طالما أكد المثقفون الأحرار في مصر طوال العقد الماضي أن الترهل والتراخي والموات أصاب كل مؤسسات الدولة إلا مؤسستين: الفساد وجهاز أمن الدولة. وقد أكدت الأيام القليلة الماضية منذ رحيل رأس النظام أن الفساد كان المؤسسة الأنشط والأكثر فعالية في كل مصر، حيث كان الفساد شبكة واسعة تلحم كل مؤسسات وجهات الدولة معا. أما جهاز أمن الدولة، فإن لوحة عرضها الشباب من أحد مقار أمن الدولة تكشف عن مدى الاستعداد والجاهزية الدائمة التي يعمل بها الجهاز: "الاطمئنان الكامل أول المراحل إلى السقوط". كانت المؤسسة التعليمية والمؤسسة الاقتصادية والعسكرية والصحية هي الأولى بهذا الشعار، وهذا هو الواقع في الدول المتقدمة والطامحة إلى التقدم. وقد كانت فحوى هذا الشعار هي نفسها الدافع وراء تقرير "أمة في خطر" الأمريكي الذي صدر في عام 1983 للتحذير من تراجع مستوى أداء المؤسسات التعليمية في الولاياتالمتحدة مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى. فكان لسان حال الأمريكيين هو أن "الاطمئنان الكامل أول المراحل إلى السقوط" فيما يتعلق بأداء المؤسسة التعليمية، مع أن التعليم الأمريكي كان وقتذاك من أفضل نظرائه في العالم المتقدم. فالتقرير دعوة لدعم التراخي وعدم السكون إلى الراحة من مؤسسة تؤدي جيدا بالفعل. لا أعني بذلك أن الجهاز الأمني كان يجب عليه أن يتراخى عن أداء مهامه. بل إن الواقع الذي عاشته مصر في أثناء حكم مبارك هو تراخي الجهاز الأمني وعدم قيامه بمهامه. لكن ذلك ينبطق على الجهاز المعني بأمن المواطنين، أي الأمن العام. فكان الشارع المصري يعيش حالة خواء أمني حقيقي، حتى من قبل أن يأمر حبيب العادلي رجاله بالانسحاب من مواقعهم. فعندما كان المواطن يستنجد برجال الشرطة لفض مشاجرة أو التصدي لبلطجية أو لمجرمين، لم يكن رجال الشرطة يستجيبون إلا نادرا، إلا إذا كان المستنجد بهم من أصحاب المال والحظوة. فالجهاز الأمني المسئول عن أمن الناس كانت تنطبق عليه حالة الموات التي أصابت كل مؤسسات الدولة. حتى أنني كنت أراهن البعض كثيرا أنه لو أمسك بي أحد البلطجية وصلبني على أحد أعمدة الكهرباء في أكثر ميادين القاهرة ازدحاما وأخذ يقطعني جزءا جزءا، فإن أحدا لن ينجدني من يده، حتى ولو مر على المشهد كل رجال الشرطة في مصر، وعلى رأسهم وزير الداخلية نفسه. ليس ذلك خوفا من البلطجي بالطبع، وإنما لأنهم لم يتعلموا أن مهمتهم هي حماية المواطن وصيانة أمنه، وإنما فقط تنفيذ الأوامر، أيا كانت، حتى وإن كانت تعذيب المواطن حتى الموت، أو إطلاق النار على المتظاهرين، أو إطلاق السجناء والبلطجية لنشر الفوضى في المجتمع وبث الرعب في قلوب الناس. تكشف الصور الأولية لما كان عليه جهاز أمن الدولة في مصر أن الجهاز كان لا يركن إلى الراحة ولا الطمأنينة لدرجة أنه كان لا يتورع عن قتل المواطنين. إنه نشاط وفعالية لا مثيل لهما. فالأداء في مقار أمن الدولة كان من الجودة لدرجة أنهم وفروا مقابر داخل مقارهم. فالجودة في الأداء كانت تنتهي في بعض الحالات بوفاة الضحية، آسف أقصد مهمة العمل. كان نشاط جهاز أمن الدولة معنيا فقط بحماية النظام ورأسه، ومن هنا كان نشاطه وفعاليته، ومن هنا كان إطلاق يده في فعل أي شيء في حق المواطنين، حتى القتل وهتك الأعراض. فكل شيء مباح طالما يسهم في الحفاظ على حكم الرئيس مبارك. وإطلاق يد جهاز أمن الدولة، ووزارة الداخلية ككل، في العبث بالمواطنين وأملاكهم وأملاك الدولة جعلهم من المستفيدين من النظام، فضلا عن كونهم جزءا منهم. وبذلك أصبحت المصالح متبادلة بين النظام ورأسه من جانب وجهاز الأمن من جانب آخر، وهو تبادل كان المواطن المصري ومصر وتقدمها ونهضتها ضحيته الأولى. ومن هنا كان تفان جهاز أمن الدولة في حماية النظام والتنكيل بالمواطن. وها قد جاء السقوط يا رجال مبارك في أمن الدولة رغم عدم الاطمئنان ورغم تحويلكم لمصر إلى سجن كبير لأهلها. ويا ليت كان ذلك هو شعار المؤسسة التعليمية، فذلك كان بالطبع طريق الصعود وعدم السقوط، لكنه عدم سقوط مصر وليس نظام الطاغية مبارك.