منذ خطوته الأولى على أرض كابول، وجد نفسه فى قلب لعبة أمم معقدة، حيث كانت أفغانستان ساحة تتقاطع فوقها النيران، مجاهدون مدعومون من الولاياتالمتحدة يواجهون حكومة مدعومة من السوفييت. كانت حربًا بالوكالة، مشحونة بالأيديولوجيا وتكتيكات القوى العظمى. تقارير أندرسون الأولى، في تلك المرحلة، لم تكن مجرد وصفٍ لمعارك، بل نافذة تكشف ملامح مجتمع صامد محاصر بالصور النمطية وسوء الفهم الغربي، ومع مرور الوقت، راحت تلك المشاهد تشكل النواة الأولى لدوامة مستمرة من التدخلات الخارجية والاضطرابات الداخلية التي تابعها بدقة طوال عقود. ◄ انطلاق الحرب وعندما وقعت هجمات 11 سبتمبر، عاد أندرسون إلى كابول فى لحظة فارقة. كان شاهدًا على انطلاق الحرب الأمريكية لإسقاط طالبان وتفكيك القاعدة. فى كتاباته، التى جمع بعضها لاحقًا بصعوبة بالغة فى تقارير من أفغانستان، ظهر أسلوبه الإنسانى الواضح، قصص عن شعب أنهكته الحروب لكنه ما زال يتطلع إلى السلام، عن جنود متفائلين بحذر، وعمال إغاثة يواجهون تناقضات تحالفات هشة، ومع ذلك، كان يدرك أن وراء هذا التفاؤل يكمن فراغ استراتيجي، حيث ظل زعيم تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن» طليقًا، وطالبان بدأت تعيد تنظيم صفوفها بهدوء، بينما انشغل الأمريكيون بغزو العراق. هنا يلتقط أندرسون ما يصفه ب«الفجوة القاتلة» بين الانتصارات التكتيكية على الأرض وبين الفشل فى تحقيق أهداف استراتيجية مستدامة. لقد كشف، مبكرًا، أن تجاهل الحقائق الثقافية والقبلية المعقدة فى المجتمع الأفغاني، والرهان على تصورات مبسطة، كان من أبرز أسباب الإخفاق الأمريكي. خسارة حرب لا تقف عند الأحداث الكبرى فقط، بل يغوص في تفاصيل المأساة الممتدة لعقدين. يضم تقارير سابقة وأخرى غير منشورة، ليقدم صورة كاملة عن حجم الهدر، دماء سالت، موارد أُهدرت، فرص ضاعت، وتحذيرات لم يُصغَ إليها. إنه سجل لإحدى أعظم إخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية، وإشعار بمدى هشاشة أوهام القوة حين تُبنى على سوء الفهم. ◄ اقرأ أيضًا | واشنطن: لا زلنا نتوقع التوصل إلى إتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني ◄ ينبض بالإنسانية لكن الكتاب، فى جوهره، ليس سياسيًا فقط، إنسانيته تنبض في كل صفحة، أندرسون يقدم وجوه الأفغان العاديين: أطفال يعودون إلى مدارس فتحت أبوابها بعد الحرب، رجال قطعت بهم سبل الرزق، نساء يواجهن قيودًا متجددة. وفى المقابل، يرسم ملامح الجنود والمتمردين والسياسيين بدقة عين الصحفي وروح الروائي، ليحوّل الأرقام والتحليلات إلى حكايات بشرية. الفصول الأولى من الكتاب تحمل نفس التفاؤل: إعادة بناء، مؤسسات ناشئة، أمل بأن يكون الغد أفضل، لكن مع تقدم السرد، يتسلل شعور الانهيار البطيء، فساد يلتهم الدولة، خيانات تقوّض الثقة، وانقسامات تعيد طالبان إلى المشهد بقوة. يتتبع أندرسون كيف استغل المتمردون المظالم المحلية والفجوة بين الأجانب والمجتمع، حتى انتهى الأمر بانهيار الحكومة عام 2021، فى مشهد درامى ختم عقدين من الوجود الأمريكي. ولم يكتفِ المؤلف برصد الداخل، بل أبرز أيضًا انعكاسات هذه الحرب خارج أفغانستان. فقد تحولت إلى اختبار لمدى قوة الولاياتالمتحدة، إلى دليل على التمدد الإمبراطورى المفرط، إلى علامة على حدود القوة العسكرية فى عالم بات متعدد الأقطاب، ومن هنا، يصبح الكتاب أيضًا تأملاً فى معنى الحروب المعاصرة، وفى جدوى تصدير الديمقراطية عبر التدخل العسكري. الناقد والروائي الأمريكي «إليوت أكرمان» وصف الكتاب بأنه «إنساني بعمق ومصاغ بروعة، يفوق أى عمل قرأته عن أفغانستان أو أى حرب أخرى». وهذا الوصف يلخص سر الكتاب، ليس فقط توثيقًا للحرب، بل شهادة حية على معاناة أمة وعلى ثمن الأوهام. ◄ رحلة سردية يعد كتاب خسارة حرب رحلة سردية ممتدة في قلب صراع منسي، تكشف تعقيداته وتضيء على أصوات الذين عاشوا يومياته، هو عمل يذكّر القارئ أن وراء كل قرار سياسي وأي معركة عسكرية، ثمة بشر يواجهون الحياة والموت، أندرسون يمنحهم صوتًا، ليترك لنا سجلًا لا عن أفغانستان وحدها، بل عن عصر كامل، وعن كلفة الحروب حين تفشل فى أن تجلب السلام.