تسللت بهدوء وبحذر قدر ما تستطيع .. حاملة حقيبتها الخاصة الصغيرة وحقيبة سفر محدودة السعة ..مشت ببطء على الأرضية اللامعة بأسفل .. حرصت على ارتداء حذاء رياضي بدون كعب حتى لا يُحدث أقل صوت على الأرضيات الرخامية الفاضحة للأصوات .. إنه منتصف الليل وهو غارق في نوم عميق بغرفتهما .. لن يستيقظ الآن ، هي واثقة من ذلك .. فإن لم تكن واثقة من نومه ، وهي من وضعت المخدر له بيديها ، فمن من المرجح أن يكون ذلك ؟! إنه ستذهب الآن .. ستهرب من ذلك الكابوس الجاثم على أنفاسها .. حبه لها صار كابوسا ! الكثيرات يحسدنها على ما هي فيه .. معذورات فهن لا يعلمن جلية الأمر .. ترفل في النعيم وتغوص في الثراء بصحبة رجل يهواها بجنون .. وأي عيب في ذلك ؟! وأية امرأة لا تحلم بزوج يحبها بجنون .. إن كل النساء يحلمن بما هي فيه لكنها تتمني فقط لو يتح لإحدى هاتيك المتمنيات لأن تحل محلها يوما واحدا فقط لتقدر ما تعانيه ! لم يكن سهلا على " جيسيكا " أن تتخذ قرارا بالفرار بعيدا عن " توبياس " ، فهي تحبه بالفعل .. لكن ! ربما من الأفضل ألا تحاول تذكرة نفسها بما أنسته لنفسها فعلا .. يجب أن تنسي وإلا فكيف يتسنى لها أن تواصل حياتها ! هل تبلغ الشرطة ؟! ولكن بم تخبرهم ؟! إنها كلها مجرد شكوك لا تملك عليها دليلا واحدا .. سلوك مريب ، اختفاءات غامضة تتركز كلها حول منزلها ، بقع دم تعثر عليها عرضا وكيفما أتفق هنا أو هنا .. وأخيرا غرفة التصنيع ! غرفة تصنيع النماذج المخيفة بسقفها العالي وحوائطها اللامعة وأحواضها المخيفة وأدراجها العديدة المغلقة دوما والتي تذكرها كلها بغرفة تشريح .. ما حاجته لتصنيع كل تلك النماذج المتطابقة معها ! تلك النماذج الجميلة المخيفة .. كم تمقتها ! إنها تحدق بها طوال اليوم .. كلما تحركت في أرجاء المنزل وجدت نسخة منها ، متقنة للغاية ، تحدجها بنظرة باردة خاوية لكنها مخيفة .. لماذا تشعر دائما بأن عيون " توبياس " تطل من خلف عيون النماذج الميتة كلما مرت أمامها ؟! حتى أمها التي لم تزرها منذ سنوات ، لأنها تخشي " توبياس " وتخشي نماذجه اللعينة خشيتها للموت ، قالت لها ذلك بوضوح : " كيف تعيشين يا عزيزتي في وسط ذلك المنزل المرعب ؟! " ابتسمت " جيسيكا " بجذل ، قبل أن تدرك الخطر المحدق بها ، وأجابت برفق : " إنه مجنون بي يا ماما .. وأنا أحب ذلك ! " " مجنون ! نعم تلك هي المشكلة يا صغيرتي .. فتذكري أنك قلتيها بنفسك ! " بعد صمت دام ثلاث دقائق قدمت الأم عرضها الكريم لابنتها : " لماذا لا تهجرينه يا صغيرتي ؟! " أدهش ذلك الاقتراح الغريب الزوجة المدلهة في حب زوجها وشحب وجهها بشدة .. تهجره ؟! ولكن لماذا تفعل ذلك ؟! لم تلح الأم لكنها قالت لابنتها بحسم : " ربما لا تتقبلين الفكرة الآن .. لكنك عما قريب ستنفذينها وبغير إلحاح مني .. عندها تذكري أن منزل الأسرة في البلدة مفتوح لك دوما ! " بالطبع لم يعد منزل الأسرة مفتوحا نهائيا بعد أن تم العثور على أمها صبيحة يوم الأحد التالي مذبوحة في سريرها ! هزت الحادثة " جيسيكا " من الأعماق .. ولم يتخلي عنها " توبي " العزيز في تلك المحنة القاسية التي مرت بها ، بل وقف إلى جوارها وآزرها بكل ما يملك من قوة.. لم يتم القبض على الجاني لفترة وثارت شكوك الشرطة أن تكون حادثة مقتل السيدة " بيفز " ، والدة " جيسيكا بلفور " ، من عمل القاتل التسلسلي المروع " رافاييل ريسنديز " خاصة وأن منزل أمها يقع على مقربة من خط السكة الحديد في " " .. وأن كل ملابسات الجريمة ومسرحها يشبه تماما ما كان يقوم به ذلك السفاح الضاري .. لكن لماذا سمعت تلك الشائعات المبهمة .. من قال لها أن القاتل ليس هو " ريسنديز " بالتأكيد .. بل هو مقلد جيد له وإن لم يبلغ درجة الإتقان الكافي لدرجة إدراج جريمة مقتل " جويانا بيفز " ضمن أعمال ذلك السفاح الأسطوري الذي كان يجيد عمله حقا ؟! ولماذا ترتجف هي كلما تذكرت ذلك .. ولماذا لا زالت لا تعرف حتى الآن أين قضي زوجها " توبياس " أمسية السبت التي سبقت اكتشاف جثة والدتها ؟! أيمكن أن يكون قد سمع حديثها الخاص مع أمها .. أيمكن أن يكون قد سمعها وهي تنصح ابنتها بهجره ؟! أيمكن أن يكون هو من فعلها ؟! على أية حال هي في طريقها للمغادرة الآن ولا شيء في الكون سيحملها على العودة لذلك المنزل الذي يعيش فيه المخبول الذي ربطت حياتها به بكل أسف ؟! إنها تغادر الآن .. لقد حرصت على ترك أغلب حاجياتها حتى لا تضطر لحمل الكثير من الحقائب .. فقط الحاجيات العاجلة التي لا غني عنها فقط والبقية بوسعها استردادها فيما بعد .. فيما بعد حينما ترفع قضية الطلاق وتأتي بصحبة شرطي أو أكثر لتحصل على متعلقاتها الشخصية من منزل زوجها .. كانت " جيسيكا " قد صارت بالفعل خارج حدود المنزل حينما سمعت صوتا جمد الدم في عروقها .. كانت على مقربة من المرآب وتبعد حوالي عشرين مترا فقط عن سيارتها الخاصة عندما سمعت صوته من خلفها : " عزيزتي .. أين تذهبين الآن ؟! " تجمدت الزوجة في مكانها وشعرت كأن ريحا باردة تضرب مؤخرة رأسها حيث كانت أنفاسه الباردة تأتي من خلفها تماما وشعرت كأنها شلت وفقدت القدرة على الحركة تماما .. وبدون أن يرحمها عاود سؤالها بنفس اللهجة الباردة : " عزيزتي " جيسي " .. أين تظنين أنك ذاهبة في تلك الساعة ؟! " بصعوبة بالغة استدارت لتواجهه وقد دوي صوت دقات قلبها العالية في أذنيها .. وجدته واقفا على قيد سنتيمترات منها مبتسما تلك الابتسامة الشاحبة المخيفة .. نظرت إليه بعمق وخوف شديد قبل أن تفطن إلي شيء .. أنه يرفع يده اليمني بحركة سريعة ، أدركتها حدقتها المرتعبة بصعوبة بالغة ، ولم تكن يده فارغة .. كانت تحمل أداة معدنية ثقيلة مخيفة تقترب بسرعة البرق من وجهها ! ..................................... واصلت فرقة الشرطة البحث في أرجاء المنزل .. مروا على عشرات الغرف والملحقات والتي كانت كلها تكتظ بتلك النماذج المخيفة الجميلة .. ولكن لا أثر للزوجة المفقودة ! وهنا شعر قائد البوليس بعبثية ما يفعلونه وأدراك أنهم بحاجة إلى قرن من الزمان لفحص كل تلك النماذج اللعينة وخطرت على باله تلك الفكرة العبقرية البسيطة التي لا تخطر على البال إلا متأخرا غالبا .. هتف القائد لضابط يحوم خلفه حول المكان بنبرات مندهشة : " لماذا لا نوجه لها نداء بأن تخرج وحسب ؟! " تساءل الضابط الآخر بدهشة لا تقل عن دهشة رئيسه : " نداء ؟! وهل ستستجيب له ؟! " " ولم لا ؟! إنها خائفة فقط من زوجها ..وإذا أطمئنت لوجودنا في الجوار فستظهر نفسها لنا دون خوف ! " فكر الضابط الثاني بحيرة وتساءل : " ولكن لعلها ليست في وعيها أصلا يا سيدي .. لو كانت واعية لفطنت إلى وجودنا في المنزل بالفعل وخرجت لتحتمي بنا .. لكنها لم تفعل ! " " هل تقصد أن تكون فاقدة الوعي ؟! " " أو لعلها لقيت حتفها بالفعل .. طبقا لرواية زوجها فهي تنزف منذ ساعات ولا أظن أنها لا زالت تحتفظ بوعيها على الأقل ! " " لكن إذا كانت فاقدة الوعي لكنا قد عثرنا عليها ملقاة هنا أو هناك .. لن تستطيع تمثيل دور نموذج وهي ميتة أو مغشي عليها.. هل تفهمني ؟! " " نعم أفهمك تماما يا سيدي .. ولكن لنجرب فكرة توجيه النداء فلن نخسر شيئا ! " وبالفعل تهيأ قائد البوليس للبدء في المناداة على الزوجة " جيسيكا بلفور " حينما رن هاتفه الخاص بإلحاح غريب .. وكان على الطرف الآخر أحد رجال الشرطة المتواجدين الآن في قسم الشرطة .. أنصت القائد لبضع دقائق شحب خلالها وجهه شحوب الموت ثم أغلق الخط بطريقة تدل على الذهول والرعب : " ماذا يا سيدي ؟! " تساءل الضابط بخوف فأجاب القائد على الفور : " أجمع الرجال .. سنغادر الآن ! " بذهول هتف الضابط الآخر غير مصدق لما يسمعه : " ماذا ؟! " فصرخ القائد في وجهه بحدة : " سنغادر .. هيا أيها الأحمق .. أجمع رفاقك ! " وقف الضابط للحظة قصيرة غير مدرك لما يحدث حوله بالضبط .. ثم بدأ يصرخ مناديا رفاقه كل باسمه .. وفي خلال لحظات تجمع ضباط فرقة البحث كلهم حول قائدهم ومعهم مستر " بلفور " الذي بدا مستاء جدا من توقف عملية البحث عن زوجته وتساءل متصبرا : " ما الذي يجري هنا ؟! أنكم لم تعثروا عليها بعد ! " لم يعره القائد اهتماما بل وجه أوامره للضباط بأن يسبقوه إلى الخارج فصدعوا بالأمر كلهم رغم الحيرة والدهشة التي ظهرت على وجوههم كلهم .. وأخيرا بقي قائد فرقة البحث برفقة " توبياس بلفور " بمفردهما .. بعد لحظة قصيرة من الصمت أقترب القائد من مستر " بلفور " ورفع إصبعا محذرا وقال له باحتقار : " بوسعي الآن أن أوجه لك تهمة البلاغ الكاذب وأقوم بتوقيفك الآن .. لكنني لن أفعل ذلك ! " صمت قائد الشرطة للحظة ثم واصل بغيظ عندما لم يظهر على وجه مستر " بلفور " أي تأثير : " لكنني أحذرك يا " توبياس بلفور " .. لو وجدتك في أي مكان بقربي أو بقرب أي مواطن من بلدتي فسوف أوقع بك أسرع مما تتخيل .. هل تفهمني ؟! " ابتسم " بلفور " دون أن يرد أو يبدي أي اكتراث بما يقوله قائد شرطة المدينة .. فأضطرم الغيظ في نفس قائد الشرطة الذي ربت على سلاحه بشكل له مغزى .. ثم غادر سريعا لاحقا بضباطه دون أن يغلق باب المنزل خلفه .. روابط الأجزاء السابقة على جريدة شموس نيوز http://www.shomosnews.com/portal/arts/7080-----------5 http://www.shomosnews.com/portal/arts/6964-----------4 http://www.shomosnews.com/portal/arts/6888-------1-2-3