أما آن الآوان لشعب مصر أن ينهض من الغيبوبة العميقة التى غشيته منذ مولد التاريخ وفجره ؟ أم تُرى أن أهل مصر إستعذبوا هذه النومة و تلك الغيبوبة التى تعفيهم من المسئوليات والواجبات والتضحيات والمشاق التى تتطلبها ممارسة إختيارهم لمن يحكمهم ؟ لقد علمنا التاريخ أن الأيام دول بين الناس وأن الدول دورات متعاقبة متراتبة منذ الميلاد وحتى الأفول ، إلا شعب مصر ، قد خرج عن تلك القاعدة وعن حكم التاريخ وحكمته ، وعاش - ومازال – دورة واحدة من عمره ، شبيهة بما يمكن أن نسميه "مرحلة النشوء المستضعف أو الشيخوخة الدائمة أو الموت الأبدى ، وكلها تدل على عجز المصرى شبه التام عن الفعل أو رد الفعل ، شعب مصر وعلى مر التاريخ عاش محنى الرأس ميمماً وجهه شطر أرضه الخصبة إخلاصاً وعشقاً لها ، يسقيها بعرقه قبل أن يسقيها بنيله ، عاش مكافحاً لا يجد من يخفف عنه ألم الإنحناء والإنكفاء ، و يظل مزروعاً بأرضه مثل نبتها شهوراً طوال ، متحملاً إعتداءات وتقلبات المناخ سواء كانت برداً زمهريراً أو حراً هجيراً ، حامياً لزرعه راعياً له حتى يحين موعد حصاده ، ثم نجده لا يجنى سوى الحسرة واللوعة والألم ، لأن زرعه الذى إستوى على عوده قد أعجب الفرعون فاستولى على حصاده كله إلا قليلاً ، ولما لا ؟ أليس هو رب المصريين الأعلى ؟ ألم يُنصب نفسه فرعوناً للبلاد ، ألم يؤلهه المصريون عن طيب خاطر ؟ ألم يباركوا دوماً توارث السلطة فى الأسرة الواحدة ؟ حتى أننا نجد عهداً بأكمله فى التاريخ المصرى القديم يُطلق عليه " عصرالأُسرات " ، ألم يبنوا له مُسخرين صروح المجد التى يُعبد أو يدفن فيها ؟ ألم يشيدوا له العمائر والمعابد الجنائزية كالأهرامات والمقابر الملكية التى مازالت شاخصة تشهد على ذلك ؟ إن المصري صاحب عقلية فذة ميزته بخصوصية ثقافية وحضارية وتفرد معرفي سبق به البشر بآلاف الأميال وآلاف السنون وهو صاحب إرث هائل من العلوم والفنون والهندسة والعمران المُعجز حتى اليوم ، وهو صاحب أول أبجدية وهو أول من خط وتهجى وأول من كتب وأول من رسم ونقش ولون وأول من عزف وأول من إخترع ، وهو الذى سما وعلا وحلق فى الآفاق مغرداً بالحكمة واليقين ، وهو الذى أنشأ الدولة المركزية الأولى فى التاريخ تعبيراً عن إستقراره الرائع ، وهو أول من إستكشف العالم قديماً ، وأول من وقع معاهدة سلام فى التاريخ مع الحيثيين فى عهد رمسيس الثانى ، وأول من أوجد كتب ونصوص أدبية مثل كتاب الموتى ونصوص الأهرامات ، وهو قبل غيره من صنع آلات ومعدات الحروب المتقدمه منذ أقدم العصور ، كالعجلات الحربية والرماح والسهام الخ ، وهو المعدن النفيس المتفرد لأنه خير أجناد الأرض بشهادة خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الشجاع المقدام الذى لا يستكين كثيراً وهو الذى يأبى الضيم والإنكسار ، وأسالوا من جاء مصر غازياً مُغتراً بقوته ، أسألوه كم جرعه المصرى الذل والهوان والإنكسار والمهانة والهزيمة ، بداية من الرعاة الهكسوس مروراً بالحيثيين والآشوريين والفرس واليونانيين والرومان والتتار والصليبيين والفرنسيين والبريطانيين ، وصولاً الى الملك فاروق آخر ملوك الأسرة العلوية فى مصر والتى تنسب الى محمد على ، ذلك الجندى الألبانى القادم ضمن جنود الحامية العثمانية إبان حكم الإمبراطورية العثمانية لمصر ، تلك الأسرة التى بدأ حكمها لمصر فى العام 1805 وانتهى فى العام 1952 على يد مجموعة من ضباط الجيش المصرى فى 23 يوليو فى العام نفسه ، وخلعوا الملك الشاب فاروق الذى رحل الى إيطاليا واستقر بها حتى مماته ، ليبدأ عهداً جديد فى تاريخ مصر هو عهد العسكريتارية أو العهد العسكرى ، لأن كل من تولوا حكم مصر منذ ذلك الحين كانوا من أبناء المؤسسة العسكرية . ورغم عظمة المصري ، ورغم كل ما سبق ، نجد أن هذا المصرى غير المستكين فى مواجهة الأعداء وغير المقصر فى الدفاع عن وطنه ، نجده وللأسف على مر تاريخه مستسلماً إستسلاماً شبه تام لحكامه ، ولنا أن نسأل ما الأسباب التى تدفعه لهذا الخضوع والخنوع والتسليم بسلطة وإلوهية الحاكم ؟ وتقديس أوامره و طاعتها ، وما الذى جعل هذا الخضوع أمراً لصيقاً به ؟ ، كأنه أمسى جُزءً من عقيدته أو مكون أصيل فى جيناته ، يولد به مجبولاً عليه كأنه لا حيلة له فيه ؟ هل هو الجبن والخوف ؟ أم هى فلسفة الصبر وحب الإستقرار وحب العيش فى هدوء وسلام ، حتى لو شاب هذا الإستقرار بعض الظلم ؟ أم هو يقين دينى وقر فى وجدانه بعدم الخروج على الحاكم أو عصيانه لتجنب الفتنة والإقتتال الداخلى وتجنب القلاقل وسفك الدماء ؟ ، وهل كان المصري ينظر بعمق الى المستقبل ويستشرفه ويتنبأ بما سيأتى به الإسلام لاحقاً مؤيداً لهذا الإعتقاد بعدم جواز خروج الرعية على الحاكم حتى لو كان ظالماً ، لما قد ينتج عن هذا الخروج من مفاسد عظيمة ، وشر مستطير كسفك الدماء وضياع النظام وانتشار الفوضى ؟ ورغم الخلاف الذى مازال محتدماً حول مسألة الخروج على الحاكم إلا أننا نتسائل كيف توصل المصرى بوجدانه العبقرى لتلك القاعدة الإسلامية قبل مجئ الإسلام بزمنِ طويل ؟ هل لأن المصرى منذ القدم صاحب وجدان سليم وفطرة مستقيمة ؟ وهو من آمن أن للكون خالق وأن هناك حياة أخرى خالدة مخلدة أى أنه آمن بالله منذ فجر التاريخ . ونعود للتساؤل عن سبب إستسلام المصرى لحكامه ، هل نعتبر ذلك سمو أخلاق منه ؟ و هل توقع أو ظن أن يقابل الحاكم هذا السمو بسمو مماثل ، فيحكم بالعدل والقسطاس ، وإذا كان ذلك صحيحاً فهل قدر وثمن حكامه هذا السلوك الراقى وحكموا بالعدل كما توقع ؟ للأسف أن هذا لم يحدث ، ذلك أن التاريخ أنبئنا بقلة قليلة من الحكام ذوى العدل مثل " امنحوتب الأول " الذى لقب بالعادل والذى أصدر تشريعاً وقانوناً بمنع السخرة ووضع معايير للأجور والحوافز و مثل عمر بن الخطاب عندما أمر بالإقتصاص لمواطن مصرى من ابن الخليفة عمرو ابن العاص أو مثل خامس الخلفاء الراشدين الخليفة الأموى العادل عمر بن عبد العزيز ، عدا ذلك فإن للسلطة غرورها وقوتها وبطشها وغوايتها التى تزين للحاكم البطش والسيطرة وإسكات اى صوت يبوح أو يهمهم بما يتعارض مع سلطته وغروره . وأسالوا عن الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات وأسألوا الرئيس مبارك وجميعهم أبناء الطبقة البسيطة التى تملأ ربوع مصر والتى تصل نسبتها الى 95% من أبناء الشعب المصرى ، وهم جميعاً وطنيون ، أسألوهم هل حققتم آمال وتطلعات شعبكم ؟ خاصة تطلعات تلك الطبقة التى أتيتم منها ، والتى هى ملح الوطن وعدته وعتاده وحائط الصد عنه فى الملمات ، وهل أفرجتم عن أحلام المصريين السجينة والتى تتمثل فى العدل والحرية والمساواة والعيش بكرامة وعدم ممارسة الذل والمهانة عليهم ؟ وهل منحتموهم الحرية فى اختيار دستورهم وتشريعاتهم وقوانينهم واختيار من يمثلهم ومن يحكمهم ؟ وهل منحتموهم الحرية فى أن يكونوا مثل كثير من الشعوب لهم حق مسائلة المُخطئ وحق عزله وحق محاكمته ومحاسبته ، هل منحتموهم الحرية فى أن يلجموا من يحكمهم ويوقفوه إذا ما زين له شيطان السلطة الإنفراد بالأمر أو العمل ضد صالحهم ومصالحهم أو ممارسة الظلم والعدوان عليهم وعلى حريتهم ، أعتقد جازماً أنهم لم يحققوا للمصريين شئ من ذلك ، ولا حتى حققوا ما يحققه بعض الحكام الديكتاتوريون ، حين يقومون بتلبية احتياجات شعوبهم وتوفير رغد العيش والرفاهة لهم مقابل ما يمارسوه عليهم من قهر سياسى . إن كل ما تحقق للشعب المصرى منذ العام 1952 هو مزيد من الجهل والتخلف رغم زيادة أعداد المتعلمين ، ومزيد من المرض والأمراض رغم زيادة عدد الأطباء وعدد كليات الطب ، ومزيد من الجوع والفقر ونقص الأرزاق رغم زيادة الموارد وتنوعها ورغم التوقف عن الحروب المكلفة المدمرة ، ومزيد من فقدان الأمن والأمان رغم زيادة عدد جنود وضباط الشرطة أضعافاً مضاعفة ، ومزيد من فقدان ومصادرة حرية الرأى وحرية التعبير وتحريم تداول السلطة بين الأطياف والتيارات السياسية فى المجتمع وإحتكارها عن طريق حزب سلطوى واحد أوحد ، رغم نشأة وتواجد عدد كبير من الأحزاب السياسية ، ومزيد من قهر المصريين فى وطنهم وخارجه رغم زيادة وسائل التعبير ووسائل الإعلام . ونود هنا أن نؤكد أن الرئيس القادم أياً كان شخصه وأياً كانت خلفيته السياسية والإجتماعية فأنه لن يحقق شئ من آمال المصريين وطموحاتهم ولن يغير من الأمر شيئاً ، لأن الأمر سيكون مرهون ومرتبط بهواه وهوى المنتفعين حوله ، حتى لو كان مخلصاً لقيم الخير والعدل والحق ومحباً للشعب المصرى ، لأنه لا أحد يضمن عدم إنقلابه على عقبيه فى لحظة ما ليتحول الى ديكتاتور ؟ وإن أحسن فلا أحد يضمن أن من يليه فى الحكم سيسير على نهجه ؟ إذاً يجب ألا يتم ربط احلام الشعوب وطموحاتها وأمالها وحريتها وخيرها بمزاج أى حاكم أو إجتهاده ، بل يجب أن تكون هناك قواعد حاكمة و فاصلة بين الشعب والحاكم ، توازن محسوب ودقيق بين السلطات بحيث يوازن بعضها بعضاً و بحيث لا تجور إحداها على الأخرى ، ويجب ألا تترك الشعوب لعشوائية الحاكمين وأمزجتهم المتقلبة ونفوسهم المستبدة ، ويجب ألا تكون الشعوب إرثاً أو ميراثاً لأحد سواء كانت أسرة أم فئة أم طبقة أم حزب ، ويبقى أن نعود لسؤالنا الكبير والمحير ، لماذا يستسلم المصريون ويسلموا أمرهم لحكامهم ويصبرون على ظلمهم وديكتاتوريتهم ؟ وأياً كانت الإجابة على هذا السؤال فأننى أطالب المصريين بألا يعيدوا الينا عصر الأسرات الفرعونية الحاكمة وألا يقفوا على حافة التساؤل عن رئيسهم القادم ، وأطالبهم أن يقفوا وقفة شجاعة وصلبة وفارقة فى تاريخهم لينالوا دستوراً جديداً يستحقوه عن جدارة ، وليتمتعوا بحرية حقيقية لأنها حقهم المقدس ، دستور يحفظ لهم عزتهم وكرامتهم فى وطنهم ، حتى لا يظن الحاكم أنه يمّن أو يتفضل عليهم بتلك الحرية ، كما أطالبهم أن يعملوا على إطلاق سراحهم من سجن الكبت والقهر والعهر السياسى الذى يُمارس عليهم ، وأن يفرجوا عن فجرهم الرهين ، وأن يطلقوا شمسهم الكاسفة خلف غمام الديكتاتورية السوداء ، لكى تشرق وتنير وتدفئ ربوع مصر ، وأنا على ثقة بأن المصريين قادرون على ذلك لأنهم خير أجناد الأرض وأول الموحدين لرب السماء. نشر هذا المقال فى 29/10/2009 بجريدة " شباب مصر"