ترامب: على الجمهوريين استغلال فرصة الإغلاق الحكومي للتخلص من "الفاسدين لتوفير المليارات"    شركة مايكروسوفت تطلق "وضع الوكيل الذكي" في 365 كوبايلوت    المسرح المتنقل يواصل فعالياته بقرية نزلة أسطال بالمنيا    البيت الأبيض: مناقشات حساسة تجري الآن بشأن خطة غزة    "الاحتلال "يهاجم أسطول الصمود وكولومبيا تطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية ومظاهرات حاشدة بعدة عواصم عالمية..وحماس: نحيي شجاعة النشطاء    85 شهيدًا فلسطينيًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة خلال 24 ساعة    خطة ترامب لغزة.. قراءة تحليلية في وهم السلام وواقع الوصاية    «رحلة إسقاط الكبار مستمرة».. المغرب يضم البرازيل إلى قائمة ضحاياه    «قولاً واحدًا».. خالد الغندور يكشف رحيل فيريرا عن تدريب الزمالك في هذه الحالة    سعر الذهب اليوم الخميس 2-10-2025 يصل لأعلى مستوى وعيار 21 الآن بالمصنعية    مصرع أمين شرطة وإصابة آخر فى حادث تصادم بالنوبارية    بلاغ أم يقود لضبط مدرس متهم بالاعتداء على طفل فى الأهرام    متى يبدأ العمل بالتوقيت الشتوي 2025 رسميًا؟ استعد ل تغيير الساعة في مصر    عبدالله مجدي الهواري: «بحب الفن ونفسي أبقى حاجة بعيد عن اسم أمي وأبويا»    الدكتور محمود سعيد: معهد ناصر قلعة الطب في مصر وحصن أمان للمصريين    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    أكاديمية «أخبار اليوم» في ثوبها الجديد.. وفرحة الطلاب ببدء العام الدراسي| صور وفيديو    رئيس مجلس المطارات الدولي: مصر شريك استراتيجي في صناعة الطيران بالمنطقة    شهادة صحفي على مأساة أفغانستان الممتدة.. جون لي أندرسون يروي أربعة عقود في قلب عواصف كابول    إصابة 4 عمال في حادث تصادم نقل وميكروباص أمام كارتة ميناء شرق بورسعيد    قرار هام بشأن شخص عثر بحوزته على أقراص منشطات مجهولة المصدر بالجيزة    السيطرة على حريق شب داخل مخلفات بعين شمس    اللجنه العامة توافق على اعتراض رئيس الجمهورية على مواد الإجراءات الجنائية    زكريا أبوحرام يكتب: الملاك الذي خدعهم    4 أهداف.. تعادل مثير يحسم مواجهة يوفنتوس أمام فياريال بدوري أبطال أوروبا    رياضة ½ الليل| هشام يسلف الزمالك.. إيقاف تريزيجيه.. قائمة الخطيب.. والموت يطارد هالاند    نقل الفنان السوري زيناتي قدسية إلى المستشفى بعد أزمة صحية مفاجئة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للموظفين والبنوك والمدارس بعد قرار رئيس الوزراء    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    وصول وفد رسمي من وزارة الدفاع السورية إلى موسكو    مرض اليد والقدم والفم (HFMD): عدوى فيروسية سريعة الانتشار بين الأطفال    تحذير لهؤلاء.. هل بذور الرمان تسبب مشاكل في الجهاز الهضمي؟    أكلة مصرية.. طريقة عمل محشي البصل خطوة بخطوة    الخارجية التركية: اعتداء إسرائيل على "أسطول الصمود" عمل إرهابي    «مقتنعوش بيه».. ماجد سامي: كنت أتمنى انتقال نجم الزمالك ل الأهلي    حل 150 مسألة بدون خطأ وتفوق على 1000 متسابق.. الطالب «أحمد» معجزة الفيوم: نفسي أشارك في مسابقات أكبر وأفرح والدي ووالدتي    مايولو: سعيد بالتسجيل أمام برشلونة.. نونو مينديش قام بعمل كبير    جوارديولا: لدينا نقطة وسنحصل عليها    المطبخ المصري في الواجهة.. «السياحة» ترعى فعاليات أسبوع القاهرة للطعام    هيئة مستقلة للمحتوى الرقمي ورقابة بضمانات.. 4 خبراء يضعون روشتة للتعامل مع «البلوجرز» (خاص)    انقطاع مؤقت للاتصالات قرب المتحف المصري الكبير.. فجر الخميس    ارتفاع أسعار الذهب في السعودية وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 2-10-2025    الجيش الإسرائيلي: إطلاق 5 صواريخ من شمال غزة واعتراض 4 منها دون إصابات    محافظ الشرقية يكرّم رعاة مهرجان الخيول العربية الأصيلة في دورته ال29.. صور    السكر القاتل.. عميد القلب السابق يوجه نصيحة لأصحاب «الكروش»    أول تعليق من رنا رئيس بعد أزمتها الصحية: «وجودكم فرق معايا أكتر مما تتخيلوا»    ماذا كشفت النيابة في واقعة سرقة الأسورة الأثرية من المتحف المصري؟    أولى هجمات أكتوبر.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم: أمطار رعدية تضرب منطقتين    أرسنال بالعلامة الكاملة في الإمارات ينتصر بثنائية على أولمبياكوس    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    تسليم 21 ألف جهاز تابلت لطلاب الصف الأول الثانوي في محافظة المنيا    أحمد موسى يوجه رسالة للمصريين: بلدنا محاطة بالتهديدات.. ثقوا في القيادة السياسية    التجربة المصرية في الاستزراع السمكي محور برنامج تدريبي دولي بالإسماعيلية    مدير معهد ناصر: اختيار المعهد ليكون مدينة طبية لعدة أسباب ويتمتع بمكانة كبيرة لدى المواطنين    اعتراضات على طريقة إدارتك للأمور.. برج الجدي اليوم 2 أكتوبر    تعرف على مواقيت الصلاه غدا الخميس 2 أكتوبر 2025فى محافظة المنيا    مجلس الدولة يقرر إعادة توزيع اختصاصات دوائر محكمة القضاء الإداري    مجلس حكماء المسلمين: العناية بكبار السن وتقدير عطائهم الممتد واجب ديني ومسؤولية إنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد نوار يزرع ويقاتل ويبدع فى العبور : موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح
نشر في شموس يوم 09 - 10 - 2011

منذ أن خلق الله الكون ، ثم استوى على العرش ، وهو يرتب الدنيا ويسخّر مفرداتها للإنسان كأروع إبداعاته الإعجازية ، حيث استخلفه فى الأرض وحمّله أمانتها ، بعد أن توّجه بلؤلؤة العقل التى ميزته عن سائر المخلوقات .. ولايشك أحد أن تلك المنحة العقلية هى محور الإدراك الوجودى الذى تكمن بداخله الرغبة البشرية الجامحة فى التطور والإندفاع الحضارى للأمام ، عبر سيطرة متمايزة القوة على السلوك الجسدى ، بيد أن الروح تظل هى الطاقة العظمى التى أمد الله بها الإنسان عبر نفحات جزئية من روحه ، لتصبح سراً من الأسرار الإلهية المثيرة ، رغم أنها تشكل ركناً عتيداً فى صيرورة الحيوات الدنيا والبرزخية والآخرة ، حيث تتجاوز الجسد فى قدراته المحدودة القابلة للفناء عند وقت معلوم ، لذا فهى لاتموت ، بل ترتحل من مستقر لآخر ، حتى اقترانها بالجسد ثانية يوم البعث ، وخلال مشوارها الآدمى الدنيوى تبقى فى صراع مع العقل ، تتحدد الغلبة فيه تبعاً للمكتسبات المعرفية لكلا الطرفين ، أو يستمر التكافؤ بينهما سيداً للموقف .. ولاأعتقد أن المبدع يكون بمنأى عن تلك الجدلية ، بل هو الأكثر اشتباكاً معها من غيره ، علاوة على حساسيته المفرطة دوماً نحو سياقه البيئى على كل الأصعدة السياسية والإجتماعية والتاريخية والجغرافية ، بما يجعل وجدانه أيضاً فى حالة تأهب مستمر للإشتعال .. ويعد الفنان الكبير أحمد نوار ( 1945م ) هو العينة التطبيقية الأكثر ملاءمة للأطروحة السابقة ، حيث تشف أعماله بوضوح عن مهارة فائقة فى خلق توازن صارم بين حكمة العقل وإرادة الروح ، داخل غلاف شعورى دافىء يحافظ به على سمت الإنحياز لثقافة وطن .. وربما يبدو هذا جلياً فى آخر تجاربه الإبداعية التى قدمها بقاعة " أفق " خلال شهرى أكتوبر ونوفمبر من عام 2009م ، تحت عنوان " العبور " ، مستلهماً فيه آليات نصر أكتوبر 1973م ، بعد ستة وثلاثين عاماً من حدوثه ، وهو الفارق الزمنى الذى يفسر تناوله الهادىء المنضبط للحدث ، بعيداً عن الإنفعال اللحظى والفوران المتزامن معه .. وقد احتوى العرض على مايقرب من خمسين مسطحاً تصويرياً بألوان الإكريلك على التوال ، أنجزها الفنان بين عامى 2007م ، 2009م ، إضافة إلى مسرح كبير لفن العمل التجميعى ، يفصله عن قاعة العرض الأصلية ممر طويل يتصل فكرياً وروحياً وبصرياً بجوهر الرسالة التعبيرية كما سنرى لاحقاً .. وقد اخترت هذا العرض الفريد لنوار كعينة نقدية ، ليقينى أنه كاشف لشخصيته الإبداعية ، حيث يمثل عصارة صافية لثمار تجاربه السابقة التى كان غالباً مايحتفى فيها بعنصر المقاومة الفطرية لمعاول الشر ، من أجل استشراء الخير فى العالم ، بداية من تجميعه لشظايا حرب الإستنزاف أثناء تجنيدة بالقوات المسلحة آنذاك كقناص على جبهة القتال ، من خلال مجموعته ( الحرب والسلام _ 1970م ) ، ومروراً بتلك الحمامة المعتقلة وراء القضبان على ألواحه الجرافيكية فى مجموعة ( معادلة السلام _ 1986م ) ، ثم تراكيبه التكنولوجية الجاهزة والمتداخلة مع تقاطعات خشبية على مسطحات تصويرية غنية تحتشد بالمادى والروحى معاً فى مجموعته ( الإنسان والطاقة _ 1994م ، 1995م ) ، ثم رسوماته عن جبل أبوغنيم عام 1998م ، والتى جسدت الإجرام الصهيونى فى أبشع صوره ، ثم حفره الهندسية فى حديقة مجمع الفنون بالزمالك عام 2002م تحت عنوان ( 54 سنة إحتلال ) ، إحتجاجاً على ذبح الشهداء الفلسطينيين أمام عالم بلاقلب ، يشاهد إبادتهم بدم بارد ، علاوة على تجارب أخرى لم تخرج كثيراً عن هذا الإطار الإنتمائى لأمة زادها التمرد على الطغيان ، حتى كانت مغامرته الأخيرة تحت عنوان " العبور " التى تجلت فيها قدراته الذهنية على بناء الصورة بتجاوز نسبى لماهية المفردات المرئية ، عبر تدفق وجدانى سيّال ؛ فجاء العرض كعزف لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .. وهنا قد لانستطيع القبض على بوصلة التحليل النقدى دون معرفة مقبولة بمنشأ الفنان أحمد نوار فى بلدته " الشين " إحدى قرى محافظة الغربية ، والتى ولد بها فى الثالث من يونيو عام 1945م ، وعاش فيها طفولته المبكرة بين هندسية مساحاتها الخضراء ورطوبة طينتها الخصبة وبساطة ناسها التلقائيين من أصحاب الطموح الإنسانى المحصور فى عبادة صافية وقوت حلال وعائلة دافئة ، وهو ماأتاح له حياة موفورة التأمل ، موزعة بين اللعب فى الغيطان تحت ظلال الأشجار ، وعلى المصطبة الكائنة فوق الفرن البلدى بالقرية المطرزة ببيوت الفلاحين المكافحين ، حتى يحل الليل بعبائته حالكة السواد التى لايشقها إلا ضوء القمر ، ملقياً بطرحته الفضية على رأس وجسد البلدة الحالمة ، وعند غيابه لايخترق ظلمة الليل سوى مواقد النار التى يشعلها الفلاحون للتدفئة أو الطهى .. وعلى أبواب المراهقة كان الصبى أحمد نوار قد رحل إلى مدينة طنطا ليلتحق بمدرسة الصنايع الزخرفية فى أواخر الخمسينيات ، حيث تعلم بها أصول الرسم والزخرفة ، وهو ماأثر إيجابياً على مهاراته التصميمية كما سنلحظ فيما بعد .. وفى شوارع طنطا صال وجال الفتى بين الرسامين والخطاطين الشعبيين ، مستأنساً بالنفحات الصوفية للسيد البدوى ، ونكهة طنطا العتيقة التى تختلط فيها روائح البخور والتوابل بمشاهد بائعى الحمص والحلاوة ، وصوت جلجلة الأذان فى مدينة مشبعة بالحس الدينى ، لذا فعندما التحق نوار بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، كان طالباً مسلحاً بتراث بيئى شديد الخصوصية على الأصعدة الدينية والجغرافية والعلمية ، بما أهله للتفوق المنطقى بين أقرانه ، وكان بديهياً أن يحمل مشروع تخرجه " يوم الحساب " تلك الميول الدينية عبر عشرة أمتار طول وثلاثة عرض ، مارس فيها الرسم بالقلم الرصاص على الورق ، إذ بدا شغوفاً بالجنة والنار .. بالثواب والعقاب ، على جسر يصل بين الشهادى والغيبى .. بين الحسى والحدسى ، لذا فمع تجنيده بالجبهة بعد تخرجه عام 1967م من قسم الجرافيك بالكلية ، كان مهيأً لفكرة إلتحام الفن بالقتال ، والإبداع بالجهاد ، على خلفية الإنتماء الوطنى الدافىء ، سيما أن مصر وقتذاك كانت تعيش حالة من تعاظم الهمة عقب نكسة 1967م الموجعة ، بما جعل فناناً بتركيبة نوار النفسية والإبداعية يصير جاهزاً باستمرار لكتابة موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح . فإذا تأملنا عرض العبور إرتكاناً إلى ماطرحناه سالفاً ، سيما الأعمال التصويرية الإكريليكية ، سنجد أن نوار يعتمد فيها على العلم المصرى بألوانه المألوفة من الأسود والأبيض والأحمر ، كعلامة لايخطئها العقل الجمعى ، ليندفع الفنان فى تفكيكها وتحويلها إلى فيض من الرموز متعددة الدلالات داخل نفس الحالة موضع التناول ، مع مراعاة أنه يعطى لكل لون منها المساحة المناسبة للهدف التعبيرى ، فنراه على سبيل المثال يوظف اللون الأسود فى منطقة أدائية تتراوح فى مفهومها بين التجريدية والرمزية ، كما يبدو فى مجموعة أعماله " الإنكسار 1967 " 1 _ 2 ، " إعتصار " ، " ترقب " ، والتى يسيطر عليها السواد كرمز للحزن والحداد ، فى هيئة كتل متماسكة تكاد تنفلت من فعل الجاذبية الأرضية ، لتقطعها خطوط متداخلة بارقة كالشهب ، تشرع فى ذبح تلك القتامة كفعل أشعة الليزر فى الجسد الآدمى .. والكتل السوداء رغم إيماءاتها الواضحة نحو اعتصار القلوب للهزيمة المباغتة فى 67 ، إلا أن الفنان هنا يحيطها بمساحة لونية يمتزج فيها البرتقالى بالأحمر ، موحياً بعزيمة مضطردة وقودها من الدم والنار ، وقد أكد هذا الإصرار فى عمل " ترقب " عندما اقترنت العين أسفل المشهد وهى فى حالة تربص وشجن بالتليسكوب المتجه يساراً نحو هدف مرصود ، مستحضراً مهارته كقناص محترف على خط المواجهة .. وربما عند هذه النقطة الحدية فى نسيج الصورة ، يبدو اللون الأبيض فى سياقه التعبيرى كأحد معاول التحدى الروحى الناتج عن وصول طاقة الإستنفار إلى درجتها القصوى بعد صبر على التشبع بمرارة الأزمة ، خاصة أن اللون الأسود على المستوى الفيزيقى هو الأكثر قدرة على امتصاص الحرارة والضوء ، لذا فقد كان بديهياً أن تظهر شرائح اللون الأبيض كمثل شظايا نورانية تحمل نفحات البشرى والأمل .. ورغم أن الأعمال الأربعة تتكىء شكلياً على إحكام تصميمى دقيق ، إلا أنها بدت وكأنها حبلى من الداخل بقدر وفير من التضاد بين وجع الإنكسار والرغبة فى الإنتصار .. بين ضبط النفس والجنوح للمروق .. بين زخرفة الظاهر وموار الباطن ، وهو مايجعل المتلقى فى حالة توتر دائم أمام المشهد التصويرى ، متجاوزاً نعومة غزل التكوين وهندسيته البالغة .. أما المدهش هنا فهو اختفاء الجسد البشرى كلية من أرجاء الصورة ، رغم ميل الفنان الشديد للإعلاء من مكانة العزم الإنسانى الذى ظهر جلياً فى حدية الطاقة عند نقطة الإنفجار الوشيك وسط بعض الألوان المحايدة فى خلفية الأعمال كالرمادى والترابى ، وهو مايؤكد أن أحمد نوار كان يمهد فى تلك المجموعة التصويرية لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح . وبمفهوم آخر لبناء المشهد يزاوج نوار بين العنصر البشرى وآلة الحرب الجهنمية ؛ فنجده يؤنسن أدوات القتال ، ويحول الإنسان إلى أداة قتال عتيدة فى آن ، مثلما يبدو فى أعمال " الإقتحام " 1 _ 2 _ 3 ، " حامل المدفع " ، " صعود الشهيد " ، " الروح " ، " الطاقة " ، " الإرادة " 1 _ 2 _ 3 ، " الهجوم " ، " العبور " ، " نبض الطاقة " ، وفيها تظهر الطائرات والصواريخ والمدافع على جسر إيهامى يحولها إلى عناصر عضوية حيوية من لحم ودم ، تحتشد بطاقة روحية تسبق الوجود الجسدى الذى يقف عند نقطة الذوبان والتلاشى مع دوران رحى الآلة ، فى حين تظل ألوان العلم الثلاثة قاسماً مشتركاً فى كل التكوينات ، مع حرص الفنان على الدفع باللونين الأزرق والترابى كمعادل تعبيرى رمزى يومىء به بشكل مستتر إلى مياة القناه ورمال سيناء تحت سماء ملتهبة تحررأرضاً مغتصبة .. وعند هذا المنعطف المغرق فى العاطفة الوطنية والإبداعية معاً ، نلاحظ إرهاصاً لتضفير الصوتى مع البصرى فى عمل " عزف الشهيد " الذى يسوده اللون الأحمر ، إحتفاءاً بطهر دم الشهيد الذى تزفه آلتا البيانو والهارب إلى السماء ، فتتداخل الأصابع والأوتار مع الشهب الخطى المتوهج المميز لمعظم أعمال نوار ، بينما تظهر الآلة الحربية فى يمين الصورة على هيئة سواعد وأيدى ترفع البيانو إلى أعلى ، لتشارك بالعزف فى ذلك الزفاف السماوى المقدس .. وانطلاقاً من هذا المفهوم الروحانى ، سنجد أن أغلب تكوينات نوار تندفع فى العروج إلى أعلى صوب أحد أركان المشهد وهى محملة بالحد الأقصى للطاقة ، حتى أن الضوء الأبيض فيها يتحول إلى فيض من نور داخلى شديد الوهج ، وكأن المشهد كله أصبح على مشارف العرش ، فى إطار التحولات الذاتية بين الآلة الحربية الظاهرة والمقاتل المستتر خلف تلك النفحة الإلهية .. وربما من هنا نستطيع أن نصطلح على هذه المساحة فى أعمال أحمد نوار ب " الأسطورية الشعبية " ، والتى يرتبط فيها أداؤه بلغة المعتقد الجمعى داخل فضاء من الخيال الميثولوجى الساحر الذى يتصل بحبل زمنى سرى مع الجوهر الحقيقى لمعركة أكتوبر الخالدة . . وتأصيلاً لهذا الإعصار الرابض بين الأرض والسماء ، نرى نوار وهو يمزج باقتدار بين أدوات التحريك المستمر للمشهد فى بطن العلم ، مثل الأسهم والعجل والصواريخ والسلالم ، فى تكريس لآلية الصعود نحو الهدف ، بما يمهد لغزل موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح . وبالفعل يدخل نوار منطقة الغنائية البواحة فى مجموعة أعمال " معزوفة النصر " التى يمزج فيها بين حروف السلم الموسيقى وأصابع البيانو والطائرات والمدافع والصواريخ وقوارب العبور ، إضافة للعلم المصرى كقاسم تعبيرى مشترك ، حيث بدأت الأعمال تفصح عن مكنون تراسلى مضطرد ، يضفر من خلاله الفنان الصوتى بالبصرى بالحركى ، سيما الأعمال من 5 إلى 10 ، والتى يحافظ فيها على الألق الشديد لألوان خلفية الصورة ، مثل الأحمر الملتهب والبرتقالى المشع والأزرق المنير والأخضر المضىء ، علاوة على تدرجات البنى والترابى ، وهى الألوان التى قد يكون الفنان بها يستعيد تلقائياً رصيده البصرى والوجدانى فى قريته " الشين " مع موقد النار فى ظلام الغيطان ، وتسربل الضوء فى الليالى القمرية ، والهندسة الطينية فى الأرض الولود التى تكتسى غالباً بثيابها السندسية الخضراء ، لذا فإن المتلقى المدقق فى هذه النقطة على منحنى الأداء ، يكاد يشعر أن نوار
يزرع ويقاتل ويبدع فى آن ، مستحضراً منظومة العبور الإعجازية من خزان ذكرياته كمحارب ، وهو مايؤدى بالتبعية لاستثارة أبعد بقعة فى قاع نفس الخزان ، والذى ترقد فيه لقطات بارقة لحقبة الطفولة والصبا بذات القرية ، فيحدث ذلك التزامن الإسترجاعى الدقيق فى لحظات إبداعية مدهشة ، تعتمد فى حيويتها على امتصاص غذائها من الجذور المتينة لأحمد نوار كفلاح ومقاتل ومبدع قادر على الإغتراف من بئره التراثى عبر قنوات زمنية مكثفة . ويظل الفنان مندمجاً فى نسج هذه المنظومة الغنائية القتالية بتوافق هارمونى مع المقطوعة الموسيقية المصاحبة للعرض ، والتى تحتوى على خليط أوركسترالى من دقات المارش العسكرى ولهاث أنفاس الجنود ونغمات الزهو بالنصر ، فى محاولة لتعميق شعور المتلقى بالإيقاع العاطفى للمشهد التصويرى ، حتى يصل نوار إلى نقطة الثبات الإنفعالى على قوس الأداء ، عندما يدفع بمفرداته القتالية إلى صفحات من نوتة موسيقية حقيقية تمتزج على أسطرها ألوان العلم وحروف السلم الموسيقى مع الطائرات والصواريخ والمدافع ، وذلك فى مجموعة " معزوفة النصر " من 1 إلى 4 ، والتى تقترب فيها لغة الكتابة من عناصر الصورة داخل بوتقة رمزية جامعة تشير إلى قدرة الإبداع الصوتية والبصرية على تدوين الإنتصار فى الذاكرة الشعبية الجمعية .. لذا فقد حاول نوار إلقاء الوشاح الأسود على معظم مفردات المشهد ، لإبراز التوحد الإيهامى بين النغمة والرصاصة .. بين الترانيم والتفجيرات .. بين الدندنة والأزيز .. بين العزف والقصف ، حتى أن المتلقى يكاد يشعر أن الآلة الحربية قد تحولت إلى حرف موسيقى ، ليتحول هو بدوره إلى مقذوف نارى يبدو بين الإشتعال والإنطفاء .. وربما جاءت الخلفية البرتقالية المتوهجة التى احتضنت المفردات السوداء ، لتؤكد العلاقة التضادية داخل نوار نفسه بين الحمأة الوجدانية والجدولة الذهنية ، وهو مايهيىء جدران الذاكرة الشعبية لنقش موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح . ومع نهاية العرض التصويرى بكتابة النوتة الموسيقية للإنتصار ، نجد أحمد نوار وهو يستدرج المشاهد إلى عرض تجميعى مواز ، من خلال ممر طويل مغلف من الداخل بفيض من ضوء أحمر ملتهب يجهز به الفنان مشاعر المتلقى لاستقبال المجهول فى مساحة من الرهبة وجلال الموقف ، حتى يصل بالفعل لفناء العرض الذى يخصبه الفنان لإنبات علاقة بصرية جديدة بين العين ومفردات محسوسة تصل بين المادى والروحى ، مثل كراسى الإعاقة والنوتة الموسيقية وآلة الهارب والسلم والعجلة والمرايا وأكوام الرمال والمصابيح ، إضافة إلى العلم أيضاً كعلامة تحولت مع الوقت إلى فعل رمزى ذاتى متنوع الدلالة .. واللافت هنا أن أغلب عناصر العمل التجميعى حاضرة داخل الأعمال التصويرية ، حيث بدت وكأن الفنان قد انتزعها من مسطحاته الإكريليكية ليزج بها إلى آتون الإشتباك المباشر مع المشاهد على أرض تقترب من الواقع الفعلى لحرب أكتوبر 1973م . . وارتكاناً إلى مفهوم التصاعد الدرامى المسرحى ، قسّم نوار ساحة الرؤية إلى ثلاثة مشاهد منفصلة ومتصلة فى آن ، ليؤكد من خلالها رسالته التعبيرية بشكل أكثر مباشرة وقدرة على مغازلة مشاعر بسطاء المتلقين ، حيث يأتى المشهد الأول " أغنية المقاتل " _ التسمية من وحى الكاتب _ محتوياً على عدد من كراسى الإعاقة المتحركة ، وعليها مجموعة من الأجساد مقطعة الأوصال ، والتى تعتمد فى بنائها على اللدائن الصناعية ، لتبدو وكأنها لمحاربين فرغوا من واجبهم القتالى ، سيما أن الأرض تحتهم قد فرشت بالرمال .. وعلى الجانب الأيسر من المشهد وقف أحدهم يعزف على آلة الهارب مصرية النشأة ، وأمامه نوتة موسيقية ، بينما اكتست الخلفية كاملة بالمرايا ، ليتضاعف عدد المحاربين المعاقين فى عمق المشهد ، ترميزاً لامتداد التضحية من أجل غلاوة الأرض ، عبر قدر وفير من الإيمان والرضا والفرحة التى يؤكدها وقوف المقاتل أمام آلة الهارب ، وكأنه يعزف لحناً جهادياً مدوناً فى نوتته الموسيقية .. والمشهد يحتوى على نفس آلية التضاد داخل الأعمال التصويرية بين وجع الحرب وبهجة النصر .. بين أنين الإصابة وموسيقى الفوز ، على أرضية عقائدية راسخة ، لذا فإن الإنتقال للمشهد الثانى " نور الشهادة " كان منطقياً لذلك المتلقى الواقع تحت تأثير روحى متواتر ، حيث يجد نفسه فى مواجهة تقسيم هندسى لمقابر متجاورة ، يعتلى شواهدها مجموعة من المصابيح الكهربائية خافتة الإضاءة ، لتبدو كمشاعل إلهية تنير قبر الشهيد إلى يوم يبعثون ، وهو مايتأكد فى حزام المرايا المحيط بالقبور ، والذى يخلق بعداً بصرياً سرمدياً يجتذب الرائى إلى مشارف المطلق ، بما يكشف عن رغبة عارمة لدى نوار للإرتقاء بمكانة الشهيد والشهادة معاً ، إنطلاقاً من دافع دينى متجذر فى شخصيته ، ظهر جلياً عند منعطف مبكر فى مشواره ، وقتما رسم صرحيته " يوم الحساب " كمشروع للتخرج من الكلية ، مثلما أشرت سالفاً فى مطالع هذه الدراسة .. وعندما يواجه المتلقى جغرافيا المشهد الثالث " فجر التحرير " يكون قد وصل إلى ألمع نقطة على منحنى الإدراك الذهنى والروحى والوجدانى ، متفاعلاً مع مفردات مادية ملموسة ، مثل أكوام الرمال التى يغرس فيها نوار العجلة والسلم الذى تنتهى درجاته صعوداً بالعلم المرفرف على قمة مشهد التحرير المشبع بأريج الإنتصار ، والذى يزداد رسوخاً فى مخيلة المشاهد بتلك الموسيقى المصاحبة للعرض ، والمحتشدة بمتضادات متنوعة من الهمس والهدير .. من رنات الأوتار ودقات الطبول .. وربما قصد الفنان هنا تأسيس خط سير المشاهدة بشكل عكسى يبدأ من الجود بالبدن فى " أغنية المقاتل " ، ثم المقايضة بالروح فى " نور الشهادة " ، حتى يقبض المتلقى على قناعته الراسخة بأن فجر التحرير لايلوح إلا بسيل من التضحيات ، دون النظر إلى المقاصد النفعية المحدودة .. وأظن انه عند هذه المساحة الإنسانية المضيئة فى العرض يكمن جزء من الرسالة الإبداعية لنوار ، والتى يدثرها بلحاف فضفاض من الإجترار الذاتى الذى يبدأ من غيطان وبيوت الشين ، ويمر بشوارع وحوارى طنطا ومدرستها الزخرفية ، والمآذن والقباب والهرم والنيل وكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، والخنادق والتلال الرملية والصواريخ والطائرات والمدافع والقوارب ورؤوس الصهاينة وراء تليسكوب البندقية على جبهة القتال ، حتى ينصهر الفنان الكبير أحمد نوار مع ألواحه الجرافيكية ومفرداته التجميعية ومسطحاته التصويرية ، فى حالة من الزهو بذاته الفردية والوطنية ، كفلاح ومقاتل ومبدع فى العبور نحو ضفاف النور ، وعازف ومؤلف بارع لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح . المصدر : 1- دراسة فى جريدة نهضة مصر _ صفحة فنون جميلة _ الخميس 6 أكتوبر 2011م 2- دراسة فى مجلة بورتريه _ العدد 44 ( خاص عن الفنان أحمد نوار ) _ يناير 2010م

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.