دغدغ النعاس أطراف أهدابه المترفة ببياض السنين الغابرة فأسدلها على تضاريس متآكلة من وقع الزمن. مر به خاطر لطالما زلزل عقله فتبخرت قيلولته في درج الريح..واستسلم لهاجس التساؤلات الملوحة بومض العجب. لن تبيح السنون مكنونات سره ولن تقر بخيبة مبطنة بها أعماقه في الصميم.. وعار يشجُبُ لياليه بقسوة..ضغط بأنامله على صدره بقوة كأنه يطمس رسوم الذكريات التي اتشحت بها روحه ناكسا" بصره على مساحة الماضي التي لا يستطيع حصرها في مكان محدد. ها هي ذاكرته قد واترت اليه محطات ظن أن الدرب قد تطهر منها فعادت تلح عليه بالحاح قاتم بحوافره..هائل باذعانه لما مضى من حالك الصور..دون ان توهي فاصلة من تفاصيلها الصغيرة.. عاد به الزمن سنوات كثيرة الى الوراء..أربعين عاما تبدلت عندها الفصول وتلونت بلهفة الصبا وحنايا اللهفة المتلحفة بعنفوان الشباب من غير ورع.. حطت به الذاكرة في قريته الصغيرة في وطنه.. بقرميد بيوتها المتعتع بحمرة الاصيل وشبابيكها المضرجة بورد الأقحوان عاقصة عرائشها كتاج يزين بها دوائرها المتهافتة لها أنظار الناظرين.. عاد شابا" في العشرين من العمر يتودد له الزمن بوعوده الكثيرة متزينا له بلباس الوعود الآسرة..ويريق لياليه ناشدا" مستقبلا" ينتظره على صهوة الحلم..و....رآها أمامه منتصبة بقامتها الطويلة وخصلات شعرها الشقراء تنسدل على جبينها باقة عز مبعثرة كسنابل القمح التي شتتها العدو في بيادر القرية..وبعينيها النافذتين الى صدره بقوة وحنين...وشفتها المتدلية كالكرم الملطخ بدوالي الغروب... زينب..اسمها يجعله يبعد عن فكره عواقب الزمن ويتجاسر أن يدنو من حدود الخيال فيعانقه برحيق ثوبها المطرز بخيوط الأنوثة العابقة في المكان شذرات من الضياء والحب والأمل.. كانت صديقة طفولته وأصبحت حبيبة صباه..وهما في العشرين يحملان في كفهما الدماء..نعم الدماء التي تنتفض غزيرة لتنسكب في أي لحظة منتشية بالشهادة في سبيل الوطن.. شبهة ما ولجت في خاطره عندما جاءته تنتفض غضبا" ودمعا" تلك الليلة البنفسجية المتوهجة بثورة العروبة.. كل خلجة من خلجات روحها تبشر بوثبة آسرة للانتفاضة..والويل الآتي.. اخبرته بان رصاصة غادرة من العدو اصابت اباها في قلبه فأردته قتيلا..و زفت اليه نبأ انتمائها للمقاومة والبندقية...ودعته للالتحاق بها.. في تلك الليلة لم ينم والخوف يعتصر أمانية الكثيرة التي لطالما اختلى بها ومعها في لياليه المتشعبة الآفاق.. سرى خدر الخوف في بدنه فقرر الهروب الى وجهة بعيدة فيعفو الزمن آثاره فيما بعد وينجو بشبابه من بريق عينيها.. عيني زينب!!.. حزم أمتعته بصمت مدقع كالخوف البطيئ القاتل وهو ينازع سكرات ندم يكاد يطيح بما تبقى فيه من مشاعر جريئة..وأودع ضميره مرتهنا بثقل الخطيئة التي أتلفته..ركب الطائرة ليسافر الى فرنسا ملبيا دعوة صديقه هشام للالتحاق به للعمل معه.. كم مضى من الوقت بعد ذلك لم يعد يدري بعد أن أظمأ السهر حنجرة صمته.. قبل أن يسمع خبر استشهاد زينب ممسكة بالبندقية تدافع عن بيتها وأرضها...و..وطنهم.. عاش هو غريرا في ضلاله وماتت هي في باحة الاحتشاد لتربة وطنها وقضية عروبتها...دون ان تشي عنه أو تبث خيبتها فيه لأحد..طاوية سره معها الى الأبد..سره الجبان!! كتم السر في طيات أعماقه ردحا" طويلا" من الزمن.. أربعين عاما" لم يبصر فيها إلا ضنك الليالي الحالكات رغم زينتها المبرجة الظاهرة... تزوج دون أن يدري لماذا تزوج.. وأنجب دون أن يفقه لمن ينجب..أللغربة الجاثية في حناياه صرحا" من القهر والجوى؟...أم ليخفف من وطأة ما هو شديد عن نفسه؟؟ زينب والوطن..كلاهما استمسك بأوثق العُرى..عُرى البطولة والشهامة.. أما هو...هو والحزن المتلف مثله..المتملك من زمامه..والندم والخيبة والوجع المتآكل بتكتم قاتل..يساوره الظلام وينادمه القلق..فاستمسك بالعدم.. ماتت شهيدة وعاش ميتا"...غابت من دنيا الفناء..وبقي للذل والعناء...سارت الى المجد شامخة..وغُرس في سخام روح خاوية..... زينب والوطن..........وسر دفين في أحشاء ليل قاتم طويل... عاد ليتجنب الذكرى ساهما" في فضاء مدجج بسبات العدم فتخلل لحظاته صوت من الأعماق ينادي: "زينب...زينب والوطن"...