبك واسمعيه جيدا، ستجدين من يشاركك الجزء الآخر من الحياة، لكن عليك التأكد بأنك أنت طاقة النور التى تضىء - ليس حياة أخيك فحسب - بل حياة من تقدمين لهم الرعاية والخدمة والتطوع. من المؤكد أنت محظوظة بحب الكثيرين من البشر، ولأنك تستحقين كل الحب، ستجدين من تشاركين الحب والزواج والأسرة. فلايزال الاختيار صعبا، لكنك لا تملكين البديل، إما إنسان خاص مثلك وإما لا!؟