منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن عندما سأل الإسكندر الأكبر معلمه الفيلسوف (أرسطو) عن النصيحة التي يرغب أن يوجهها إليه عند خروجه في احد فتوحاته، قال له أرسطو: "إذا فتحت مدينة فاذهب وابحث عن كاتب أغانيها فهو حاكمها ". ولاشك أن نصيحة أرسطو تؤكد على أهمية الغناء بوصفه فاعلا اجتماعيا في صياغة الوجدان , يشكل ساحة على خريطة السلوك.. التي تسهل في نوعية الاتصال والأفعال التى ينسجها المرء مع ذاته ومع الآخرين. والأغنية المصرية - مثل كل ألوان الغناء فى كل دول العالم. هى صور التاريخ السياسي والإجتماعى التي يمكنك أن ترجع إليه لتفهم الحركة فى المجتمع المصرى وتطورها وانعكاسها على الشعب. تماماً مثلما تفهمها لو أنك رجعت الى كتب عبد الرحمن الرافعي في التاريخ مثلا. وإذا كان كان تاريخ الأغنية هو تاريخ الإنسان على الأرض فإن تاريخ الأغنية المصرية يزيد الأن على سبعة آلاف عام هى تاريخ المصريين, وهى قرون طويلة ملأها المصريون بألوان كثيرة من الغناء, وقد اختلف هذا الغناء باختلاف روح الحضارة وتباينت مستوياته هبوطا وصعودا حسب الأوضاع السياسية والإجتماعيه المختلفة التي مرت على أرض مصر وقد كانت هى الأخرى شديدة التباين. وان كان فى مقدورنا أن نقول أن معظم هذه المداخل لم ينعم فيها المصريون بالاستقرار والطمأنينة, ومن ثم فهم لم يعرفوا الرفاهية فى أغلب فترات التاريخ.. وكان المصريين القدماء يعتبرون الشعر والموسيقى فنا واحدا. أما الخطابة فكانت بالشعر الملحن وكان الشعب يلقبهم بالحكماء أو ألأنبياء أو تراجمة الآلهة, فقصائدهم كلها كانت حكما ومواعظ وهى مرشد الشعب التي تبث فيه روح المدنية وتخلق من الطباع الوحشية رقة ولينا, وإصلاحا بين الأحزاب المتنافرة, وعاملا على نزع العداوة والبغضاء تقوى النفس وتسوقها إلى الفضيلة. لذلك كان أفلاطون يفضل الموسيقى المصرية على سواها.. والكنيسة القبطية مليئة بالكنوز الطقسية والألحان, وكل ترنيمة هي نص من الشعر والنثر واللحن الذي ترتل به ويعبر عن معانيها. كما أن الأثار الأدبية من العصر الجاهلي أعظم ماخلفه لنا شعراء ذلك العصر فهى صور بليغة المعنى مبدعة من الناحية الفنية والكلمية والتصويرية, إنها الصورة الحية للشعر . وقد عرف عن العرب قديما حبهم للغناء, يغنون للطفل فى المهد ويندبون بالغناء عند اللحد ويرقصون على الغناء ويبكون الموتى بالنواح وأغانيهم فى الحروب سلاح وأشعارهم الحماسية قوية, حتى عباداتهم كانت صفيرا وتصفيقا. وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعرف بحب الإنصات للسماع , فسمح لهم بل وحثهم عليه كما نرى فى قصة السيدة عائشة مع أحد الأنصار حين أوصلت له عروسه فسألها النبى صلى الله عليه وسلم بعد عودتها : أأهديتم الفتاة الى بعلها ..؟ فأجابت عائشة : نعم , فقال بعثتم معها من تغنى ..؟ فقال عائشة مازحة : تغنى ماذا يارسول الله ..؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تغنى : أتيناكم ,.. أتيناكم .. فحيونا نحييكم ولولا الحبة السمراء ماسمنت عذاريكم ولولا الذهب الأحمر .. ماحلت بواديكم وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أو علمت أن الأنصار قوم يحبون الغزل .., فالإسلام لم يحرم الغناء , بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدى سيرين الجارية المصرية التى أهداها المقوقس ملك القبط اليه مع شقيقتها ماريه , وكانت مغنية , أهداها الى حسان بن ثابت شاعر الرسول ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاها عن الغناء فهو لم يعترض ولم يكره عمل سيرين فى الغناء . وحياة العرب بدأت فى التحول الى الترف من عهد الخليفة عثمان بن عفان بعد عودة المحاربين فى بعض الممالك المجاورة ومعهم أموال وأسرى , فظهرت نهضة من فن العمارة وبناء القصور والتى تحوى مشاهير المغنين , واحتل الغناء مكانا رفيعا فى مجالسهم الى جانب الشعر والأدب .. وعندما انتقلت ألخلافه إلى الأمويين بعد مقتل آخر الخلفاء الراشدين على بن أبى طالب . إزدهر الغناء وكان من أبرز ملامح الحياة , حتى فى مكة والمدينة وكثر الشعراء فى العراق والحجاز ومابين النهرين ودمشق ونشأ أدب خاص يحمل الطابع الأموي وأصبح للغناء شأن رفيع فى المجتمع وفى تصور الخلفاء بصفة خاصة . ويعرف أن عبد الملك بن مروان كان شاعرا وملحنا وازدهرت الموسيقى والغناء فى خلافته وأيضا الخليفة سليمان بن عبد الملك كان محبا للغناء والأدب وأجزل العطاء للمغنيين والأدباء , وكان حب الخليفة عمر بن عبد العزيز للموسيقى حبا صوفيا . واكتملت صناعة الغناء فى العصر العباسي كما قال إبن خلدون فى مقدمته . وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية من المغرب الى أوروبا واختلط العرب بالشعوب المجاورة . وكان لهذا الاختلاط تأثيره على الإنتاج الفكري والموسيقى وظهر أعلام وعلماء للموسيقى والغناء مثل الكندي والفارابي وابن سينا . وتأثرت أيضا الفنون المصرية منذ أن قام محمد على - الذى تولى حكم مصر عام 1805 الى 1848 ميلادية وغلب عليها الطابع التركى .. وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تزعم بعض المشايخ حلقات الذكر والإنشاد وتتلمذ عليهم كثيرون , وأصبحت مدرسة المشايخ هى المدرسة الأساسية للغناء وظهرت الموشحات وتألقت الإبتهالات ..وظهر ايضا قالب الدور والذى كتب بالزجل ويتألف من قسمين ( المذهب ) والغصن وكان الدور يتكون من مذهب واكثر من غصن ثم أصبح غصنا واحدا لكل دور . وظهرت فى تلك الفترة فرق المسرح الغنائى والتى جاء اصحابها من بلاد الشام هربا من السلطة أو أملا فى إنتشار جماهيرى .. الى أن ظهر قالب الطقطوقه وهى أغنية خفيفه لحنها بسيط ويسمونها أحيانا ( أهزوجة ) وتكتب بالزجل . واذا قلبنا صفحات الأغانى حتى عام 1924 وجدناها أغانى عجيبه , خليطا يقوده سيد درويش من ناحية ومنيرة المهدية من ناحية اخرى ومعهما عبد اللطيف البنا فالحياة السياسيه والاجتماعية الناتجة عن الحرب العالمية الأولى ونيران ثورة 1919 كان لها الأثر الكبير على المجتمع وبالتالى على الغناء . وقد كوت النيران قلوب الأمهات والزوجات والشيوه والأطفال عندما كانت السخرة تلهب ظهور أبنائهم ورجالهم وعائلهم وتسوقهم الى ميدان الحرب لخدمة الإنجليز , واذا بهم يغنون : ياعزيز عينى .. أنا نفسى اروح بلدى وتغنى الأهالى : ياعزيز عينى السلطة خدت ولدى ثم بدأت مصر تعرف طائفة جديدة هم أغنياء الحرب الذين أثروا من تجارة القطن والفول والعدس والبصل , ينزل الواحد منهم الى القاهرة كلما امتلأت جيوبهم بمئات الجنيهات , فيتجه لتوه إلى المراقص والملآهى والصالات التي أعدت خصيصا له ويشعل السيجارة للمطربة بورقة العشرة جنيهات والمائة , وتغنى له المطربة الكبيرة : ( بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة ) كما يغنى المطرب الصييت ( إرخى الستارة اللى فى ريحنا .. لاحسن جيرانا تجرحنا ) . وماتت أغانى ثورة 1919 بموت الثورة , ولو أنها نجحت لخلدت أغنيات كثيره منها ( ياعم حمزة احنا التلآمذة .. مايهمناش فى القلعة نبات ولا المحافظة ) . إمتزج فن الثورة وفن أغنياء الحرب فى هذه الفترة , فسيد درويش يغنى : (أنا المصرى كريم العنصرين) و(أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا ) فى أوبريت شهرزاد .. ومطرب فى الصالات يغنى ( إرخى الستارة ) وبظهر الكورس مع سيد درويش ويختفي فى أغنيات الصالات , فالأولى أحاسيس جمعية شعبية , والثانية متطلبات فردية لايصح أن يسمع فيها صوت الجماعة .. وتبدأ فترة ماقبل الحرب العالمية الثانية , ويظهر نجما العناء و القرن والعشرين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب , وقد أخذ كل منهما بمظاهر النهضة العلمية والثقافية وبدأت الطوائف تستنير , وبدأ المتعلمون يمثلون كثرة فى المجتمع , وبدأ الفن يسايرهم ويأخذ عن حضارة الغرب . لعب الشعراء والمفكرون دورهم فى هذه الفترة فاختص أمير الشعراء احمد شوقي مطربه محمد عبد الوهاب بأشعاره وأختص أحمد رامي أم كلثوم بمؤلفاته , وتسجل هذه الفترة نزول كبار المفكرين الى مجال الغناء الوطني والشعبي والعاطفي , وغنى عبد الوهاب قصائد لمهيار الديلمى وصفى الدين الحلى , وغنت أم كلثوم لأبى فراس الحمداني . وهنا ظهر فن المونولوج الفكاهى الذي أعجبت به الأرستقراطية المصرية لأنه يسخر من أولاد البلد , كما ظهر فن المونولوج غير الفكاهى الذى ينفرد المطرب بأدائه ويروى قصة ذات بداية ونهاية , وقد بدأ ظهوره فى الروايات الغنائية على المسرح التى تؤديها بطلة الرواية أو بطلها , ثم تطور على يد محمد القصبجى , حيث أصبحت له مقدمة موسيقية خاصه , وغنى بعناصر التعبير الموسيقى . وتعتبر الإذاعة أهم الجهات التى أنتجت الأغنية المصرية بكل أشكالها وقالبها وهى المصدر الأساسي لاكتشاف المواهب وصقلها وتلميعها , حاولت رفع مستوى الغناء باللجوء ألى ديوان أحمد شوقى لتختار منه القصائد ألدينيه والحماسية وقد ابتكرت مايسمى بالأدب الإذاعي , والصور الغنائية وقدمت الأغنيات الفردية والجماعية , والمونولوج الغنائي والفكاهى بل وخصصت فى بداياتها فترة لإذاعة الموسيقى البحتة , وأخرى للأغنيات الشعبية والريفيه والعالمية , والأغانى فى كل المناسبات وبشتى الموضوعات والمواويل التى يكتبها الشاعر الشعبى منذ عصر هارون الرشيد ويلقيها بأسلوب نغمى فريد يعتمد فى نظمه على ألوان البديع والبيان كالآستعارة والطباق والجناس والتورية . واصبح نجوم الغناء هم الأكثر شهره فى تاريخ السينما ألمصريه , والسينما الغنائية فى مقدمات الأفلآم المنتجه منذ عهدنا بالسينما الناطقة . ولقد جعلت السينما المصرية ومعها صوت محمد عبد الوهاب وألحانه وفن أم كلثوم ومحمد فوزي وعبد الحليم وشاديه وفريد الأطرش وغيرهم النغمة المصرية هى الأعلى والبيئة المصرية هى الأمل , وميكروفون مصر هو الحلم . كما ألهمت ثورة يوليو 1952 الإذاعة المصرية وكل المواهب المعتمدة لديها في إنتاج أغنيات تستقبل الحدث الجديد ولم يتوقف التعبير عن كل منجزات الثورة ومساندة كل قراراتها وتصوير إنجازاتها بأشكال غنائية غير مسبوقة كأغنية واحده يشارك في تقديمها أكثر من صوت , وتقديم أوبريتات وملاحم تظهر الفرق بين الحياة قبل الثورة وبعدها . واستمرت الأغنية المصرية مواكبة لكل الأحداث الإجتماعيه والسياسية مثل التحولات الاشتراكية وبناء السد العالى وبثت الأغاني الحماسية الروح القتالية عن جنودنا البواسل وبث روح الانتماء والمعايشة لكل المتغيرات التى يمر بها الوطن .. وساهم كبار الشعراء والأدباء مساهمة كبيره فى التعبير عن آمال الوطن وطموحاته والتعبير عن أحلام الجماهير العريضة وكان فى مقدمة الشعراء صلاح جاهين وعبد الرحمن الابنودى وفؤاد حداد وعبد الفتاح مصطفى وحسين السيد ومرسى جميل عزيز وغيرهم الكثير .. وسجلت أخر سنوات القرن العشرين توقف الإذاعة عن أنتاج الأغاني لتسخيرها بالكامل فى انتاج مناسبتين سنويا هما الليله الاكتوبريه والليالى المحمديه والتى كان يتناول فيها الكتابه بالتبادل كل من الشاعرين / عبد الرحمن الا بنودى والشاعر الراحل / عبد السلام أمين وشاركهم احيانا فى مرتين او ثلاث الشاعر / سيد حجاب واقتصرت التلحين الموسيقى والتأليف على اثنين فقط من الملحنين هما الموسيقار الراحل / عمار الشريعى .. وجمال سلامه وفقدت وسائل الإعلام دورها الرائد في إنتاج الأغنية المصرية التي كان العالم العربي يتلهف عليها وكانت من أهم نوافذ المشاركة الفعالة للمبدعين من مؤلفين وملحنين فى كافة المناسبات القومية والدينية . ومع انتشار الفكر الليبرالي مع الاقتصاد المفتوح ظهرت وسائل الغناء عن طريق الكاسيت وأصبحت اليد الطولي في الإنتاج لتلك الشركات وتلتها القنوات الخاصة الفضائية , مما أحدث حالة من الخلل في حاسة السمع , كما انتشر الغناء باللهجات غير المصرية..