الرئيس السوري يبحث مع رئيس المخابرات التركية المستجدات الإقليمية واتفاق قسد    أبراج السعودية تتوشح بعلمي المملكة وباكستان احتفاء باتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك    إعلام عبرى: "حكومة الدماء" تسعى لتحويل إسرائيل إلى أوتوقراطية دينية متطرفة    بريطانيا.. حفل خيري ضخم في ملعب ويمبلي دعما للفلسطينيين في غزة    التاريخ يكرر نفسه.. تورام يعيد ما فعله كريسبو منذ 23 عاما ويقود إنتر للتفوق على أياكس    مورينيو: من المدرب الذي سيقول لا لبنفيكا    محمود وفا حكما لمباراة الأهلي وسيراميكا.. وطارق مجدي للفيديو    تصريح بدفن جثة ربة منزل بعد ذبحها على يد زوجها بالعبور    وزير التعليم يعلن تفاصيل النظام الدراسي الجديد للصف الثالث الثانوي (العام البكالوريا) 2025 /2026    السيطرة على حريق شب داخل محل ألعاب أطفال بمدينة نصر    سعر الذهب اليوم الخميس 18-9-2025 بعد الارتفاع القياسي بالصاغة.. عيار 21 الآن بالمصنعية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الخميس 18/9/2025 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    هنيئًا لقلوب سجدت لربها فجرًا    بعد تعرضه لوعكة صحية.. محافظ الإسماعيلية يزور رئيس مركز ومدينة القصاصين الجديدة    جمال شعبان ل إمام عاشور: الأعراض صعبة والاستجابة سريعة.. و«بطل أكل الشارع»    مقتل 3 ضباط شرطة وإصابة اثنين آخرين في إطلاق نار بجنوب بنسلفانيا    تصدرت التريند بعد أنباء زواجها بشاب، ماذا قالت إيناس الدغيدي عن الطلاق (فيديو)    وزارة العمل: 50 فرصة عمل لسائقين بمرتبات 10 آلاف جنيه    محافظ شمال سيناء يتفقد أعمال تطوير بوابة العريش وبفتتح مقراة الصالحين لتحفيظ القران الكريم (صور)    فائدة 100% للمرة الأولى.. أفضل شهادة إدخار بأعلى عائد تراكمي في البنوك اليوم بعد قرار المركزي    صراع شرس لحسم المرشحين والتحالفات| الأحزاب على خط النار استعدادًا ل«سباق البرلمان»    قبل أيام من انطلاق المدارس.. تحويلات الطلاب مهمة مستحيلة!    إصابة سيدة فى انهيار شرفة عقار بمنطقة مينا البصل في الإسكندرية    "أوبن إيه.آي" تتجه لإنتاج شريحة ذكاء اصطناعي خاصة بها.. ما القصة؟    أسامة فراج بعد محمد محسوب .. ساحل سليم تتصدر قائمة التصفية خارج إطار القانون من داخلية السيسي    مكافحة الإدمان: علاج 100 ألف مدمن خلال 8 أشهر    لأول مرة.. ترشيح طالب من جامعة المنيا لتمثيل شباب العالم بمنتدى اليونسكو 2025    محمد صلاح يتجاوز ميسي ومبابي ويكتب فصلًا جديدًا في تاريخ دوري الأبطال    أخبار × 24 ساعة.. الخارجية: لا بديل عن حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية    تكريم أمينة خليل.. تفاصيل حفل إطلاق النسخة السابعة من مهرجان ميدفست مصر (صور)    عمرو منسي: مهرجان الجونة مساحة أمل للمواهب وصناعة السينما    الشاعر الغنائي فلبينو عن تجربته مع أحمد سعد: "حبيت التجربة وهو بيحكيلي عليها"    أحمد سعد مداعبا المؤلف الغنائي محمد الشافعي: "بكلم مامته عشان يألف لي"    محمد عدوي يكتب: الخفافيش تعميهم أنوار الشمس    مصفاة "دانجوت" النيجيرية تصدر أول شحنة بنزين إلى الولايات المتحدة    "سندي وأمان أولادي".. أول تعليق من زوجة إمام عاشور بعد إصابته بفيروس A    90.2 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال تداولات جلسة الأربعاء    نقيب المحامين يكرم400 طالب متفوق من أبناء محامي الإسكندرية    ب 3 طرق مش هتسود منك.. اكتشفي سر تخزين البامية ل عام كامل    هتتفاقم السنوات القادمة، الصحة تكشف أسباب أزمة نقص الأطباء    أسباب الإمساك عند الطفل الرضيع وطرق علاجه والوقاية منه    حكم مباراة الأهلي وسيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    نتيجة وملخص أهداف مباراة ليفربول ضد أتلتيكو مدريد في دوري أبطال أوروبا    موعد مباراة برشلونة ونيوكاسل يونايتد في دوري أبطال أوروبا والقناة الناقلة    "بعد هدف فان دايك".. 5 صور لمشادة سيميوني ومشجع ليفربول بعد نهاية المباراة    بهاء مجدي يحدد مفتاح الزمالك للفوز على الإسماعيلي    سعر الموز والتفاح والمانجو والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 18-9-2025    إنتاج 9 ملايين هاتف محمول محليًا.. وزير الاتصالات: سنبدأ التصدير بكميات كبيرة    استشهاد 99 فلسطينيًا في غارات الاحتلال على غزة خلال يوم    عاجل| "الشعاع الحديدي": إسرائيل تكشف عن جيل جديد من الدفاع الصاروخي بالليزر    بريطانيا: زيارة الدولة الأمريكية جلبت 150 مليار باوند استثمارات أجنبية    مواقف وطرائف ل"جلال علام" على نايل لايف في رمضان المقبل    رئيس جامعة طنطا يشهد حفل تخريج الدفعة ال30 من كلية الهندسة    «الأرصاد» تُطلق إنذارًا بحريًا بشأن حالة الطقس اليوم في 8 محافظات: «توخوا الحذر»    "أصحاحات متخصصة" (1).. "المحبة" سلسلة جديدة في اجتماع الأربعاء    هل الحب يين شاب وفتاة حلال؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندى: الإنسان غير الملتزم بعبادات الله ليس له ولاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تطور الشعر العربي على العصور
نشر في شموس يوم 20 - 07 - 2013

غرضنا في هذا المقال أن نتحدث عن الشعر العربي وعصوره التاريخية ، فقد كثر الكلام في ذلك حتى لم يبق بعد مجال لمتكلم . وإنما هي نظرة في الشعر من حيث هو فن ذو أطوار يتميز كل منها بطابعه الخاص .
ولنبدأ القول أن الكلاسيكية لا تنحصر في عصر من العصور التاريخية . فشعراء الجاهلية مثلا كلاسيكيون بالنسبة إلى العباسيين ، وهؤلاء كلاسيكيون بالنسبة إلى أهل هذا العصر . بل الشاعر الواحد قد يكون أصوليا متبعا حينا ، وحرا مجددا حينا آخر . خذ شاهدا على ذلك ( أبا نواس ) . فهو في مدائحه ومراثيه لا يخرج عن طريقة من سبقه ، ولكنه في خمرياته يحاول الخروج عنها فيستهزئ بالذين يقفون على الطلول ويصرفون الشعر في وصف الحياة البدوية . ومثله ( أبو تمام والبحتري وأبن الرومي والمتنبي والمعري ) وسواهم من نوابغ الشعر القديم – كل منهم على كونه يسير على الجادة العامة ، يخرج عنها أحيانا ويسير في طريق خاصة يعرف بها ويصدق هذا القول على كثيرين من قدماء ومحدثين . على أننا لا ننكر أن الكلاسيكية تطبع أدبنا القديم بطابع عام . فما هو هذا الطابع وكيف نحدده ؟ ولعل أول من حدده لنا هو أبن قتيبة في مقدمة كتابه ( الشعر والشعراء ) إذ قال ( سمعت بعض أهل العلم يقول أن مقصد القصيدة أنما ابتدأ بذكر الديار والدمن ولآثار ، فشكا وبكى وخاطب الربع وأستوقف الرفيق . ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين . ثم وصل ذلك بالنسيب ، فشكا ، شدة الشوق وألم الوجد والفراق وفرط الصبابة ، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي بها إصغاء الأسماع إليه . فإذا علم أنه قد أستوثق من الإصغاء إليه ، عقب بإيجاب الحقوق ، فرحل في شعره ، وشكا النصب والسهر وسرى الليل و أنضاء الرحلة ... فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمام التأميل ، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير ، بدأ المديح . فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام ، ولم يطل ويمل السامعين ، ولم يقطع والنفوس ظمأى إلى المزيد ) .
خصال الشعر القديم
فهناك نحن أمام طريقة كان يفرض على الشعراء سلوكها ، وقد حددها لنا أبن قتيبة وهو من أهل القرن الثالث الهجري ، وظلت متبعة حتى عهد قريب . الأ أنها تغيرت قليلا مع الزمن من حيث معالمها الرئيسية . فأصبح النقاد القدماء يشددون على يسمونه ( عمود الشعر ) ويعنون بذلك صحة المعنى ، والإصابة في الوصف ، وعدم الهجنة في اللفظ ، وتناسب الاستعارة ، ومشاكلة اللفظ للمعنى ، واقتضاؤها للقافية ، وما إلى ذلك من صفات . هكذا يحددها لنا المرزوقي في شرحه ديوان الحماسة ثم يقول ( فهذه الخصال هي عمود الشعر عند العرب . فمن لزمها بحقها وبني شعره عليها ، فهو عندهم المقلق المعظم ، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته فيها يكون نصيبه من التقدم والإحسان ) .
وإذا أضفت إلى كل ذلك ما دخل عمود الشعر من أصول التفنن الإبداعي استطعت أن تقول أن الطريقة الكلاسيكية في الشعر العربي هي على العموم – الابتداء بالغزل وقوفا على الدمن والآثار ، أو تشبيبا بالحبيبة الراحلة ، والافتنان بوصف أشواق الفؤاد وما يحتمله من ألم البعاد ، ثم حسن التخلص إلى الغرض المقصود من مدح أو سواه على أن يراعي في كل ذلك حسن البيان وطلاوة اللفظ وملاءمته للمعنى والقافية . وعلى هذه الحال وصل الشعر إلى عهد اليقظة في القرن التاسع عشر فتناوله رواد النهضة . ولكنهم مع تحسينهم لديباجته ، بعد أن غشيه لفساد في عصر الانحطاط ، ظلوا يتبعون الطريقة القديمة . ولم يحدث تجدد يذكر حتى أوائل القرن المنصرم . ففي مطلع القرن الفائت كان الشعر العربي يتمخض بحركة جديدة . ولم يمر عليها غير بضع سنوات حتى ظهرت . ثم أخذت بعد الحرب العالمية الأولى تتسع وتنتشر . فانقسم الأدباء من جرائها قسمين – أحدهما محافظ يحاول التمسك بالقديم ، والآخر مجدد يطلب نبذ القديم والأخذ بما تتطلبه الحياة الجديدة . قد اشتدت الخصومة بين الفريقين ، ثم انجلت عن ظهور شعراء متأثرين بأدباء الغرب وخصوصا شعراء القرن التاسع عشر منهم ، مما أدى إلى دخول الشعر في طور جديد هو الطور الرومانتيكي في أدبنا الحديث .
الرومانسية في الشعر
وهي حركة شعرية يراد بها التحرر من قيود الأصول التقليدية . وبكلمة أخرى هي انطلاق الشخصية على سجيتها حرة من كل عرف جرى عليه الناس ، أو طريقة تواضعوا على أتباعها . إذ تدعو إلى حرية التعبير وبساطته وبعده عن الأوضاع الصناعية . ومن مزاياها أنها تعيش عادة في عالم خيالي بعيد عن الواقع ، بل هي ترى الواقع موحشا فتفر منه إلى جنة تشيدها الأحلام حيث تجد الهناء والراحة والسلام . ومن مزاياها تقديس الطبيعة والتغني بجمالها – كما فعل جبران إذ قال مخاطبا الأرض :
( ما أكرمك أيتها الأرض وما أطول أناتك . نحن نجدف ، وأنت تباركين . نحن ننجس وأنت تطهرين . نحن نهجع ولا نحلم ، وأنت تحلمين في سهرك السرمدي . نحن نكلم صدرك بالسيوف ، وأنت تغمرين كلامنا بالزيت والبلسم . نحن نستودعك الجيف ، وأنت تملئين بيادرنا بالأغمار ومعاصرنا بالعناقيد ، نحن نصبغ وجهك بالدم ، وأنت تغسلين وجوهنا بالكوثر . نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف ، وأنت تتناولين عناصرنا وتكونين منها الورود والزنابق ) . ومثل نظرها إلى الطبيعة نظرها إلى الحياة الريفية وما فيها من بساطة وهناء وراحة . وهي تشعر مع الفلاح الذي يتعب ليستخرج الخير من الأرض ولكنه لا ينال منه شيئا كقول أحمد الصافي النجفي :
رفقا بنفسك أيها الفلاح
تسعى وسعيك ليس فيه فلاح
هذى الجراح براحتيك عميقة
ونظيرها لك في الفؤاد جراح عرق الجبين يسيل منك لآلئا فيزان منه للغنى وشاح
وأقوال الشعراء في الطبيعة والحياة الريفية كثيرة لا يمكن حصرها في المقال .
الرومانسية والمثل العليا
ومن المزايا الرومانسية – الارتفاع بالخيال إلى المثل الإنسانية العليا . فالشاعر ينشد الجمال المعنوي كما ينشد الجمال الطبيعي . وكما يتأثر بالمحاسن البشرية و الطبيعية فيعزف تأثيرها على أوتار رفيعة النغم ، يتأثر بمحاسن المثل الإنسانية ، فكثيرا ما تراه محلقا في عالم من أحلامه حيث يسحره جمال المحبة والخير والحق والحرية فلا يتورع عن أن يخاطب القوة المادية الطاغية بقوله :
أيها القوة مهلا فاحذري
أن في التاريخ للناس خبر
والى أصغي قليلا وانظري
ومعي سيري ترى فيه العبر
كم هوت من قوة قبل الأجل
وعروش وشعوب ودول
بعدما صالوا بجند وخول
أنهم بالسيف قاموا وعلوا
وبه أيضا من الأوج هووا
أجل هووا إلى مدافن التاريخ حيث تطوى أمجاد القوي الغاشمة . ههنا السيف سيعلوه التراب
ههنا المدفع يصدا في الظلام
ههنا الرمح سبيلي والحراب
ويذل الفجر في جوف الرغام
ليس للقوة سلطان الوجود
ليس للسيف العلى أو للجنود
إنما الحق سيعلو ويسود
أيها القوة هلا تعقلين
هوذا ، الحكمة تدعو العالمين
ولكنه لا بد من أن يرجع إلى الأرض وهنا يصطدم بالواقع المرير ، بأحلامه تتلاشى وإذا بقيثارته تعزف ألحان الأسى و الكآبة .
والرومانسية قيثارة الأسى والألم والأسى ميزة أخرى من مزايا الرومانسية بل العلة ابرز مزاياها وأعمها.وعلى قيثارة الأسى ترى كثيرا من الشعراء ينشدون مثل قول أبي القاسم الشابي من أنشودته (أغنية الأحزان):
لاتعني أغاريد الصباح
بلبل الأفراح
ففؤادي وهو مغمور الجراح
بتباريح الحياة الباكية
ليس يستهويه الحان السرور
وأغاني النسور غنني يا طير أنات الجحيم
وأسقنى الآلام
واترع الكأس بأوجاع الحياة
وأسقنى أنى كرهت الابتسام
غنني ندب الأماني الخائبة
والليالي السود
غنني صوت الظلام المكتئب
إنني أهواه
ونزعة الأسى شائعة في شعر الحب قديما وحديثا . على أنها في الرومانسية تمس مواضيع لم يمسها الشعر القديم ، ولم يعرفها . فالشاعر الحديث قد ينشد السعادة أو الحقيقة فيقضي العمر عبثا في التفتيش عنها ، ثم يرجع إيليا أبي ماضي يائسا إذ يقول في ختام قصيدته ( العنقاء ) :
حتى إذا نشر القنوط ضبابه
فوقي فغيبني وغيب موضعي
عصر الأسى روحي ، فسالت أدمعا
فلمحتها ولمستها في أدمعي
وعلمت ، حين العلم لا يجدي الفتى ،
أن التي ضيعتها كانت معي
أو هو قد ينظر إلى الأشجار في فصل الخريف فيتنهد تنهد ( رشيد أيوب ) وينفث من قلب حزين :
نشر الخريف على الثرى أوراقه فتناثرت كتناثر العبرات
يتركن أغصانا الفن عناقها
ويقعن فوق الأرض مضطربات
فكأنهن ، إذا خفقن ، جوانحي
وحفيفهن كأنه زفراتي
زفرات مصدور تقارب يومه
فحياته معدودة الساعات
ولعله يشهد مصرع فنان فيتألم كما تألم عمر أبو ريشة فيصفه بقوله :
نام عن كأسه وعن أحبابه
قبل أن ينقضي نهار شبابه
إن في سفر عمره
صفحات من الألم
ليس يرجو من الورى
بسمة تغسل السقم
أحزم الناس عاقل
لمس الجرح وابتسم
ويبلغ الأسى ذروته في قول الشابي إذ يراجع ما مر عليه من الزمن :
وتغشى الضباب نفسي فصاحت
في ملال مر إلى أين أمشي فلت سيري مع الحياة فقالت
ما جنينا ترى من السير أمس
فتهافت كالهشيم على الأرض
وناديت أين يا قلب رفشى
هاته علني أخط ضريحي
في سكون الدجى وأدفن نفسي
وعلى هذا الشعر الغربي الأسلوب مسحة من روح جبران في مقاله حفار القبور . أما الياس أبو شبكة فيجعل من الأسى والألم أعمق مصدر للإلهام :
أجرح القلب وأسق شعرك منه
قدم القلب خمرة الأقلام
وإذا أنت لم تعذب وتغمس
قلما في قرارة الآلام
فقوافيك زخرف وبريق
كعظام في مدفن من رخام
بقي أن نقول أن الرومانسية تتميز بالذاتية – بحرية التعبير دون التقيد بتقاليد سابقة . وهي بذلك قد أطلقت العنان للشاعر ليخرج لنا عواطفه بطريقته الخاصة . فأعادت في النظم الأسلوب التوشيحي الذي عرف به الأندلسيون ، وزادت عليه ما اكتسبته من أساليب النظم عن الغربيين حتى صرنا نرى من ذلك أفانين لم نعهدها من قبل . وقد شاعت في شتى البلاد العربية حتى أصبحت تنافس القصيدة التقليدية ذات الروى الواحد . ولم يكد يدنو العقد الرابع حتى انبثاق نزعة جديدة في الشعر العربي تعرف باسم الرمزية . وهي حرية بأن نقف عندها قليلا .
ولا نقصد بها هنا الرمز إلى المعاني عن طريق التصوير الحسي ، فذلك أمر معروف في أدبنا منذ أقدم عصوره . يكفي للتمثيل أن نذكر منه ما وضع على ألسنة الحيوانات كقصص كليلة ودمنة وما جرى مجراها ، أو ما جاء مجازا في أقوال الشعراء القدماء وخصوصا الصوفيين منهم ، أو ما نراه حديثا في بعض فصول جبران ، وروايات توفيق الحكيم وغيرهما من رجال الأدب .
وإنما نقصد نوعا من الشعر ظهر أولا في لبنان على يد فئة متأثرة بالأسلوب الرمزي الذي سلكه بعض شعراء فرنسا كالبر سامان ، , وبول فاليري وغيرهما . وعند هذه الفئة أن كلتا الكلاسيكية والرومانسية قد أخفقت في التعبير عن الجوهر الشعري أو الوصول إلى أبعاد أغوار الذات والحياة . فالأولى عندهم تقريرية يسودها ما يسود النثر من وعي عقلي لا تمس الحياة إلا مسا سطحيا فتكتفي بأن تعبر عنها بما يتناول الإفهام عن أقرب طريق وأوضحه ، ولذا يفوتها ما للألفاظ من دلالات بعيدة وما وراء المعاني . ويرون في الرمزية المورد العذب الذي يستقي منه الشعر الصافي . وقد عرف بالرمزية عدد من شعراء العصر وفي طليعتهم سعيد عقل . وهو يرى أن الشعر موسيقى ، وأن الشاعر الحق لا يكون له أفكار وصور وعواطف قبل النظم ، وأن عناصر الوعي لا تلعب في الشعر أقل دور . وكأنه يريد بذلك أن حالة موسيقية يجب أن تسيطر على الشاعر أولا ، متى غرق في لجها ، رأى وسمع مالم يره أو يسمع به من قبل . فهو لا يفكر عن وعي بما سيقول ، ثم يلبسه حللا من موسيقى النظم ، بل وهو نشوة النظم الموسيقى تتحرك فيه عملية الخلق فتتوالى عليه أثنائها الخواطر و الأفكار . فالشعر الرمزي له مزيتان رئيسيتان . أولاهما أنه موسيقى الأساس ، وثانيهما أنه يعني بإيحائية اللفظ لا بمعناه القريب . وبمعنى آخر انه ينصرف عن الواضح أو القريب المآخذ إلى المبهم الموحى للبعيد المرمي حيث يشعر العقل أنه أتحد بموسيقى الكون وحماله . والنزعة الإيحائية في الرمزية تقتضي في الغالب غير المألوف من التعابير كقولهم – الشهوة الحمراء – الجمال الخجول – الثلوج الخرساء – العدم الضرير – الطعم الرمادي – الضوء البليل – ضباب القنوط – كبرياء النهار – وما شكل من هذه الأوصاف الجديدة . ومن أمثلة الشعر الرمزي قول صلاح لبكي :
قومي بنا نتثنى
أنشودة الآزال
ونرتمي تمتمات الضياء
فوق الجبال
وقول سعيد عقل :
تفكرت فالبال سكني الربيع
وقطبت فالصحو – ذاك – أرتحل
وأنملك البيض نقل الوعود
عليها وفي الهدب وقف الأجل
وقوله :
جرح على النور الهوان
ومأتم معه الجنان
وبأ ضلع الأحرار آبا
د صغيرات حسان
على أن هذه النزعة إلى غير المألوف قد تصل عند بعضهم إلى حد الغموض فتكون لمحات خفية لا تدرك ألا بعد كد وتعب مضن يفقدها الجمال الفني . أو قد تصل ببعضهم إلى التوغل في مهامه فارغة إلا من الرمال التي لا حياة فيها . فتراهم يأتون بل يثرثرون بما لا معنى له من التراكيب الشعرية التي لا طائل تحتها . ومهما قيل في الرمزية فإننا إذا نظرنا إلى وجهها الأفضل الذي يتبن لنا في فن أعلامها ، رأيناها ذات أثر فعال في الشعر الحديث . هي وأن لم تستطع أن تتغلب على الرومانسية ، فقد جعلتها تتحرر مما شابها على أيدي كثيرين من ابتذال وتميع ، وأصبحت تعنى أكثر بالروعة الفنية العالية .
طور الرومانسية الجديدة
والواقع أن الشعر في طور من أطواره التاريخية ، يجوز أن ندعوه طور الرومانسية المتجددة . فهو يلبس ثوبا قشيبا من الجمال اللفظي والمعنوي ، وأربابه العصريون يعنون بطلب البعيد من المعاني وتوخي النفيس من الحلل اللفظية . ومن أمثله ذلك قول بشارة الخوري في خمريته ( بأبي أنت وأمتي ) .
بأبي أنت وأمي – أسقنيها
لا لتجلو الهم عني – أنت همي
صبها من شفتيك
في شفتيا
ثم غرق ناظريك
في ناظريا
واختصرها ، ما عليك
أو عليا
أن تكن أنت أنا ، وجعلنا الزمنا قطرة في كأسنا
وفي مرثاته للزهاوي يصف حاله في طريقه إلى بغداد فيقول :
بغداد ما حمل السرى
مني سوى شبح مريب جفلت له الصحراء والتفت الكثيب إلى الكثيب
يتساءلون من الفتى العربي
في الزى الغريب
أنا دمعة الأدب الحزين
رسالة الألم المذيب
من قلب لبنان الكئيب
لقلب بغداد الكئيب
وقول ( الياس أبو شبكة ) في قصيدته ( شمشون ) مخاطبا دليلة :
ملقيه ففي أشعة عينيك
صباح الهدى وليل القبور
وعلى ثغرك الجميل ثمار
حجبت شهوة الردى العصير
ملقيه فبيين نهديك غامت
هوة الموت في الفراش الوثير
هوة أطلعت جهنم منها
شهوات تفجرت في الصدور
وقول عمر أبو ريشة واصفا بؤس بلاده أيام كانت تحت سيطرة الأجنبي :
أنا من أمة على العز
وأغفت مغموسة في الهوان
عرشها الرث من حراب المغيرين
وأعلامها من الأكفان
قوله في طلل ثابت على عاديات الزمان :
رمال وأنقاض صخر هوت
أعاليه تبحث عن أسه
لقد تعبت منه كف الدمار
وباتت تخاف أذى لمسه
هنا ينفض الوهم أشباحه
وينتحر الموت من يأسه
وقول فوزي معلوف مخاطبا قلمه :
رب دمع كفكفته من عيوني
سال حبرا في الطرس يخفق خفقا
وعذاب نزعته من ضلوعي
أخ بين السطور يحرق حرقا
يا يراعي رافقت كل حياتي
فارو عني ما كان حقا وصدقا
أنا لم ألق مثل صمتك صمتا
حولته عرائس الشعر نطقا
ومثل هذه الأقوال النابضة بالحياة والمشرقة بنور الإبداع كثيرة في أدبنا الحديث .
الواقعية ليست من الأطوار الفنية
بقي أن نقول أن بعضهم يحسب الواقعية من الأطوار الفنية وليست كذلك عند التحقيق ، وإنما هي تغير قد طرأ على مواضيع الأدب لا على أساليبه الفنية ، إذ خرج الأدب عن إطاره التقليدي فلم يعد همه التزلف إلى ذوي النفوذ والسلطان كما كان قديما ، أو السبح في عوالم خيالية لا علاقة لها بحياة الناس وواقعهم ، بل فتح عينيه على أحوال مجتمعه فرأى ما فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية و سياسية ، وراح نثرا ونظما يكشف عن نواحي النقص في هذا المجتمع ويعالجها بما يراه خيرا للشعب عامة لا لطبقة خاصة منه .
هذا النظر الواقعي إلى الحياة قد شاع حديثا في جميع المناحي الأدبية فتناولته المقالة والخطبة والقصة والشعر والمسرحية ، ولكنه لم يغير شيئا يذكر من أصولها اللغوية وأساليبها الفنية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.