قالوا إنها مجرد خطوة لمحاكمات ستأتى لاحقاً تشمل كل من مارس فساداً بحق البلاد والعباد ، وقلنا هى معجزة لم تكن لتتحقق لولا فضل الله علينا بالثورة المجيدة التى خلعت الفرعون و أدخلته القفص رغماً عن محاولات الدولة العميقة من خلال التعنت حيناً وتوجيه أبواقها الاعلامية المأجورة فى أحاين أخرى كى لا تتم محاكمته وطن يحاكم رئيسه فى محكمة مدنية غير استثنائية في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم العربي ، هى مصر إذن .. أما هو فمبارك الأب . فى 3 أغسطس من عام ثورة 25 يناير المجيدة ، يدخل مبارك القفص على سرير متحرك ويمثل معه في القفص أيضا نجلاه علاء و جمال و وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي و ستة من مساعدي الوزير ، أذكر ذاك اليوم جيداً حيث كادت شوارع مصر تقريبا أن تكون خالية من المارة ، الجميع يرقب لحظة دخول الديكتاتور ، ولما لا نسميه ديكتاتوراً ؟ ولما لا يدخل القفص كى تتم محاكمته ؟ .. أعتقد أن إجابات على هذه الأسئلة قد تأخذ سلسلات من المقالات نحن فى غنى عنها ألان ويكفى فقط أن ثلاثين عاما من الحكم هى مدة كفيلة بأن تحدث كوارث و جرائم فى عهد الحاكم مهما كان حريصا أو واعيا او عادلاً . من لحظة لأخرى تكثر الأحاديث وتطول عن صحة مبارك .. سواء رئيساً أومخلوعاً أو مسجوناً بتهمة جنائية ، هو المصرى الوحيد الذى كانت صحته دائما مسار جدل و موضعاً مفضلاً للشائعات ، بل اننى سمعت ذات مرة أن أكثر من 200 شائعة عن وفاته قد تداولت منذ لحظة توليه الحكم قبل 30 عاما إلى ألان حيث يرقد مريضاً ، صحته دائما كان يتم التعامل معها على أنها سر قومى لا يمكن الحديث عنه كثيراً ، هو أمر يختلف كثيراً عن طريقة التعامل مع صحة الرؤساء فى دول العالم المتحضرة ، وبالتالى فإنه ليس أمراً مستغرباً أن تنهار البورصة المصرية فى أحد الأيام سابقاً فقط لمجرد أن أحد رؤساء التحرير قد تناول صحة الرئيس فى أحد مقالاته ، فى دولة يحكمها شخص واحد يلعب فيها كل الادوار لم يكن الأمر مستغرباً على الاطلاق ، فالمخلوع كان رئيسا للجمهورية باستفتاءات ال 99.9 % ثم بانتخابات مزورة لصالحه فى 2005 حصل فيها على 88.5 % من اصوات الناخبين بينما حصل أقرب منافسيه على 7 % فقط ، هو القائد الاعلى للقوات المسلحة و القائد الاعلى للشرطة و رئيس المجلس الاعلى للقضاء و رئيس مجلس الدفاع الوطنى هذا بخلاف كونه رئيس الحزب الوطنى الحاكم سابقا و المنحل حالياً .. هو قائد العبور الثانى .. وحتى ألان لا نعرف ما هو العبور الثانى هذا ! ، لكن هكذا كانوا يكتبون على اللوحات الدعائية للحزب الوطنى البائد ، هو البطل الأول و الرائد الاول للتنمية ، تُرى عن أى تنمية كانوا يتحدثون ؟! ، فى ظل تزايد عدد فقراء مصر فى عهده و إزدياد العشوائيات و ظهور ما يعرف بسكان المقابر ، هذا بخلاف التضخم و غلاء أسعار كل شئ فى مصر سواء مأكل أو مشرب أو ملبس أو مسكن ! أينما ذهبت أو اتجهت ستجد صورة للرئيس أو اسمه أو شئ يدل على وجوده ، وكأن مصر التى أنجبت الملايين قد عقمت أن تنجب ابنا فذاً يضاهى مبارك ! ، فى الواقع مصر انجبت الكثير والكثير من الأفذاذ والنابغين .. لكنها لسوء حظها أنها قد انجبت مبارك الذى طغى بنفوذه على الأخرين فهمشهم و أبعدهم عن الظهور و أحيانا عن الحياة باكملها ، فقد كان يتخوف دائماً من أى مسئول يذيع صيته أو يستشعر حباً من الناس له ، لعل هذا ما دفع بالكثيرين إلى الهجرة أو الصمت و أحيانا اعتزال الحياة السياسية تماماً ، فحسب تصنيف "فورين بوليسي" الأمريكية يحتل الرئيس مبارك المركز الخامس عشر في قائمتها عن (أسوء السيئين) لعام 2010 حيث تعتبره "فورين بوليسي" حاكم مطلق مستبد يعانى داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر في منصبه ، ومبارك يشك حتى في ظله وهو يحكم البلاد منذ 30 عاما بقانون الطوارئ لاخماد أى نشاط للمعارضة وكان يجهز ابنه جمال لخلافته ، وفى اعتقادى الشخصى انه اذا حدث و تولى جمال بعد أبيه فى حال عدم قيام الثورة المجيدة .. لبدأت مصر عهد جديد من النظام المباركى المستبد .. ربما كان سيطول او يقصر عن الثلاثين عام ، لكن على أية حال فإن مصر الجمهورية كانت ستتحول الى مصر المملكة فى سابقة لم يعهدها التاريخ الحديث ! ان 18 يوماً كانت كافية لأزالة نظام ظل طيلة ثلاثين سنة فى الحكم ، 18 يوما فقط كانت كافية لإعطاء درساً للتاريخ و للشعوب بأن الظلم مهما طال فلابد له من نهاية و أن الشعوب دائما تبقى بينما تسقط الانظمة ، أن الأوطان تعيش عمراً أطول من عمر حكامها . أعطى المصريون لمبارك و لكل نظام لاحق سيأتى فى السلطة درساً لن يُنسى على الاطلاق ، وأهم تلك الدروس ان نظام الحاكم الفرد .. الديكتاتور الواحد الأوحد دون سواه بات أمراً مستحيل التكرار بعد اليوم ، فى إعتقادى ان أحد أهم منجزات الثورة فى حال تحقق مطالبها على الشكل الذى يتمناه الثوار هو إعادة الروح لدولة المؤسسات والتخلى عن فكرة انتظار التعليمات من الجهات العليا ، حيث غالبا ما يستخدم هذا المصطلح "الجهات العليا" للاشارة الى رئيس الجمهورية حيث تقبع كل السلطات فى يده ، وان كان فى أغلب الأحيان لم يكن مبارك يدرى بما يدور ويحدث .. فكانت الجهات العليا الفعلية تتمثل فى حاشيته و ابنه و زوجته ، من الصعب حقاً أن تعيش فى وطن جمهورى يتلخص مفهومه فى شخص الرئيس دون سواه ، وطن رئاسى يحكمه أسرة الرئيس وأهل بيته و أصدقائهم من مسئولين فاسدين .. أغلبهم ألان خلف القضبان ، وأظن أن الطلقاء المتبقين منهم سيلحقون بهم عاجلاً أو آجلاً. فى 25 يناير 2011 انطلقت مظاهرات مناهضة للاوضاع التى وصل اليها حال الشعب المصرى ، تتواصل الاحداث وصولا الى جمعة الغضب فى ميدان التحرير وانتفاضة غضب فى شوارع مصر وميادينها .. سقط الكثير من القتلى و ووقعت اصابات عديدة تقدر بالالاف، كان مبارك دائماً يتأخر فى الظهور يفضل أن يتعامل مع المصريين على أنه الرجل الذى لا يظهر الا فى اللحظة الحاسمة ليغير مسار الامور ، يترقب الاحداث ببطئ ويتابعها دون أدنى قرار لطمانة الشارع او تهدئته .. بل كان دائما يزيد من نفور المصريين منه و غضبهم من نظامه ، فى 29 يناير يعلن مبارك تعيين احمد شفيق رئيس وزراء و عمر سليمان نائباً للرئيس ، وبينما كانت الملايين تطالبه بالرحيل عن السلطة فورا .. يخرج فى الاول من فبراير ليعلن انه لن يترشح للانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2011 ! ، ليأتى بعد ذلك الحادى عشر من فبراير حيث تعم فرحة غير مسبوقة الشوارع المصرية فى مختلف المحافظات ، فرحة ليست ناتجة عن فوز المنتخب القومى ببطولة رياضية أو تأهله لكأس العالم .. فرحة ليست بسبب عيد فطر أو عيد أضحى او نهائى الدورى المصرى ، فرحة لم أراها من قبل فى نفوس المصريين ، لقد كان باختصار إعلان تنحى مبارك عن حكم البلاد ، لحظات لا تتجاوز الدقائق المعدودات يعلن فيها عمر سليمان أن مبارك قد تخلى عن منصبه ... لقد كانت اللحظة التى انتظرها الملايين منذ عقود ! لحظة اخرى تعددت الاراء حولها وتباينت المواقف اتجاهها ، فى يوم 2 يونيو 2012 حيث الجلسة السادسة والأربعين لمحاكمكة القرن ، والتى فيها أصدر القاضى أحمد رفعت الحكم على مبارك والعادلى بالسجن المؤبد ، و صدمة قوية ببراءة مساعدي وزير الداخلية فى قضية قتل المتظاهرين وبراءة مبارك من تهمة الفساد المالى وبراءة نجليه علاء مبارك وجمال مبارك من التهم المنسوبة اليهما ، باكورة من البراءات كادت أن تحدث ثورة أخرى لولا طغيان أحداث سياسية ومجتمعية أخرى كانت أكثر أهمية لمستقبل الوطن . من بين التراث المكتوب للمبدعين المصريين .. لا أجد خاتمة لهذا الموضوع أفضل من قصيدة كتبها "صلاح جاهين" يقول فيها : القمح مش زي الدهب / القمح زي الفلاحين / عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين / زي اسماعين .. ومحمدين / وحسين ابو عويضة اللي قاسي وانضرب / علشان طلب .. حفنة سنابل ريها كان بالعرق / عرق الجبين / القمح زي حسين .. يعيش ياكل في طين / أما اللي في القصر الكبير / يلبس حرير / والسنبلة .. يبعت رجاله يحصدوها من علي عود الفقير . فإتعظ يا كل رئيس قادم بأنك شخص .. وأن مصر وطن ، ولن تحصد السنابل بعد اليوم من على عيداننا لأن ثمة أجيال جديدة لن ترضى بالذل أو الهوان بعد اليوم ولك فى "مبارك" عبرة وعظة ، فمصر تغيرت .. مصر تغيرت .. مصر تغيرت .