ترى أوراق العمر المتساقطة كصفر الخريف، ومثيلتها معدومة اللون في تقويم هذا العام!.. مجرد وريقات باهتة ترسم أرقاماً لا يمكن أن تحسب بها الحياة!... "ليس هكذا يحسب عمري"... تنزع الوريقة من بين أوراق ديسمبر المحبب البرودة، تنصت لوهم همسه لها: - ربما في الشتاء شيء من ألفة حميمة بيننا يتولد بدفء هروبنا من برودته، لكني لازلت أمقت تلك الساعة في منتصف النهار، فقط مع غروب الشمس تعود روحي لتستفيق. أليست لديكِ فكرة عن لا زمن أقضي فيه تلك الساعة الكئيبة؟! تلمست أنامله بأناملها الباردة تضمها: - هنا.. أتاها ليعلمها أنها لن تستطيع التخلي عن حلمها الرومانسي مهما دأبت على المحاولة، وعلمها أنه هو وطن الحلم. معه تنسى العمر فتلهو كطفلة بين يديه، تضحك حين يحضر لها "الشيكولا" ويفرح هو برؤيتها تلعقها بلسانها من طرف شفاهها. يرتجف قلبها وهي تقرأ رسالات غرامه وردية العطر، كمراهقة صغيرة كأنها أولى رسائل هواها. شتان بين أن تحيا كل ذلك بوعي صبية غريرة تتبخر ذكراها في طرفة عين - وتبقى العمر تتمنى عودتها - وبين أن تحيا مدركة لذته الحقيقية. يقترب الغروب وهي وحدها!.. .... تسرع عيناه لمتابعة الطريق من خلف مساحات الزجاج بعد أن اغتسل بالمطر، لم يغفل – رغم اللحظات المطيرة النادرة - كآبة الساعة، وإن تمناها هنا لتحويه منها. أرسلها له الله ليجدها طفلة تحاول التخفي في ظل امرأة، وعشق منها الطفلة أكثر. توقف لدي بائع الورود العجوز مندهشاً من بقائه في مثل ذلك الطقس، عرفه الرجل وابتسم قائلاً: - حب جديد.. يدير نظراته عنه في خجل وهو يبحث بين الورود عنها، وتمتم سائلاً العجوز: - من أين عرفت؟! - عيناك تركض لاهثة ما بين الياسمين والفل، وتجذبها وريقات القرنفل، وتتجنب قتامة البنفسج وصخب الورود. ينتقي الفل والقرنفل، ويتطلع ليديّ الرجل تغزلها في تلك الباقة الصغيرة. هم بالذهاب حين أوقفه العجوز مرة أخرى ليقول: - ليست تلك أولى باقات ورودك، لكنها أصدقها.. .... يتطلع للباقة الصغيرة الناعسة على "تابلوه" السيارة في شوق ولساعته في وجوم. قاربت الساعة الكريهة على الانتهاء وهو وحده!.. .... تلمح سيارته عند بداية الشارع ولا تستطيع البقاء أكثر. تهبط إليه بلهفة أكبر من لهفة حبات المطر لهامات الشجر. يمرق من أمامها ولا يتوقف.. ويتوقف المطر! .... يراها تقف أسفل البناية في شرود!! "ماذا أصابها؟!!".. يحتضن الباقة مسرعاً من خلفها، يرى عينيها معلقة بسيارة شبيهة لخاصته فترتجف كلماته: - لم يكن أنا... تتبسم عبراتها ملتمعة في عينيها وهي تلهو بوريقات الفل والقرنفل بين يديه... تجوبها عيناه ويداعب ذكرى حبات المطر على وجنتيها هامساً: - أنا هنا... يمتزج الشوق بالعبرات وبقايا المطر ورائحة القرنفل والفل على صدره. تربت على ظهره بإحدى يديها هامسة: - وأنا هنا... وبالأخرى تأخذ بيده ليمس ذلك النبض الآخر في كيانها متابعة: - وكلانا.. في انتظارك.