عام هجري جديد،مناسبة تذكرنا ببداية دولة الإسلام الحقيقية،تهل علينا وأمتنا تحت القصف الفعلي والمعنوي لكل أمل كاد يلامس أصابعنا..قصف تتواطأ علينا تحته ظلمات الفرقة وقسوة الظلم وحرقة الدم المهدرعلي طرقات لا تصل بنا إلي الحرية..عام هجري جديد حاضر أنت فيه ياختام الأنبياء ومكمل بناء الرسالات صلوات الله وسلامه عليك،بينما الأرض التي اتسعت لك لتنطلق مهاجرا للنجاة ونشر الدين وبناء دولة الإسلام تضيق علينا ولا نملك هجرة إلا إلي الله،وحتي هذه لا نملكها إلا بالروح فقط،بعد أن قيدوا أيادينا واستنزفوا عقولنا في ألف جدل عقيم،وألف معركة وهمية،فصرنا كمن ينسحق دون رحمة بين المغالين في دينك والمضيعين له،حالنا حال الأمة،نعلن عن حبك ونتمني لقاءك ونروي سيرتك لكننا لا نعمل بدروسك العظيمة،نأخذ بالقشور ولا نستطيع أن نهب الآخرين ونهب انفسنا حلاوة الفهم،نخاف من الناس أكثر من خوفنا من رب الناس،نضيع منهاجك وننسي أننا آمنا بك وبما أنزل إليك وقلنا سمعنا وأطعنا..ننسي أنك من جاء بالدستور الخالد والأبقي..أنك علمتنا كيف نبني دولة،ونقيم عدلا،كانت الهجرة سببا في وضع بنود ذلك الدستور الذي اكتمل بنيانه بتمام الدين والتشريع،أما الآن وبعد مئات الأعوام فإننا نبعد وتتسع الهوة حتي صار البعض يرتعد خوفا من تطبيق منهجك،يهون علينا الدين فيهون كل شيء ونهون علي الناس،نضيع بين من ينتمون إليك اسما ومظهرا ويكذبون علي الله حقيقة وجوهرا،بينما أنت صلوات الله عليك ياخير البرية ماتركت لنا صغيرة أو كبيرة إلا كنت لنا فيها هاديا،معلما،بشيرا،ونذيرا. تعيدنا الذكري أيها الصادق الأمين إلي ذلك اليوم الذي جاءك فيه الأمر بترك الوطن الحبيب بعد ثلاثة عشرة عاما من الدعوة المحفوفة بالمخاطر والإيذاء وتعذيب من يعلن أن لا إله إلا الله،وها أنت تعلم القادة والحكام علي مر الزمان درسا عظيما عندما تختار"عبد الله ابن أريقط" دليلا. اخترت رجلا مشركا،لكنه الأبرع،لم تقدم أهل الثقة علي أهل العلم بل ضربت لنا أروع مثل في التخطيط والاختيار الذي يحقق الهدف،تعلم الأمة الأخذ بالأسباب، بالاختفاء في غار ثور ثلاثة أيام قبل بدء السفر لييأس المشركون من البحث عنك فتمضي في طريقك مطمئنا،تحدد من يمدك بالزاد ومن يموه علي الأعداء ومن يجلب لك الأخبار،تبقي عليا كرم الله وجهه بمكة ليس فقط ليرد الأمانات التي إئتمنك عليها المشركون ولكن ليقضي الليل في فراشك لإيهام الكفار المرابضين أمام دارك لقتلك بأنك لم ترحل،ورغم التخطيط لا تعلمنا أن الأسباب وحدها هي سر النجاح ،بل ترينا كيف تكون الثقة بالله جزءا لا يتجزأ من معادلة النجاح،حين قال لك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأنتما في الغار بينما يقف المشركون علي بابه:"لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا" فتجيبه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟. رحلة في سبيل الله حقا جاءت بأول دولة اسلامية..دولة المدينةالمنورة التي أصبحت فيها نبيا وحاكما لأغلبية مطلقة مسلمة،رحلة بدأتها برد الأمانات إلي أهلها وإن كانوا كفارا يرغبون في قتلك،واستهللت إقامتك في المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار،فكان اقتسام الأنصاري لماله مع المهاجر هو قمة سخاء النفس،وأول طريق العدالة الاجتماعية التي لا يعرف لها حكام أيامنا هذه سبيلا،حكامنا الذين يتركون الفقير يموت جوعا والغني يموت تخمة بينما أبسط فروض الدين وهو فرض الزكاة لايؤدي إلي أهله،حكامنا الذين يتشدقون بأنهم إليك منتسبون وعلي طريق تحقيق العدالة والشريعة ماضون. لقد علمت يامن علمك ربك أن الدول تحتاج الي الدساتير فثبت دعائم مجتمعك الوليد بوثيقة بين المهاجرين والأنصار حددت فيها حقوقهم دون تمييز بين المؤمنين كافة وحددت حقوق وواجبات من خالفوهم في الدين وأرجعت فيها الحكم إلي الله والرسول،هي أول دستور ملزم في الإسلام بعد أعوام من الدعوة وتثبيت القلوب وتطهيرها في مكة،ثم توالي نزول الآيات في المدينة بأحكام العبادات والجهاد والزواج والطلاق، والمواريث،والحدود و أنواع المعاملات،وعلاقة الحاكم بالمحكوم،وعلاقة الدولة الإسلامية مع غيرها،هذه الأحكام التي أصبحت ملزمة لكل مسلم بنزول قوله تعالي' اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا'،أحكام لا يحق لأحد أن يتاجر بها ولا أن يتخذها سلما للوصول إلي مقاعد الحكام ثم يتبرأ من كل وعوده عندما تتحقق الغاية غير النبيلة،أحكام يدرك من أحبوك يارسول الله أن فيها العزة والمنعة والعدل والرحمة،فيها اكتمال الدولة وازدهارها ،أحكام لا حد فيها يطبق دون عدالة كاملة شاملة جعلت خليفة المسلمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصر علي أن يقتص منه رجل كان الصديق قد ضربه لأنه أغضبه بدخوله عليه دون إذن بينما كان يجهز لتوزيع صدقات الإبل مانعا الدخول،لولا تدخل ابن الخطاب مخافة أن يصبح القصاص بضرب الخليفة سنة،فتم إرضاء الرجل براحلة وبضعة دنانير،عدالة طبقها خليفتك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتي خاف أن تتعثر بغلة في العراق فيسأله ربه لم لم يمهد لها الأرض وهو خليفة المؤمنين،طبقها عمر حين سأل عمرو ابن العاص عندما ولاه علي مصر:ماذا تفعل إن جاءوك بسارق؟قال عمرو: قطعت يده،فرد ابن الخطاب:إذا فاعلم ياعمرو إنه إذا جاءنى من مصر جائع أو عاطل فسوف أقطع يدك، ياهذا إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدَّ جوعتهم،ونستر عورتهم،ونوفِّر لهم حرفتهم،فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها،إن هذه الأيدي خلقت لتعمل،فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً،فاشغلها في الطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية. هكذا يا رسول الله تطبق حدود الله التي صار المسلمون يخافونها وكأنها الوحشية والهمجية،بينما هي الرحمة والكمال،فلا حد دون كفاية الرعية،ولا تفريط في محاسبة الحاكم ولا عصمة له إذا تغاضي عن حق المحكوم،هي دولة الإسلام التي لا يقتصر حكم الشرع فيها علي الحدود بل هي معاملات مادية ونظام اقتصادي واضح وحقوق كاملة للفرد وللجماعة والتزامات تجاه المسلمين في شتي بقاع الأرض،حقوق تستلزم عدل لايعترف بالمحاباة لفريق علي سائر الأمة ولا ضحك علي الذقون بإرهاب الناس من إغلاق محال خمور أو إغلاق محال رقص..عدل حقيقي ودولة حقيقية الرخاء فيها من الكد والعمل والبناء،دولة يلزم لبنائها جهد أكبر بكثير من الخطب الرنانة والكذب المفضوح ..دولة تهب المرأة كامل حقوقها يامن نصرت أم هانيء بنت أبي طالب علي أخيها عندما جاءتك في عام الفتح فقالت : يا رسول الله زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجل أجرته" أي سيقتل رجل في حمايتها"،فقلت لها عليك افضل الصلوات: قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء،هكذا ببساطة جعلت في جوارك من أجارته المرأة ونصرتها علي أخيها بل أعليتها فوقه،فلا جوار مثل جوارك أيها الحبيب،دولة لا تترك دم الشهداء ولا أعين المصابين دون قصاص،دولة وامعتصماه..التي حركت الجيوش لترد اعتبارامرأة عربية صرخت بها في سوق بعمورية عندما لطمها البائع الرومي علي وجهها،دولة لا تترك من يغتصبون امرأة أو يسحلونها ويعرونها يفلتون من العقاب..دولة تحفظ لأهل الذمة كل حقوقهم في وطنهم،ولا تبريء اللصوص الكبار وتعاقب الصغار،دولة الحلم هي يارسول الله وليست دولة الرعب والفزع كما يشيع أعداء الدين،دولة التقدم التي أنجبت علماء أخذت منهم الدنيا مثل ابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والبيروني والكندي،دولة الحلم التي أسست لها في المدينةالمنورة والتي فشلنا في إحيائها رغم حرصنا عليها ورفعنا لولاة أمر فوق أعناقنا لمجرد انهم لوحوا لنا بها..فهل لتحقيق الأمل من سبيل ياخير خلق الله أجمعين؟.