اطلعت بجريدة "الصباح" التونسية على مقال يحمل عنوان" لماذا نجح الخليجيون وفشل المغاربة؟" ويبدو ان المقصود هو "المغاربيون" حسبما استقرّت عليه احداثات لغة العرب ، وواضح من صيغة السؤال ان صاحبه وضع الجواب عنه بين طيّاته مسلّما منذ البداية بأن هناك نجاحا في الخليج العربي واخفاقا في المغرب العربي، ولكنني لا اشاطره الرأي واعتقد ان نظرته للأشياء لم تسبر الأغوار واكتفت باستطلاع سطحي للأوضاع ادّى بها الى استنتاجات بعيدة عن الواقع.و لقد بنى كاتب المقال استخلاصاته على ما شدّ انتباهه في بلدان الخليج العربي من طرقات سيّارة واضواء لألاءة وحركة مرور نشيطة لا يتخلّلها صخب او ضجيج ،وناطحات سحاب عملاقة ومتّسعة لمكاتب فارهة تعجّ بموظفين لاحت عليهم سيماء الأناقة والنعماء ، وكلّ ذلك تحت رقابة قال عنها انها صارمة ولا مجال فيها للتسيّب او الإنفلات كما لا هوادة فيها حسب تأكيده مع الإنحلال وسوء التصرّف ، مضيفا ان الخليجيين تعلّموا من الغرب وان على المغاربيين ان يتعلّموا منهم.ومع احترامي لرأيه فأنا اعتقد بأن ما عدّده من مظاهر ليس الاّ قواشع لا سبيل لاعتمادها للحكم على الرقيّ المزعوم للخليجيين ، وحتى ان وافقته على انهم نهلوا من الغرب فإن تقديري لذلك لا يذهب الى حدّ المصادقة على انهم تعلّموا منه (او منهم) ، وغاية ما هنالك هو انهم وبمنطق العصر الحديث "حرّكوا الفأرة فنسخت ثم الصقت"،أمّا في الباطن والعمق فقد بقيت دار لقمان على حالها.نعم لا بدّ من التأكيد بأن معذّبي الأرض مازالوا يعانون الأمرّين في بلدان الخليج كما ان المرأة ما برحت ترزح تحت نير الرجل ، أمّا الجاليات العربية والأجنبية المستضعفة فمعظمها مضطهد الى حدّ الإستعباد ، وأمّا السياحة التي سحر صاحبنا تطوّرها فهي معدّة للأثرياء ولا مكان للأشقياء بين وهادها ، وأمّا الفلاحة فهي تكاد تكون معدومة ولا وجود لها وأمّا الصناعة فهي مفقودة ومبخوسة.والحقيقة المؤلمة هو ان القوم يأكلون ويلبسون من وراء البحار ، وفي سبيل ذلك يبذلون الغالي والنفيس فلا ترى اياديهم تمتدّ الاّ لجيوبهم المرصوصة بمال النفط او لدفاتر صكوكهم المضمّخة بصفقات الغاز،وحتى ان عثرت هناك على مزرع او لمحت بستانا او صادفك مصنع للتحويل فمن المؤكّد انه ملك لأحد الأمراء او تركة لأحد الوجهاء او محكر لغربي مبجّل ، فلا يستفيد منه البلد ولا يعود له ريعه.وهكذا فقد عتّمت ظلال البهرج الرؤية السليمة على كاتب المقال فلم ير من اوضاع الخليجيين سوى قشور الغرب التي القيت على مدنهم فسملت الأعين واعشت البصائر، ولو جشّم نفسه عناء الإبتعاد عن المباني العالية قيد كيلومتر واحد لشاهد من الأهوال ما كان يحتّم عليه مراجعة حكمه او على الأقلّ تعديل نبرات انبهاره بفلاح الخليجيين.ونجده من ناحية اخرى يقول ان اهل الخليج ضيّقوا الخناق على الفساد فتضاءلت مضاميره وعسر انتشاره ، وهذه واحدة اخرى من اندفاعاته لأن الفساد قد استشرى هناك واجتاح كلّ مفاصل المجتمع فصار ينساب بين الملامس والأسلاك ويهرول بين كثبان الرمال المترامية ومواسير النفط المتتالية.وهذا النفط هو في واقع الأمر اصل الداء وسبب البلاء وهو الذي اغوى الخليجيين واعمى بصائر البعض منهم فراحوا ينشدون الإستثمار خارج الديار وبين مشاريع "الفقراء" المالية والإجتماعية والرياضية وغيرها، ولكنّ نشاطهم لم يخل من فساد ومن مضاربات بلغت في بعض الأحيان احجاما عظيمة ارتجّت من هولها امم وتحتحتت تحت وقعها شعوب متواضعة الإمكانيات ، ولا ادلّ على ذلك وما بالعهد من قدم اكثر من صفقة "سماء دبي" التي سقطت على رؤوس التونسيين وهم ما زالوا الى اليوم يتجرّعون مرارتها ويكابدون آثارها.وفوق كلّ ذلك ضريبة هائلة استبدّت بالخليجيين وجثمت فوق صدورهم فشطآنهم مترعة بأساطيل الغرب وجزرهم مثقلة بقواعده وترساناته العسكرية ، وبعبارة اوضح فإن الغرب سلب منهم اجواءهم ووضع اياديه على مياههم وتموقع بأراضيهم ، وكم من مرّة انطلقت الشهب المدمّرة والحمم الحارقة من لدنّهم لتصيب في مقتل إمّا شقيقا او ابن عمّ لهم.ولا يغيب عن الذهن من ناحية اخرى ما يصحب ذلك من تنازلات تقسم الظهر وتنخر العظم ، فكيف يجوز والحالة ما هي الحديث عن "نجاح" او "رخاء" حين نعلم ان ثمنه ماء الوجه وحين ندرك ان شحّ الطبيعة او غضب الأسياد قد يعصف به بين عشيّة وضحاها.أمّا عن "المغرب العربي" فمن المؤكّد ان الأوضاع فيه لم تستقرّ بعد ولكنها تدرج نحو ما هو مأمول او افضل وقد بات القوم على أيّ حال يستنشقون نسائم الحرّية والديموقراطية الحقيقية وهم ينعمون اليوم بما انجزته "الثورات" و"المخاضات" بعد ان بذلوا لقاء ذلك التضحيات الجسام التي خلّصتهم من الطغاة،وقد يكون البعض منهم مازال فقيرا ولكن لسع الفقر اهون من لفح النفط .