ويوشكُ نصفُ قرنٍ أن ينفرطَ عقده، ولم أشاركْ في انتخاباتٍ، ولم أدركْ لصوتي قيمة إلا بعد ثورة يناير، وكنتُ حريصاً على أن يصاحبني صغيري ليرى المشهد فلعله ينعم بأجواء حرية أفضل من أبيه التعس، وكنتُ أحادثه وهو في الإنصاتِ مستغرقاً ومستمتعاً، ولما بادرني بسؤاله: لماذا أراكَ فرحاً يا أبي مع كلِّ استحقاقٍ هكذا؟ قلتُ له: اعلم يا بني حين ندقق في أزمتنا بعد الاحتلال وطيلة العقود الماضية سنرى كيف جرد حكم العسكر القيم؟ وكيف خرب الذمم؟ وأتي على الأخضر واليابس، ورمى بنا في مهاوي الأمم، فسياسة العسكر لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوبِ، إن خرجتْ هي تركت الخيطَ وقد جُمِعَ وشُدَّ. وشيمةُ العسكر أنه يلتوي التواء الحبل ويستوي استواء السيف، عَدُوهُ في أعماقه كامنٌ، لا يعرف من الذكاء إلا المكر والمراوغة، ترى في كلامهم ضخامة اللفظ.. وقلة المعنى وهشاشة المبنى، ولو بحثتَ عما في أذهانهم فلا تجد إلا.. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وهم يؤثرون حياتهم على أوطانهم، ولذاتهم على واجباتهم، فلا عجب أن ترى الواحد منهم يصلي في اليوم مرةً ويقتل في ذات اليوم ألفاً إلا من رحم، والكذب أظهر صفاتهم، ويرون الكذب نوعاً من الشطارة أو أصلاً يُبنى عليه، وتجدهم يتشدقون بالديموقراطية وهم أولُ كافرٍ بها، وينادون بحرية الإنسان ويفتقدون في تعاملهم إلى أبسط حدود الأنسنة. والشعب الذي لا يحكمه الصدق لا تجد في مظاهر حكمه إلا النفاق والمبالغة وتسلم الأيادي، وخير أجناد الأرض، والقضاء الشامخ، وزعيم وكوتش وباشا وبيه، واللات والعزى، ورجالة وطول عمر ولادك يا بلدنا رجاله، ولابد لحكم العسكر من جوقة تسبح بحمده وتقدس له، وتعطي فروض الولاء والطاعة كل صباح، ليستمر مسلسل الإفك على أغلب الشعب المسكين الذي يصدق الأكاذيب ويروجها، ويُحكم العسكر قبضته بإعلام كاذب يصنع من الفسيخ شربات، أما الآن فنحن نشمُّ رائحة الحرية وتشعر أن لصوتك قيمة. ويعاودني الصغير سائلا اليوم في مرارةٍ: هل ستشارك في الانتخابات بتاعتة السيسي وصباحي يا أبي؟ قلتُ له: تعاهد رجل مع حية قتلتْ شقيقه على أن يسامحها، وعلى أن تعطيه كل يوم بيضةً من ذهب، واستمر العهد فترة.. وسرعان ما تذكر الرجل شقيقه وسوء ما فعلته الحية به، فحمل فأسه وضربها فلم يصب إلا ذيلها، لكنه لم يقتص لأخيه وخسر البيضة فندم، وطلب من الحية الرجوع إلى سابق عهدهما، فقالت له: (كيف أُعاودكَ وهذا أثرُ فأسِك؟!)..وأنا بدوري أقول: كيف نثق في انقلاب العسكر وقد قتل من قتل واعتقل من اعتقل وأعاد نفس الوجوه التي قامت عليها الثورة وألغى الدستور وسابق الاستحقاقات الانتخابية؟ فمن اعتادَ الحياة في مستنقع الكذب يا بني مستحيل أن ينظر إلى الطهارة، ولو أُصيبَ ب بلل الطهارة لبصقها، والخنفساء حين تُدفن في الورد لا تتحرك، فإذا أعيدت إلى الروث رتعت، ولا يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمجَّ سُمَّها فيه، وكلٌّ إلى طبعه عائد، ولن يهدأ الظلم خلال الانقلاب حتى لو تدلى جدار من السماء حتى يبلغ الأرض، أو رُفع حائطٌ من الأرض إلى عنان السماء، فشرعية الانقلاب ..إكرام المسلم حرقه... هكذا أظن الانقلابين. وأردفتُ قائلاً: ومن يتأمل ما حدث في بلاد الربيع العربي يا بني ويدقق بعين الحياد يجد عجب العجاب، فهذا شبح بوتفليقه قد طلَّ دون ربيع ولا خريف، وقريباً تجد العسكري في زِيٍّ مدني يحكم المحروسة، وبعد شهور قليلة ستجد اللافتات على أنقاض سوريا تنادي على بشار بأنه حبيب الملايين، ولا مانع من عودة عبدالله صالح ومن في القبور، هكذا وبجرة قلم وبسوء نية، وبفساد طوية وبغباء البعض، وحقد الآخرين وتملق الخوالف وتدليس الكهنة، راحت كل الاستحقاقات أدراج الرياح، فلا قيمة لشعب شريف قام بثورة عظيمة آنفاً، وسيئة السمعة حالياً.. بل إن البعض ممن فضحتهم الثورة يتشدقون على الملأ بأنها كانت مؤامرة. وواقع الانقلاب وما تلاه يثبت أنه.. لا لصوتك قيمة، ولا يقبلون بدستور لم تشارك فيه تمرد وتشرد، وأشهر المخرجين وبعض راقصي التانجو وبائعو البانجو، ولا مانع من بعض المحللين ذوي اللحي الكثة والذين هم أقرب ل كذابين الزفة، وإني لأحسب واضعي الدستور والانقلابين يكرهون الدين كراهية اللصوص للقانون، وكراهية من تأكلُ بثدييها للعفاف، فكلُّ شاربِ خمر يسكر بشربه مرة، وبرؤيته الناس سكارى مثله مرةً أخرى. وحكم العسكر لابد وأن يعود كسابق عهده وأشد، فلا سيادة لقانون، ولا مظاهرات بعد اليوم، فالدبابة مصدر السلطات، ولا مانع من أن تحمل الدستورية البندقية، ومن لجأ لبيت العسكر فهو آمن، ومن تحصن بجبهة الإنقاذ أنقذ رقبته، ومن صلى في غير الكنيسة فيوصم بالإرهاب، أما من اعتصم في الميادين أو تظاهر فالحيُّ له بالمرصاد. يا حسرة على العباد!! كم في الطوابير وقفنا؟ وكم من المال أنفقنا؟ وكم حلمنا بوطن شريف بعد ثورة شريفة؟ وكل حرية وأنت طيب. ، وسنة ديمقراطية كفاية علينا وبح، لكن ثلاثين سنة وأكثر من العسكر قصيرة وسهلة وبسيطة وهتعدي أوام!. لكن ثق يا بني أن انقلاب العسكر ومن في أردافه ينعق وينعم يسطرون أسوأ أيامهم، ومن ارتضى الظلم وقنع به كمن ظلم، والطاغية كمن رضي بالطغيان سواءً بسواءٍ، فالنار لهما بالمرصاد، والفارق جليٌّ بين من أحنى ظهره للانقلاب ليمتطيه ومن أبى وثار... وأفضل الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر، والظلم إنْ دام دمَّر، والعدل إنْ دام عَمَّر. قال رجلٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عوف بن مالك: كذبتم، والله لقد رأينا أخير من عمر بعد رسول الله، فقالوا: من؟ قال: أبو بكر. فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك وأنا أضلُّ من بعير أهلي (أي قبل أن يُسلم، لأن أبا بكر سبقه في الإسلام بست سنين)، والشاهد من القصة يا بني...أن من قال الثناء على عمر رجل واحد، وصمت الجميع فلم ينكروا عليه قوله إلا رجل واحد، لذا كان قول عمر: كذبتم، (لاحظ لم يقل كذبتَ للقائل فقط) كأن السكوت وعدم رد القول الخطأ يعني الموافقة عليه، ومن ثمَّ تحمل تبعاته وآثاره، وبنفس القياس أقول: إن من رضي بأفعال الانقلاب ولو بالصمتِ كمن قتل أو اعتقل أو نهب سواءً بسواءٍ. اللهم إنا نبرأ إليك من كل فعل وقول أتى به الانقلابيون على غير ما تحب وترضى، اللهم فاشهد، وأقول للعسكر: كيف أعاودك وهذا أثرُ فأسِك؟!. وأقول لحزب النور(الخوالف) ومن في حظيرة الانقلاب: المرأة السافرة الفاجرة لا يؤلمها إلا منظر العفاف، فصمود الشرفاء يطعن كرامتكم إن كان لها بقية...ومن وصل متأخرا خير ممن لم يصل، فلا تأخذكم العزة بالإثم، والطفل الذي لم يكمل عامه الثاني عشر مات في سجون الانقلاب من التعذيب، وقد قال في صمت ما لم يستطع أن يقوله علماء يصدعوننا ليل نهار في فضائيات قميئة، يرحمك الله يا صغيرنا فقد علمت الكبار معنى الثبات. وأقول لمناهضي الانقلاب: أنتم فخر الأمة وثوبها الناصع، فحافظوا على سلميتكم والله ناصركم، وتزودوا بمعية الله والإيمان، فمتى يغلفُ الإيمانُ النفسَ ويتخللُ أعماقها ينطلقُ الإنسانُ في الكون الفسيح ليعمره ويعبر عن عواطفه وانتماءاته دون مواربةٍ ولا خجل، بل يعتز ويفخر بوطنه وإنجازاته، ولا يتنافي هذا الحب مع حبه لدينه وعقيدته وأمته مادام بعيداً عن العنصرية والتطرف ومستمداً من قواعد الدين، هذا ما تعلمناه في مهدنا مع دعوة الإخوان، ونشأ ضميرنا وعقلنا الجمعي على قدسية الوطن والتضحية من أجله، فلا غرابة أن يكون الإخوان في طليعة أي ثورة، بل الأبعد من ذلك أن أقل عضو فيهم ولا نزكيهم على الله يقبل بأن يكون قمحاً للإنسانية يُطحن ويُعجنُ ويخبزُ لرفعة هذا الدين والوطن، وشرفاء الوطن على اختلاف انتماءاتهم عازمون على الخلاص من هذا الإرث العفن ، ومع كل شهيد ومعتقل تتجدد بعضُ الأوجاع، وخلال كل مسيرة أو وقفة تناهض الظلم تتشكل تضاريس النفوس من جديد... رغبة ورهبة، وشوقاً وجزعاً. وثق يا بني أن الله ناصرنا، وليعرف الذين يتعجلون عودة الشرعية ومن أصابهم الانقلاب في ذاتهم أو مالهم أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره، ولا يستطيع المرء أن يجلبَ لنفسه خيراً أو يدفع عنها مكروها، وذلك كله مرجعه إلى الله - عز وجل – ووفق مشيئته، فالله يفعل في دنيانا ما يحب، وأحبه إلى الله أحبه إلينا. فلتهدأ أنفسنا، ولتطمئن قلوبنا ونثق في نصر الله، ولنحذر في أي الفريقين نكون ومع من نُحبُّ أن نُحشر؟، ومن ألهمه الصواب دار مع الحق حيث كان. ألهمنا الله أن ندور مع الحق والصواب يا بني حيث دارا، ونظرت إلى صغيري فرأيت بعض الدموع تبلل وجنيته، ولا أدري على وطني بكى أم على الصغار مثله الذين ماتوا أو في أحضان السجون؟.