إذا رأيت الفيلة تطير, فلتصمت وتقم بتدوين الملاحظات, حيث إن الثورة المصرية مساوية لطيران الفيلة. هذا ما كتبه توماس فريدمان أخيرا في صحيفة نيويورك تايمز, وبالفعل طارت الأفيال في مصر, ثمانية عشر يوما, فحبست أنفاس العالم, وأعادت هندسة التاريخ في مسارات جديدة, حفرتها سيول الحرية المنهمرة في بر مصر, وصححت مفاهيم الجغرافيا ثانية, عندما أثبتت أن الأرض( مسطحة), وليست( كروية), هكذا أرادها المصريون وهكذا كانت, عندما لم تر شعوب الدنيا شرقها وغربها إلا( قاهرتهم) في الوقت نفسه, ليل نهار, وأبصرت كيف فعل الشعب المصري الخلاق ثورته, كما يجب أن تفعل الثورات.. نزل إلي الشارع لإسقاط الكابوس الاستبدادي, فأذن( الفجر) علي أيامه, وسري فوق روابيها( الشروق), وجرت روح الثورة في جسد( المحروسة) وتوحدت جموع أبنائها في كيان واحد, أسقط جدار الطغيان والفساد والتوريث- أو حائط برلين المصري- صانعا ملحمة إنسانية مذهلة في18 يوما لا أكثر..صورة ثورتها لم تتضح ملامحها بعد, تتعدد وجوهها في( مرايا) العالم وشعوبه وقواه المختلفة, في هذا الملف قراءة لمواقف دول( مؤثرة): أشقاء وأصدقاء وحتي أعداء, من ثورة25 يناير- التي بالقطع لا تصب في مصلحة أطراف تري في الاستبداد صديقا, وفي الديمقراطية عدوا- لم يدر بخلد أحد منهم أن تنتقل مصر من حال الموت السريري سياسيا إلي بلد يعج بالحيوية, وأوضاع متغيرة علي مدار الساعة, بفضل شباب واع, آخذ بناصية العصر, مدافع عن حريته وكرامته, بحثا عن المستقبل في مصر الجديدة. علي امتداد العقود الثلاثة الأخيرة, حسبت الشعوب العربية أن أرض الكنانة ستظل في سباتها وانكسارها, وهي التي كانت دوما درع الأمة وسندها, في الشدائد, وتبدت آثار ذلك علي العرب ومكانتهم وقضاياهم, التي صارت أوراقا يمكن استثمارها واللعب بها,من جانب قوي إقليمية و دولية, بعدما أغراها انكسار الدور المصري, فعربدت إسرائيل بمرح مدمر في المنطقة وتغاضي مبارك( كنزهم الاستراتيجي), مقابل السماح له بتوريث المصريين لابنه جمال, فذابت قضية فلسطين وواصلت تهويد القدس المحتلة,وجوعت الفلسطينيين ودمرت غزة وجنوب لبنان, واحتلت واشنطن العراق وخربته, وعمدت هي وحليفتها تل أبيب إلي السودان فشطروه قسمين والبقية تأتي, بينما تفرغنا نحن لمعارك وهمية تافهة مع شعوب شقيقة, كمعركتنا الحامية مع الجزائر, بسبب( ماتش كورة).. المصريون لم يستسلموا لزمن الجمود والغيبوبة وقاوموه بصور شتي, من الاحتجاجات حتي السخرية الحارقة والنكتة اللاذعة, إلي حد أنهم مثلا- حوروا كلمات أغنية( الحلم العربي) التي تقول: أجيال ورا أجيال حتعيش علي حلمنا/ واللي نقوله اليوم محسوب علي عمرنا/ جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما/ يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما... إلي كلمات جديدة تقول: أنفاس ورا أنفاس بتبوظ صدرنا/ واللي نشده اليوم حيقصف عمرنا/ جايز سيجارة... تسطلنا يوم إنما/ نقدر بقرش... نعمل دماغ في السما.., في نوع من التحدي, والكوميديا السوداء التي تنم عن الشعور بتراجع مكانة بلادهم وانكفائها علي ذاتها, وتشف عن الغضب المتراكم في الصدور والدور, والحارات والطرقات, فقد تهاوي ما يسمي( الحلم العربي), لكن جذوته ظلت متقدة, تحت الرماد, إلي أن هبت ريح تونس, فكسر المصريون قيودهم وصنعوا ثورتهم المبهرة, لكنها ثورة لم تكن علي( هوي) الجميع, فبعض الأنظمة الحاكمة في دول( شقيقة) رأوا فيها خطرا, خوفا من انتقال عدوي الثورة, وهبوب خريف الطاغية أو البطريرك, كما كتب ماركيز يوما- المسجي في قفص, يحاكمه قاض ينطق في أول كل جلسة كلمة( باسم الشعب), وكانت تلك هي( المرة الوحيدة) التي تتفق فيها آراء العقيد الليبي المغدور و الإخوة في الخليج, حول قضية ما, فقد اعتبر القذافي- بفكاهته المريرة المعهودة- أن المصريين ناكرون لجميل حسني مبارك, الذي كان( يشحت) عليهم, ليطعمهم, والحقيقة أن القذافي كان مذعورا مما حل به بعد ذلك فعلا, أما الإخوة في الخليج, فقد حاول بعضهم وقف حالة المد الثوري العربي, لمطالبتها بالديمقراطية الحقيقية, بوصفه نموذجا لا يتواءم مع أسس الحكم العشائري السائد بهذه الدول, من خلال ما بات يعرف إعلاميا ب الثورة المضادة, ولما لم تأت هذه المحاولة بالنتائج المرجوة, تدفقت أموال البترودولار علي بلدان الثورات خاصة مصر, لاعتبارات الوزن والأهمية, في سعي محموم للعبث بمسارات التطور الديمقراطي, وخلق أتباع وجماعات سياسية يتبنون رؤي وتوجهات, يتم إعدادها وطبخها في عواصم الخليج وغيرها- لتظل مصر كما كانت في عهد مبارك, تابعا لا قائدا, وكان لافتا أن القوم سحبوا جانبا كبيرا من استثماراتهم فيها, ولوحوا بتحجيم العمالة المصرية, ورفضوا تقديم مساعدة مالية أو حتي قروض( ملموسة) لمصر, في هذا الظرف الاقتصادي العصيب, مع أن مصر ظلت قرونا متطاولة تمدهم بأسباب الحياة و المعونات, دون من أو أذي, وكانت حروبها كلها دفاعا عن حقوق العرب ومنحت البترول أهميته الاستراتيجية والاقتصادية وجعلته بابا للثراء والأرصدة التي تئن من وطأة فوائدها بنوك أمريكا وأوروبا إلي حد التخمة, وقد حسب قطاع كبير من المصريين أن( الأشقاء) يعاقبون الشعب علي ثورته واختياره الحرية, وأن( قلوبهم) ضدنا و(سيوفهم) علينا, وظن بعضهم أنها محاولة ممنهجة لهدم( الشيفونية الوطنية) المستندة إلي إرث حضاري ممتد عبر آلاف السنين, بزعم أنها السبب في الفوقية غير المبررة التي يتعامل بها المصريون مع إخوانهم العرب, في حين أنهم أي المصريين- يسألونهم المعونة...وهو حديث مغلوط زائف. هذا الوضع استوقف كتابا ومحللين كثيرين, وأبدي بعضهم اندهاشه وشعوره بالخيبة مما يجري, فقال عبدالباري عطوان في القدس العربي: سمعنا عن عروض خليجية بأكثر من عشرة مليارات دولار لمساعدة الشقيقة الكبري, ولكن هذه المليارات لم تصل وربما لن تصل, وإن وصلت ففي الوقت الخطأ, وربما بعد إفشال الديمقراطية...فهل من المنطقي أن تعيش الخزانة المصرية علي احتياطاتها من العملات الأجنبية التي باتت قريبة من الصفر, في وقت لا تعرف الدول العربية النفطية ماذا تفعل بما هو متوافر لديها من سيولة نقدية سنوية تصل إلي ألف مليار دولار( تريليون دولار)؟. وعي المصريين ونقل الجامعة تمترس الأشقاء خلف مجلس تعاونهم, وحاولوا توسيعه بضم الأردن والمغرب, لمواجهة أخطار داخلية تتمثل في بدء تململ الكثيرين من الواقع السياسي في منطقة الخليج, وهو ما أكدته أحداث البحرين, ليصبح منظومة إقليمية- بديلا عن الجامعة العربية التي نادي الكاتب السعودي طراد بن سعيد العمري بنقل مقرها من مصر- تهدف إلي تفعيل الدور القيادي الجديد الذي تسعي هذه الدول لاكتسابه في العالم العربي, وفي مواجهة النفوذ الإيراني الضاغط والدور التركي المتنامي, مع الانشغال المصري, والترحيب الإسرائيلي- الأمريكي بذلك المسعي الناهض.وعلي الرغم من الرفض الخليجي للثورة المصرية فإن كثيرا من الخبراء العرب المحايدين يعتبرونه عامل تحفيز لدي الشارع المصري من جهة للاستمرار في الثورة والإصرار عليها, ومن جهة أخري فإن المصريين كانوا علي درجة من الوعي بالأ يحولوا قضيتهم من الإطاحة بالنظام إلي الدخول في صراع وتراشق إعلامي وسياسي مع دول الخليج أو غيرها من الدول العربية, عبر خطاب إعلامي مصري غاية في الاتزان تجاه تلك الدول, يعكس رغبة في عدم تفاقم الوضع أو قطع كل الحبال بين الطرفين, لأن المصريين يفرقون بين الأنظمة, والشعوب العربية التي تنحني احتراما لشعب مصر العظيم الذي يصنع تاريخا جديدا للأمة بأسرها, بحسب وصف الأكاديمي الفلسطيني الدكتور ياسر الزعاترة, فمن دون مصر ليس بوسع الأمة أن تتقدم, أو تواجه عدوها.. من دون مصر ستفقد الأمة ثقلها الأكبر, وستغدو شبه عارية وضعيفة أمام الأعداء.وقد روي الإعلامي وضاح خنفر أن الصوماليين في مجاعتهم الأخيرة كانوا يسألونه عن الثورة المصرية بوصفها بوابة الأمل والإنقاذ لهم من معاناتهم المقيمة, وهو ما تكرر في غزة ودارفور وغيرها, إنها مصر بالطبع..! خريطة جديدة وبالنسبة لدول الإقليم الرئيسية الأخري تنظر تركيا وإيران بارتياح وتحسب كبيرين للثورة المصرية ويأمل كل منهما أن تسير في ركابه سواء طهران أو أنقرة, وكلاهما يقلقه كثيرا أن تنحرف عنه, بعد تجربتهما مع نظام مبارك, الذي كان يعتبر إيران عدوا, وتركيا منافسا خطيرا, ولكن ينبغي إدراك أن علاقات الدول تنبني وفقا لحسابات معقدة, ليس من بينها العواطف, إذ تتقدم المصالح دائما, وينقل الأستاذ جميل مطر عن أحد كتاب صحيفة وول ستريت جورنال: أن إيران وتركيا تجريان حاليا محاولات لرسم خريطة جديدة للعالم العربي بناء علي تصورات, غير متفق عليها بالضرورة بين البلدين, وتسعيان بالسباق والمنافسة واستغلال التطورات الداخلية في دول المنطقة وفي مقدمتها الربيع العربي... مع الحرص علي أن تنتهي عملية رسم الخريطة الجديدة وتنفيذها علي أرض الواقع بأقل درجة من العنف الإقليمي, وإن أمكن بدون أي درجة من العنف بين اللاعبين الأساسيين وهما إيران وتركيا.ويقول محمد أيوب الأستاذ بجامعة ميتشيجان بالولاياتالمتحدة: إنه يكاد يري المستقبل المنحاز لإيران وتركيا خارجا من تحت رماد ثورات الربيع العربي. خاصة أن الثورة المصريةلا تزال تعاني مخاضا صعبا ومريرا, وتحتاج مصر وقتا قد يطول, حتي تسترد عافيتها وتعود إلي حلبة المنافسة الإقليمية ثانية, ومن ثم تسعي طهرانوأنقرة لترتيب أوراقهما وأوضاعهما في قضايا المنطقة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا, إنه صراع محموم علي من يقود, ومن ينتظر.. أكبر الخاسرين إسرائيل بلاشك هي أكثر المتشائمين والخاسرين من ثورة25 يناير, لقد تغير الشرق الأوسط بعد هذا التاريخ, وخرج من رحم هذه الثورة شرق أوسط جديد, مازال في طور التكوين والتشكل, تحكمه توازنات للقوي تغاير ما عهده علي امتداد السنوات الأربعين الأخيرة, ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن الجنرال أفيف كوخافي رئيس الاستخبارات العسكرية قوله إن الثورة في مصر وبقية دول الربيع العربي غيرت وجه الشرق الأوسط وجوهره وبهذه الطريقة لم يعد يمكننا التعرف عليه.ولأنها تستشعر الخطر الفادح أعلنت تل أبيب, علي لسان أحد جنرالاتها, أنها تعد العدة لخوض الحرب مع مصر, إذا اقتضت الضرورة وهذا من شأنه فرض أعباء علي الجيش, وأن يلقي بثقله علي الوضع الاقتصادي المنهك في إسرائيل..أثار اندلاع الثورة المصرية ذعرا وجدلا حادا في إسرائيل, انصب حول فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في توقعها, في وقت لا تحتمل إسرائيل نتائج مثل هذا الفشل الذي اقترب حسب جريدة معاريف من فشل توقع حرب6 أكتوبر. وذهبت الدوائر الاستراتيجية الإسرائيلية إلي أن تل أبيب فقدت بسقوط نظام مبارك حارس أمنها وحامي مصالحها الاستراتيجية, وكتب ألوف بن في صحيفة هاآرتس: إن تقهقر نظام مبارك يضع إسرائيل في ضائقة استراتيجية, حيث تبقي بدون حليف في الشرق الأوسط, وتتصاعد خشية إسرائيل من أن تعود مصر إلي دورها الريادي في المنطقة بعد خروجها من معادلة الصراع بسبب قيود اتفاقية كامب ديفيد.. أو إقامة نظام حكم ديمقراطي منبثق عن إرادة الشعب يفقد تل أبيب ما تدعيه بأنها واحة الديمقراطية وسط محيط من الديكتاتوريات العربية, وعبر عوزي آراد, مستشار الشئون الأمنية لرئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو عن مخاوفه من قيام ديمقراطية في مصر, بقوله: يسود في إسرائيل القلق أن تبدأ الديمقراطية فنودع السلام.. وجاءت أزمة قتل الإسرائيليين جنودا مصريين, وتفجير خط الغاز, واقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة, لتزيد المشهد تعقيدا,لذا انتقد وزير الدفاع الأسبق بنيامين بن إليعازر بمرارة موقف الإدارة الأمريكية حيال الأحداث في مصر, مؤكدا أن الأمريكيين تسببوا بكارثة في الشرق الأوسط بتخليهم عن مبارك. الديكتاتور و الغرب و التبعية وهنا يطرح سؤال نفسه: هل تخلي الأمريكيون بالفعل عن مبارك, وساندوا المصريين في ثورتهم؟ وهو سؤال تسهل الإجابة عنه, فمنذ البداية ساندت الولاياتالمتحدة نظام مبارك ودعمت أركانه وأمدته بأسباب الحياة, وبيقين يمكن القول إن ثورة المصريين تأخرت20 عاما, نتيجة الدعم الأمريكي لمبارك والوصاية عليه وإطاعته تعليمات واشنطن, ورهن مقدرات دولة محورية مثل مصر لحساب المصلحة الأمريكية, في الشأن الداخلي وفي فلسطين والسودان والعراق والصومال ولبنان وغيرها.. المهم أن تمنحه واشنطن صك الاعتراف بالتوريث, بعدما أغمضت عينها عن استئساده علي الشعب المصري.. فقد دافع نائب الرئيس جو بايدن, وغيره,عن مبارك صديق واشنطن ووصف حكمه بالمستقر, في الأيام الأولي للثورة, ولم يتخلوا عنه إلا حينما تأكدوا أن المصريين عازمون علي إكمال ثورتهم, دون وصاية, هنا سعي الأمريكيون لركوب الموجة, وخرج الرئيس أوباما مطالبا مبارك بالتنحي, في مشهد يعيد للأذهان ماجري مع شاه إيران وغيره من حلفاء واشنطن الذين تتخلي عنهم, عندما يصيرون عبئا يصعب احتماله, وعلي الرغم من الإشادات الأمريكية الواسعة- في العلن- بعظمة ثورة يناير بوصفها علامة فارقة ونقطة مضيئة في تاريخ الشعوب, وتوظيفها المذهل لتقنيات الاتصال والمعلوماتية, وتعبيرها عما يعرف ب العولمة, فإن أمريكا وقفت بالمرصاد للمصريين وثورتهم, وأوعزت إلي حلفائها في المنطقة ليضاعفوا من ضغوطهم السياسية والاقتصادية علي مصر, وسعت إلي تعطيل التدفقات المالية, التي تعهدت بها قمة الثماني في دوفيل, إلي أن تضمن حسن سير وسلوك الحكومة المصرية المقبلة واستمساكها باتفاقية السلام مع إسرائيل, وتوافقها مع الاشتراطات الأمريكية, ومازالت زيارات المسئولين الأمريكيين للقاهرة, مثل هيلاري كلينتون ومساعدها بيرنز, وجون كيري وفيلتمان.. تصب في ذات النهج, لضمان ألا تخرج أرض الكنانة من وصاية العم سام ترغيبا أو ترهيبا, فالديمقراطية ليست مطلبا حقيقيا لواشنطن, إنما الولاء والمصلحة الأمريكية أولا وأخيرا.ويتناغم الموقف الأوروبي في مجمله مع الموقف الأمريكي, فهو تابع له عادة, ثورة قامت من حيث لا يحتسبون ويعجزون عن توقع نتائجها, تخبطت الدول الأوروبية في مواقفها, انفراديا وجماعيا, فهذا زلزال قاري في الشمال الإفريقي وشبه الجزيرة العربية.. علي حد تعبير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي فوج راسموسن... إن تأييد الشعوب والحريات كلمات لابأس في ترديدها, أما المصالح فترتبط بالاقتصاد والهجرة والتجارة ومكافحة الإرهاب, والسياسة الغربية تسير علي ساقين: استمرارية المشروع الصهيوني والحيلولة دون مشروع إسلامي, أما الإرادة الشعبية محور الدعوات الديمقراطة الغربية, و الحقوق والحريات رسالة الغرب للبشرية, فأمور تأتي في مرتبة متأخرة, أو لا مكان لها في نطاق السياسة الواقعية, ولهذا يحق لوزير الدفاع الألماني كارل تيودور جوتنبيرج في مؤتمر ميونيخ للأمن أن يقول: لا أعرف إطلاقا أي شخص كان يتوقع التطورات في تونس ومصر. وعلق أحد الصحفيين: هذا ما جعل الغرب لا يستوعب ما يجري علي مستوي المجتمعات العربية, ويعتبر الوضع الراهن بمنزلة العقوبة عليه, وكان لردود الفعل الغربية المتأخرة أو السلبية دور كبير في مسارعة واشنطن وحلفائها إلي التدخل العسكري في ليبيا, عندما لاحت أول الفرصة, فهناك النفط ينام في حضن الديكتاتورية وينبغي إيقاظه. زلزال التحرير..و احتلوا.. ومع ذلك فمن العسير إحصاء المواقف المعبرة عن أن زلزال ميدان التحرير وصل إلي كثير من العقول الغربية( غير المرتبطة) بمفعول مصالح صناعة القرار السياسي,وهو ما وجد صداه في الاحتجاجات بميادين برشلونة ومدريد ولندن وباريس وواشنطن, مثل احتلوا وول ستريت. وقد تقاطع الموقفان الروسي والصيني تجاه ثورة25 يناير, في لون من التحفظ أو الرفض المضمر, بالنظر إلي أن الأنظمة الحاكمة هناك ديمقراطية ناقصة أو شمولية, وتتشابه مع بنية النظام المصري الغارب, ومن ثم توجست من وهج النموذج والاقتداء به, وإن أعربت عن احترامها لخيارات الشعب المصري, وبعد إزاحة مبارك سارعت الدولتان إلي إيفاد مبعوثين إلي القاهرة, محاولة مد جسور التعارف واستشراف ملامح المستقبل علي النيل, ذلك النهر الذي كان في الوقت نفسه تشتعل مياهه بمعركة سياسية بين دولتي المصب ودول المنابع, لتحجيم سيطرة مصر علي النيل وتقزيم حصتها المائية, بعدما أدار النظام السابق ظهره إلي أفريقيا كلها, وتقوقعت القاهرة علي نفسها, وتراجعت العلاقات الإفريقية المصرية إلي حدود الصراع, وانحلت عري الماضي المشترك والدور المصري المحوري في استقلال شعوب القارة السمراء, وصارت إفريقيا حديقة مصر الخلفية, ملعبا لإسرائيل وأمريكا والأوروبيين والصين والهند وايران وتركيا وبعض العرب الجدد وغيرهم, ثم أتت الثورة فرصة ذهبية لمصر ولأشقائها الأفارقة وغيرهم من العالم الثالث لتجديد دماء العلاقات وتطويرها لمصلحة الطرفين, إذا أحسن استثمارها وخلصت النوايا. إعادة البناء ربما كانت مواقف كثير من الأنظمة الحاكمة والنخب المتنفذة في بعض البلدان متململة من ثورة يناير, لكن المشرق حقا هو مواقف الشعوب القريبة والبعيدة جميعا التي جاءت مرحبة وداعمة وفخورة بعظمة الفعل الثوري المصري وإشعاعه الكبير, حتي أنزلها كثيرون منزلة الثورتين الفرنسية والأمريكية, وقد علل الدكتور ياسر الزعاترة ذلك: لأنها مصر, مصر العظيمة. مصر التاريخ. مصر الكنانة. مصر الأزهر قبل أن تغتاله السياسة القاصرة. مصر الثقل الأكبر في الأمة. مصر قائدة الأمة والشقيقة الكبري للعرب أجمعين. في حين اعتبر المفكر الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري المعارض- الثورة المصرية معركة تاريخية تتعلق بتحديد موقع مصر ودورها في المنطقة الشرق أوسطية, ومن وراء ذلك هوية المنطقة نفسها, والمصالح السائدة فيها, ومستقبل تطورها ومكانتها الدولية. ومن المحتم أن عودة مصر للشعب المصري الذي اختطفت منه, واستعادة هذا الشعب لسيادته وحريته في تقرير شئونه السياسية الداخلية والخارجية, سوف يغير من الوظيفة التي قامت بها مصر في إطار النظام الإقليمي, فيحولها من حليف استراتيجي للتحالف الغربي والإسرائيلي الذي يبسط نفوذه في المنطقة ويسعي من خلال إخضاع الشعوب العربية وتحييدها إلي احتواء المقاومات المحلية والإقليمية وضمان سيطرته علي منابع الطاقة الاستراتيجية وعلي أمن إسرائيل ومشروع توسعها الاستعماري, إلي قاعدة كبري لعملية إعادة بناء المنطقة العربية وتأهيلها للدخول في عصر السيطرة الذاتية والقضاء علي المشاريع والمطامع التوسعية الإسرائيلية وفتح الطريق أمام ممارسة الشعوب لحقوقها الإنسانية وجعل المنطقة مركزا من المراكز العالمية للتنمية الحضارية والإنسانية.