الحمدلله و الصلاة و السلام على رسول الله و من والاه، أما بعد : اعلم رحمك الله ان الله ختم الأنبياء و الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم و أكمل لنا الدين و رضى لنا الاسلام دينا فقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) و قال احد اليهود عن هذه الآية لو نزلت علينا لأتخذناها عيدا. اذا ما دام الدين كمل لماذا أغلب الناس ليسوا سعداء في حياتهم و دائما يشكون الحال و قد يعيش البعض باضطرابات نفسية و هموم و كئابة و قد تحصل به الحال الى أن يفكر بالانتحار ؟ مع ان الله أكمل ديننا و أتمم علينا نعمته ؟ ذلك لقلة العلم و التفقه في دين الله عامة و التوحيد خاصة و عدم الرجوع الي أهل العلم للتعلم أو للاستفتاء أو لحل مشكلة ما , كما أمر سبحانه فقال : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ). قد يقول قائل هذه الآية مقيدة بالرجوع الى أهل الذكر في هذا الموضع فقط و ما علاقته بالرجوع الى أهل العلم في كل صغيرة و كبيرة باستدلالك لهذه الآية؟ الجواب هو أليس العاقل يرجع في أمور دينه و دنياه الي عالم أم يرجع الى جاهل ؟ أليس من المفروض اذا أشكلت علينا مسألة ما أن نرجع الى أهل العلم؟ و هل يعقل اذا تعطلت السيارة تذهب بها الى الطبيب ؟! فاذا علمنا أنه يجب علينا الرجوع الى أهل العلم فنسأل أنفسنا "هل يأمرنا الله و رسوله صلى الله عليه وسلم أن نقتل أنفسنا اذا حلت مصيبة أو كارثة؟ " قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا). و في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه، في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً". الغريب أن البعض قد يصد عن الكلام عما يفعله المنتحرون اليوم و الأعجب تراهم يبررون ذلك بأنهم مساكون و مظلومون و الأعجب من هذا كله ان البعض يعتبرون ما فعلوه شهادة ! الله يقول ( كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) و هذا يقول كان مسكينا مظلوما (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) ؟ و لقد بوب البخاري في صحيحه ( باب لا يقول فلان شهيد) و ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (الله اعلم بمن يجاهد في سبيله و الله أعلم بمن يكلم في سبيله) و ذكر الرجل الذي يقاتل حمية حتى أخبر الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه فقال انه من أهل النار فعجبوا من ذلك حتى رأوا نهايته أنه قتل نفسه و العياذ بالله .بل الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا أن لا نزكي أحدا و هو على قيد الحياة و يعيش بيننا فقال : (من كان مادحا لا محالة فليقل أحسب فلانا كذا و الله حسيبه و لا نزكي على الله أحدا) و قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) و قال صلى الله عليه وسلم : (احثوا في وجوه المداحين التراب) ! و قد طبق هذا الحديث ابن عمر رضي الله عنهما عندما كان رجل يمدح رجلا عند ابن عمر فجعل ابن عمر يحثو التراب في فيه ثم ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأين نحن عن منهج السلف رضي الله عنهم ؟ قال أحدهم : (تشبهوا بالكرام ان لم تكون مثلهم فإن التشبه بالكرام فلاح). قد يقول قائل كيف الله رحيم بي و انا فقير أو مسكين و لدي الديون أو تمر الأيام و ليس لدي شيئا أكله ؟ فهل من المعقول ان الله نساه و العياذ بالله؟! كلا والله فقد قال سبحانه (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) و اعلم هداك الله أن الله لا يظلم أحدا (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) و (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) اعلم يا رعاك الله ان هذا بلاء و الله يبتلي المؤمن ليهذبه و ليس ليعذبه ! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ; فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذ وجدت صبيا في السبي ، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟ فقلنا : لا ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها. فتدبر -حفظك الله- رحمة الله على مخلوقاته (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) و الواجب على المؤمن عند البلاء أن يصبر و لا يجزع أو يتضجر. بل اعلم أن الله لو بسط الرزق للناس كافة ماذا سيحصل ؟ قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيا سبحان الله (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ؟ بلى و ربي. قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي له الرضا ، ومن سخط عليه السخط) و قال تعالى مخاطبا المؤمنين : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) قد لا يعجبه البعض الصبر و يقول أنتم لا تمرون بالظروف التي أمر بها و لذلك تقولون اصبر بكل سهولة. فالرد هو ان الأمر من الله و ليس من عند أنفسنا لأن قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فالله يبشرك في هذا الموضع و قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) و هنا قال الله انه معك ! فماذا تريد أكثر من هذا ؟ و قال (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) و هنا وصف الصابرين بالصدق و التقوى. و ابن عباس رضي الله عنهما له تفسير عظيم في الصبر فقال: ( أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم) ثم قد يقول الى متى أصبر ؟ فيا سبحان الله , الله يأمر بالصبر و يقول عن نفسه أنه معهم و وصفهم بالصدق و التقوى و هذا يقول الى متى أصبر ؟ تصبر الى ما شاء الله ! قال صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له) و قال (ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة) فانظر كيف نلت الفضيلتين ! الفضيلة الأولى ان الله يحبك و الفضيلة الثانية أنك تؤجر على صبرك. فتأمل أيها اللبيب كيف تستطيع ان تجعل هذه المصيبة الى نعمة و تقلب المحنة الى منحة. و من هنا يتبين لنا تحريم الانتحار من وجهين ، الأول: ان الله نهى عن ذلك و توعد من يقتل نفسه بقوله (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا) ، و الثاني: كما نهى عن ذلك أيضا أمر بضده و هو (الصبر). كيف تبدأ فكرة الانتحار و كيف تتنقذ ؟ أولا الشيطان يوسوس للشخص و يقول له لا يوجد حل الا الانتحار ثم هذا الشخص يعلم ان الانتحار حرام فيؤول لنفسه فيقول لا بأس ان أنتحر الله يعلم بحالي و ظروفي و سيدخلني الجنة ان شاء الله ! ما يدريك أن بعد الانتحار ستكون في راحة تامة و تعيش بسعادة و هناء ؟ (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ؟ مع أن ذكرنا الوعيد الشديد المتعلق بالمنتحر ؟ فمن يفعل هذا الفعل كمن لا عقل له لأنه لم يستطع أن يتحمل مشقة الدنيا فذهب الى مشقة و عذاب أعظم من الذي كان فيه ! ثم تأتي الخطة في كيفية الانتحار ثم يأتي التنفيذ و العياذ بالله. العلاج لمن يشعر بالضيق و لمن يظن أنه أتعس أهل الأرض و لمن يريد أن ينتحر هو أن ينظر من هو دونه في أمور الدنيا و يصبر و يحتسب الأجر و لو خسر بيته و أبناءه و ماله و الدنيا و ما فيها فيحمد الله انه لم يخسر ايمانه و مازال على الاسلام فإن نعمة الاسلام أكبر نعمة. و يكثر من الاستغفار (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) و يكثر من الحوقلة ( لا حول و لا قوة الا بالله ) لأنها كنز من كنوز الدنيا و أيضا يكثر من التكبير لأن الله أكبر من كل هذه الأشياء و ان شاء بلحظة أبعد همومك و شرح صدرك و تذكر أن الله حسبك لقوله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) و اعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطئك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك و الحمدلله رب العالمين.