ارتفاع أسعار النفط بعد اتفاق أمريكا والاتحاد الأوروبي    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 28-7-2025 مع بداية التعاملات    صحيفة مقربة من حماس: عواصم عربية طلبت مغادرة قادة الحركة واتجاه لنقل مكتبها إلى إيران    شاب يطعن والدته بسبب 250 جنيها في الدقهلية    ارتفاع ملحوظ في الجنوب، درجات الحرارة اليوم الإثنين بمحافظات مصر    وزير الخارجية الأمريكي: سنسهل محادثات السلام بين كمبوديا وتايلاند    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    تجاوزات في ودية المصري والترجي.. ومحمد موسى: البعثة بخير    الاتحاد الأوروبي يقر تيسيرات جديدة على صادرات البطاطس المصرية    «وصمة عار».. زعماء أحزاب فرنسية ينتقدون صفقة ترامب والاتحاد الأوروبي    العراق.. القبض على 14 من عناصر الحشد الشعبى بتهمة اقتحام دائرة زراعية فى بغداد    "خرج عن مساره".. وفاة 4 أشخاص في حادث قطار بألمانيا    محافظ القليوبية يجري جولة مفاجئة بمدينة الخانكة ويوجّه بتطوير شارع الجمهورية    "حماة الوطن" يحشد لدعم مرشحيه في "الشيوخ" بسوهاج (فيديو وصور)    «اقعد على الدكة احتياطي؟».. رد حاسم من حسين الشحات    وزير التعليم: مناهج اللغة العربية الجديدة تدمج القيم الأخلاقية وتراعي الفروق الفردية    "لو عايز تغير مسارك المهني".. تفاصيل دراسة التمريض المكثف بتنسيق الجامعات 2025    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    بالصور.. اصطدام قطار بجرار أثناء عبوره شريط السكة الحديد بالبحيرة    طعنة غدر.. حبس عاطلين بتهمة الاعتداء على صديقهما بالقليوبية    بالصور.. إيهاب توفيق يتألق في حفل افتتاح المهرجان الصيفي للموسيقى والغناء بالإسكندرية    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    بعد تهشم إصبعه.. جراحة معقدة تنقذ يد مصاب بمستشفى ههيا في الشرقية    4 انفجارات متتالية تهز العاصمة السورية دمشق    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 28 يوليو    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 28 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    وائل جسار ل فضل شاكر: سلم نفسك للقضاء وهتاخد براءة    تتغيب عنه واشنطن.. انطلاق المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية بنيويورك اليوم    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالقاهرة.. درجة القبول والشروط لطلاب الانتظام والخدمات    منها «الاتجار في المخدرات».. ما هي اتهامات «أيمن صبري» بعد وفاته داخل محبسه ب بلقاس في الدقهلية؟    «مكنتش بتاعتها».. بسمة بوسيل تفجر مفاجأة بشأن أغنية «مشاعر» ل شيرين عبدالوهاب.. ما القصة؟    رسمياً تنسيق الجامعات 2025 القائمة الكاملة لكليات علمي علوم «الأماكن المتاحة من الطب للعلوم الصحية»    كريم رمزي: جلسة مرتقبة بين محمد يوسف ونجم الأهلي لمناقشة تجديد عقده    مدرب بيراميدز يهاجم تحديد موعد المباراة تحت درجات حرارة قاتلة: "الأمر يتعلق بصحة اللاعبين وليس بالمنافسة"    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    بعد تصدره التريند.. استقرار سعر الدولار أمام الجنيه المصري في التعاملات الصباحية ليوم الإثنين 28 يوليو 2025    العام الدراسي الجديد.. الخريطة الزمنية الرسمية للعام الدراسي 2025–2026    السيطرة على حريق أعلى سطح منزل في البلينا دون إصابات    الخارجية السودانية تدين إعلان قوات الدعم السريع "حكومة وهمية" وتطلب عدم الاعتراف بها    تنسيق الكليات 2025، الحدود الدنيا لجميع الشعب بالدرجات والنسب المئوية لطلبة الثانوية بنظاميها    ردا على الأهلي، ماذا فعل الزمالك مع زيزو قبل لقاء القمة؟    حسين الشحات: لن أرحل عن الأهلي إلا في هذه الحالة، والتتويج أمام الزمالك أسعد لحظاتي    بعد 26 ساعة من العمل.. بدء اختبار الكابلات لإعادة التيار الكهربائي للجيزة    أحمد نبيل: تعليم الأطفال فن البانتومايم غيّر نظرتهم للتعبير عن المشاعر    وزير السياحة: ترخيص 56 وحدة فندقية جديدة و60 طلبًا قيد الدراسة    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    متخليش الصيف ينسيك.. فواكه ممنوعة لمرضى السكر    المعهد القومي للكبد: مصر حققت إنجازًا عالميًا في القضاء على فيروس "سي"    أخبار × 24 ساعة.. توقعات بارتفاع الحد الأدنى لتنسيق كليات علمى من 1 ل2%    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    رغم ارتفاع درجات الحرارة.. قوافل "100 يوم صحة" تواصل عملها بالوادى الجديد    رفضت عرسانًا «أزهريين» وطلبت من زوجها التعدد.. 19 معلومة عن الدكتورة سعاد صالح    في الحر الشديد.. هل تجوز الصلاة ب"الفانلة الحمالات"؟.. أمين الفتوى يوضح    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تطور الشعر العربي على العصور
نشر في شموس يوم 20 - 07 - 2013

غرضنا في هذا المقال أن نتحدث عن الشعر العربي وعصوره التاريخية ، فقد كثر الكلام في ذلك حتى لم يبق بعد مجال لمتكلم . وإنما هي نظرة في الشعر من حيث هو فن ذو أطوار يتميز كل منها بطابعه الخاص .
ولنبدأ القول أن الكلاسيكية لا تنحصر في عصر من العصور التاريخية . فشعراء الجاهلية مثلا كلاسيكيون بالنسبة إلى العباسيين ، وهؤلاء كلاسيكيون بالنسبة إلى أهل هذا العصر . بل الشاعر الواحد قد يكون أصوليا متبعا حينا ، وحرا مجددا حينا آخر . خذ شاهدا على ذلك ( أبا نواس ) . فهو في مدائحه ومراثيه لا يخرج عن طريقة من سبقه ، ولكنه في خمرياته يحاول الخروج عنها فيستهزئ بالذين يقفون على الطلول ويصرفون الشعر في وصف الحياة البدوية . ومثله ( أبو تمام والبحتري وأبن الرومي والمتنبي والمعري ) وسواهم من نوابغ الشعر القديم – كل منهم على كونه يسير على الجادة العامة ، يخرج عنها أحيانا ويسير في طريق خاصة يعرف بها ويصدق هذا القول على كثيرين من قدماء ومحدثين . على أننا لا ننكر أن الكلاسيكية تطبع أدبنا القديم بطابع عام . فما هو هذا الطابع وكيف نحدده ؟ ولعل أول من حدده لنا هو أبن قتيبة في مقدمة كتابه ( الشعر والشعراء ) إذ قال ( سمعت بعض أهل العلم يقول أن مقصد القصيدة أنما ابتدأ بذكر الديار والدمن ولآثار ، فشكا وبكى وخاطب الربع وأستوقف الرفيق . ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين . ثم وصل ذلك بالنسيب ، فشكا ، شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي بها إصغاء الأسماع إليه . فإذا علم أنه قد أستوثق من الإصغاء إليه ، عقب بإيجاب الحقوق ، فرحل في شعره ، وشكا النصب والسهر وسرى الليل و أنضاء الرحلة ... فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمام التأميل ، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير ، بدأ المديح . فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام ، ولم يطل ويمل السامعين ، ولم يقطع والنفوس ظمأى إلى المزيد ) .
خصال الشعر القديم
فهناك نحن أمام طريقة كان يفرض على الشعراء سلوكها ، وقد حددها لنا أبن قتيبة وهو من أهل القرن الثالث الهجري ، وظلت متبعة حتى عهد قريب . الأ أنها تغيرت قليلا مع الزمن من حيث معالمها الرئيسية . فأصبح النقاد القدماء يشددون على يسمونه ( عمود الشعر ) ويعنون بذلك صحة المعنى ، والإصابة في الوصف ، وعدم الهجنة في اللفظ ، وتناسب الاستعارة ، ومشاكلة اللفظ للمعنى ، واقتضاؤها للقافية ، وما إلى ذلك من صفات . هكذا يحددها لنا المرزوقي في شرحه ديوان الحماسة ثم يقول ( فهذه الخصال هي عمود الشعر عند العرب . فمن لزمها بحقها وبني شعره عليها ، فهو عندهم المقلق المعظم ، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته فيها يكون نصيبه من التقدم والإحسان ) .
وإذا أضفت إلى كل ذلك ما دخل عمود الشعر من أصول التفنن الإبداعي استطعت أن تقول أن الطريقة الكلاسيكية في الشعر العربي هي على العموم – الابتداء بالغزل وقوفا على الدمن والآثار ، أو تشبيبا بالحبيبة الراحلة ، والافتنان بوصف أشواق الفؤاد وما يحتمله من ألم البعاد ، ثم حسن التخلص إلى الغرض المقصود من مدح أو سواه على أن يراعي في كل ذلك حسن البيان وطلاوة اللفظ وملاءمته للمعنى والقافية . وعلى هذه الحال وصل الشعر إلى عهد اليقظة في القرن التاسع عشر فتناوله رواد النهضة . ولكنهم مع تحسينهم لديباجته ، بعد أن غشيه لفساد في عصر الانحطاط ، ظلوا يتبعون الطريقة القديمة . ولم يحدث تجدد يذكر حتى أوائل القرن المنصرم . ففي مطلع القرن الفائت كان الشعر العربي يتمخض بحركة جديدة . ولم يمر عليها غير بضع سنوات حتى ظهرت . ثم أخذت بعد الحرب العالمية الأولى تتسع وتنتشر . فانقسم الأدباء من جرائها قسمين – أحدهما محافظ يحاول التمسك بالقديم ، والآخر مجدد يطلب نبذ القديم والأخذ بما تتطلبه الحياة الجديدة . قد اشتدت الخصومة بين الفريقين ، ثم انجلت عن ظهور شعراء متأثرين بأدباء الغرب وخصوصا شعراء القرن التاسع عشر منهم ، مما أدى إلى دخول الشعر في طور جديد هو الطور الرومانتيكي في أدبنا الحديث .
الرومانسية في الشعر
وهي حركة شعرية يراد بها التحرر من قيود الأصول التقليدية . وبكلمة أخرى هي انطلاق الشخصية على سجيتها حرة من كل عرف جرى عليه الناس ، أو طريقة تواضعوا على أتباعها . إذ تدعو إلى حرية التعبير وبساطته وبعده عن الأوضاع الصناعية . ومن مزاياها أنها تعيش عادة في عالم خيالي بعيد عن الواقع ، بل هي ترى الواقع موحشا فتفر منه إلى جنة تشيدها الأحلام حيث تجد الهناء والراحة والسلام . ومن مزاياها تقديس الطبيعة والتغني بجمالها – كما فعل جبران إذ قال مخاطبا الأرض :
( ما أكرمك أيتها الأرض وما أطول أناتك . نحن نجدف ، وأنت تباركين . نحن ننجس وأنت تطهرين . نحن نهجع ولا نحلم ، وأنت تحلمين في سهرك السرمدي . نحن نكلم صدرك بالسيوف ، وأنت تغمرين كلامنا بالزيت والبلسم . نحن نستودعك الجيف ، وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار ومعاصرنا بالعناقيد ، نحن نصبغ وجهك بالدم ، وأنت تغسلين وجوهنا بالكوثر . نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف ، وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق ) . ومثل نظرها إلى الطبيعة نظرها إلى الحياة الريفية وما فيها من بساطة وهناء وراحة . وهي تشعر مع الفلاح الذي يتعب ليستخرج الخير من الأرض ولكنه لا ينال منه شيئا كقول أحمد الصافي النجفي :
رفقا بنفسك أيها الفلاح
تسعى وسعيك ليس فيه فلاح
هذى الجراح براحتيك عميقة
ونظيرها لك في الفؤاد جراح عرق الجبين يسيل منك لآلئا فيزان منه للغنى وشاح
وأقوال الشعراء في الطبيعة والحياة الريفية كثيرة لا يمكن حصرها في المقال .
الرومانسية والمثل العليا
ومن المزايا الرومانسية – الارتفاع بالخيال إلى المثل الإنسانية العليا . فالشاعر ينشد الجمال المعنوي كما ينشد الجمال الطبيعي . وكما يتأثر بالمحاسن البشرية و الطبيعية فيعزف تأثيرها على أوتار رفيعة النغم ، يتأثر بمحاسن المثل الإنسانية ، فكثيرا ما تراه محلقا في عالم من أحلامه حيث يسحره جمال المحبة والخير والحق والحرية فلا يتورع عن أن يخاطب القوة المادية الطاغية بقوله :
أيها القوة مهلا فاحذري
أن في التاريخ للناس خبر
والى أصغي قليلا وانظري
ومعي سيري ترى فيه العبر
كم هوت من قوة قبل الأجل
وعروش وشعوب ودول
بعدما صالوا بجند وخول
أنهم بالسيف قاموا وعلوا
وبه أيضا من الأوج هووا
أجل هووا إلى مدافن التاريخ حيث تطوى أمجاد القوي الغاشمة . ههنا السيف سيعلوه التراب
ههنا المدفع يصدا في الظلام
ههنا الرمح سبيلي والحراب
ويذل الفجر في جوف الرغام
ليس للقوة سلطان الوجود
ليس للسيف العلى أو للجنود
إنما الحق سيعلو ويسود
أيها القوة هلا تعقلين
هوذا ، الحكمة تدعو العالمين
ولكنه لا بد من أن يرجع إلى الأرض وهنا يصطدم بالواقع المرير ، بأحلامه تتلاشى وإذا بقيثارته تعزف ألحان الأسى و الكآبة .
والرومانسية قيثارة الأسى والألم والأسى ميزة أخرى من مزايا الرومانسية بل العلة ابرز مزاياها وأعمها.وعلى قيثارة الأسى ترى كثيرا من الشعراء ينشدون مثل قول أبي القاسم الشابي من أنشودته (أغنية الأحزان):
لاتعني أغاريد الصباح
بلبل الأفراح
ففؤادي وهو مغمور الجراح
بتباريح الحياة الباكية
ليس يستهويه الحان السرور
وأغاني النسور غنني يا طير أنات الجحيم
وأسقنى الآلام
واترع الكأس بأوجاع الحياة
وأسقنى أنى كرهت الابتسام
غنني ندب الأماني الخائبة
والليالي السود
غنني صوت الظلام المكتئب
إنني أهواه
ونزعة الأسى شائعة في شعر الحب قديما وحديثا . على أنها في الرومانسية تمس مواضيع لم يمسها الشعر القديم ، ولم يعرفها . فالشاعر الحديث قد ينشد السعادة أو الحقيقة فيقضي العمر عبثا في التفتيش عنها ، ثم يرجع إيليا أبي ماضي يائسا إذ يقول في ختام قصيدته ( العنقاء ) :
حتى إذا نشر القنوط ضبابه
فوقي فغيبني وغيب موضعي
عصر الأسى روحي ، فسالت أدمعا
فلمحتها ولمستها في أدمعي
وعلمت ، حين العلم لا يجدي الفتى ،
أن التي ضيعتها كانت معي
أو هو قد ينظر إلى الأشجار في فصل الخريف فيتنهد تنهد ( رشيد أيوب ) وينفث من قلب حزين :
نشر الخريف على الثرى أوراقه فتناثرت كتناثر العبرات
يتركن أغصانا الفن عناقها
ويقعن فوق الأرض مضطربات
فكأنهن ، إذا خفقن ، جوانحي
وحفيفهن كأنه زفراتي
زفرات مصدور تقارب يومه
فحياته معدودة الساعات
ولعله يشهد مصرع فنان فيتألم كما تألم عمر أبو ريشة فيصفه بقوله :
نام عن كأسه وعن أحبابه
قبل أن ينقضي نهار شبابه
إن في سفر عمره
صفحات من الألم
ليس يرجو من الورى
بسمة تغسل السقم
أحزم الناس عاقل
لمس الجرح وابتسم
ويبلغ الأسى ذروته في قول الشابي إذ يراجع ما مر عليه من الزمن :
وتغشى الضباب نفسي فصاحت
في ملال مر إلى أين أمشي فلت سيري مع الحياة فقالت
ما جنينا ترى من السير أمس
فتهافت كالهشيم على الأرض
وناديت أين يا قلب رفشى
هاته علني أخط ضريحي
في سكون الدجى وأدفن نفسي
وعلى هذا الشعر الغربي الأسلوب مسحة من روح جبران في مقاله حفار القبور . أما الياس أبو شبكة فيجعل من الأسى والألم أعمق مصدر للإلهام :
أجرح القلب وأسق شعرك منه
قدم القلب خمرة الأقلام
وإذا أنت لم تعذب وتغمس
قلما في قرارة الآلام
فقوافيك زخرف وبريق
كعظام في مدفن من رخام
بقي أن نقول أن الرومانسية تتميز بالذاتية – بحرية التعبير دون التقيد بتقاليد سابقة . وهي بذلك قد أطلقت العنان للشاعر ليخرج لنا عواطفه بطريقته الخاصة . فأعادت في النظم الأسلوب التوشيحي الذي عرف به الأندلسيون ، وزادت عليه ما اكتسبته من أساليب النظم عن الغربيين حتى صرنا نرى من ذلك أفانين لم نعهدها من قبل . وقد شاعت في شتى البلاد العربية حتى أصبحت تنافس القصيدة التقليدية ذات الروى الواحد . ولم يكد يدنو العقد الرابع حتى انبثاق نزعة جديدة في الشعر العربي تعرف باسم الرمزية . وهي حرية بأن نقف عندها قليلا .
ولا نقصد بها هنا الرمز إلى المعاني عن طريق التصوير الحسي ، فذلك أمر معروف في أدبنا منذ أقدم عصوره . يكفي للتمثيل أن نذكر منه ما وضع على ألسنة الحيوانات كقصص كليلة ودمنة وما جرى مجراها ، أو ما جاء مجازا في أقوال الشعراء القدماء وخصوصا الصوفيين منهم ، أو ما نراه حديثا في بعض فصول جبران ، وروايات توفيق الحكيم وغيرهما من رجال الأدب .
وإنما نقصد نوعا من الشعر ظهر أولا في لبنان على يد فئة متأثرة بالأسلوب الرمزي الذي سلكه بعض شعراء فرنسا كالبر سامان ، , وبول فاليري وغيرهما . وعند هذه الفئة أن كلتا الكلاسيكية والرومانسية قد أخفقت في التعبير عن الجوهر الشعري أو الوصول إلى أبعاد أغوار الذات والحياة . فالأولى عندهم تقريرية يسودها ما يسود النثر من وعي عقلي لا تمس الحياة إلا مسا سطحيا فتكتفي بأن تعبر عنها بما يتناول الإفهام عن أقرب طريق وأوضحه ، ولذا يفوتها ما للألفاظ من دلالات بعيدة وما وراء المعاني . ويرون في الرمزية المورد العذب الذي يستقي منه الشعر الصافي . وقد عرف بالرمزية عدد من شعراء العصر وفي طليعتهم سعيد عقل . وهو يرى أن الشعر موسيقى ، وأن الشاعر الحق لا يكون له أفكار وصور وعواطف قبل النظم ، وأن عناصر الوعي لا تلعب في الشعر أقل دور . وكأنه يريد بذلك أن حالة موسيقية يجب أن تسيطر على الشاعر أولا ، متى غرق في لجها ، رأى وسمع مالم يره أو يسمع به من قبل . فهو لا يفكر عن وعي بما سيقول ، ثم يلبسه حللا من موسيقى النظم ، بل وهو نشوة النظم الموسيقى تتحرك فيه عملية الخلق فتتوالى عليه أثنائها الخواطر و الأفكار . فالشعر الرمزي له مزيتان رئيسيتان . أولاهما أنه موسيقى الأساس ، وثانيهما أنه يعني بإيحائية اللفظ لا بمعناه القريب . وبمعنى آخر انه ينصرف عن الواضح أو القريب المآخذ إلى المبهم الموحى للبعيد المرمي حيث يشعر العقل أنه أتحد بموسيقى الكون وحماله . والنزعة الإيحائية في الرمزية تقتضي في الغالب غير المألوف من التعابير كقولهم – الشهوة الحمراء – الجمال الخجول – الثلوج الخرساء – العدم الضرير – الطعم الرمادي – الضوء البليل – ضباب القنوط – كبرياء النهار – وما شكل من هذه الأوصاف الجديدة . ومن أمثلة الشعر الرمزي قول صلاح لبكي :
قومي بنا نتثنى
أنشودة الآزال
ونرتمي تمتمات الضياء
فوق الجبال
وقول سعيد عقل :
تفكرت فالبال سكني الربيع
وقطبت فالصحو – ذاك – أرتحل
وأنملك البيض نقل الوعود
عليها وفي الهدب وقف الأجل
وقوله :
جرح على النور الهوان
ومأتم معه الجنان
وبأ ضلع الأحرار آبا
د صغيرات حسان
على أن هذه النزعة إلى غير المألوف قد تصل عند بعضهم إلى حد الغموض فتكون لمحات خفية لا تدرك ألا بعد كد وتعب مضن يفقدها الجمال الفني . أو قد تصل ببعضهم إلى التوغل في مهامه فارغة إلا من الرمال التي لا حياة فيها . فتراهم يأتون بل يثرثرون بما لا معنى له من التراكيب الشعرية التي لا طائل تحتها . ومهما قيل في الرمزية فإننا إذا نظرنا إلى وجهها الأفضل الذي يتبن لنا في فن أعلامها ، رأيناها ذات أثر فعال في الشعر الحديث . هي وأن لم تستطع أن تتغلب على الرومانسية ، فقد جعلتها تتحرر مما شابها على أيدي كثيرين من ابتذال وتميع ، وأصبحت تعنى أكثر بالروعة الفنية العالية .
طور الرومانسية الجديدة
والواقع أن الشعر في طور من أطواره التاريخية ، يجوز أن ندعوه طور الرومانسية المتجددة . فهو يلبس ثوبا قشيبا من الجمال اللفظي والمعنوي ، وأربابه العصريون يعنون بطلب البعيد من المعاني وتوخي النفيس من الحلل اللفظية . ومن أمثله ذلك قول بشارة الخوري في خمريته ( بأبي أنت وأمتي ) .
بأبي أنت وأمي – أسقنيها
لا لتجلو الهم عني – أنت همي
صبها من شفتيك
في شفتيا
ثم غرق ناظريك
في ناظريا
واختصرها ، ما عليك
أو عليا
أن تكن أنت أنا ، وجعلنا الزمنا قطرة في كأسنا
وفي مرثاته للزهاوي يصف حاله في طريقه إلى بغداد فيقول :
بغداد ما حمل السرى
مني سوى شبح مريب جفلت له الصحراء والتفت الكثيب إلى الكثيب
يتساءلون من الفتى العربي
في الزى الغريب
أنا دمعة الأدب الحزين
رسالة الألم المذيب
من قلب لبنان الكئيب
لقلب بغداد الكئيب
وقول ( الياس أبو شبكة ) في قصيدته ( شمشون ) مخاطبا دليلة :
ملقيه ففي أشعة عينيك
صباح الهدى وليل القبور
وعلى ثغرك الجميل ثمار
حجبت شهوة الردى العصير
ملقيه فبيين نهديك غامت
هوة الموت في الفراش الوثير
هوة أطلعت جهنم منها
شهوات تفجرت في الصدور
وقول عمر أبو ريشة واصفا بؤس بلاده أيام كانت تحت سيطرة الأجنبي :
أنا من أمة على العز
وأغفت مغموسة في الهوان
عرشها الرث من حراب المغيرين
وأعلامها من الأكفان
قوله في طلل ثابت على عاديات الزمان :
رمال وأنقاض صخر هوت
أعاليه تبحث عن أسه
لقد تعبت منه كف الدمار
وباتت تخاف أذى لمسه
هنا ينفض الوهم أشباحه
وينتحر الموت من يأسه
وقول فوزي معلوف مخاطبا قلمه :
رب دمع كفكفته من عيوني
سال حبرا في الطرس يخفق خفقا
وعذاب نزعته من ضلوعي
أخ بين السطور يحرق حرقا
يا يراعي رافقت كل حياتي
فارو عني ما كان حقا وصدقا
أنا لم ألق مثل صمتك صمتا
حولته عرائس الشعر نطقا
ومثل هذه الأقوال النابضة بالحياة والمشرقة بنور الإبداع كثيرة في أدبنا الحديث .
الواقعية ليست من الأطوار الفنية
بقي أن نقول أن بعضهم يحسب الواقعية من الأطوار الفنية وليست كذلك عند التحقيق ، وإنما هي تغير قد طرأ على مواضيع الأدب لا على أساليبه الفنية ، إذ خرج الأدب عن إطاره التقليدي فلم يعد همه التزلف إلى ذوي النفوذ والسلطان كما كان قديما ، أو السبح في عوالم خيالية لا علاقة لها بحياة الناس وواقعهم ، بل فتح عينيه على أحوال مجتمعه فرأى ما فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية و سياسية ، وراح نثرا ونظما يكشف عن نواحي النقص في هذا المجتمع ويعالجها بما يراه خيرا للشعب عامة لا لطبقة خاصة منه .
هذا النظر الواقعي إلى الحياة قد شاع حديثا في جميع المناحي الأدبية فتناولته المقالة والخطبة والقصة والشعر والمسرحية ، ولكنه لم يغير شيئا يذكر من أصولها اللغوية وأساليبها الفنية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.