الدكتور / رمضان حسين الشيخ التعليم الذي نريده ، يجب أن يكون تعليماً من أجل الحياة، وعلى طول درب الحياة. بمعنى أن يرتبط بتجارب الإنسان ومشاكله وعمله واهتماماته وعلاقاته الفردية والاجتماعية والمجتمعيّة، أن يكون تعليماً واقعياً عملياً، يتأسس على رؤية جديدة أصيلة منفتحة، تلائم تطورات العصر ومتطلباته وطبيعته. وأن يُسهم في إعداد الإنسان القادر على ترقية حياته وواقعه وإدارتهما بشكل يواكب التجديد ويحمله نحو الإنجاز. وأن يجعل الإنسان مكوناً فاعلاً في بيئته ومجتمعه. يقدم ويأخذ في عملية تنمية وبناء ومنفعة. لكنّ أهم ما فيه أن يحمل طاقة الحرية التي تتيح الانفتاح بوعي والتزام على الذات والهوية والآخر المختلف والعالم. إن استخدام التعليم ينطلق من حاجة الدول له في تحقيق اهدافها، فهناك دول جعلت التعليم طريقها للاستقلال ورمزاً لعدم الخضوع والنهوض من كبوتها مثل فيتنام، وهناك دول جعلت التعليم وسيلة للعمران والتفوق في مجالات معينة مثل المانيا وكوريا وتايوان، وهناك دول كان التعليم الوسيلة الوحيدة (لتعوض به) سقوط إمبراطوريتها العسكرية وتحل مكانها إمبراطوريتها التكنولوجية حيث لازم شعور الغضب والعزم على استرداد مكانة اليابان المفقودة كل فرد فيها.. وكذلك هناك دول كان التعليم وسيلتها لتحقيق طموحات شعوبها بأن عرفت (ما تريد) وبالتالي حققته بالتعليم ومن ذكاء قادتها نظروا إلى الدوافع التي تسير الشعب لتحقيق غايته بجانب الاعتزاز القومي والطموح فكان الدين الدافع الرئيسي والمحرك النفاث الذي انطلق بماليزيا في سماء التقدم الصناعي مشكلا بذلك دائرة متكاملة من الموارد والتعليم والتكنولوجيا والأيدي الماهرة الوطنية وسوقاً كبيرة لمنتجاتها والاعتماد بشكل كبير على ما تنتجه ماليزيا من المواد والبضائع والالات في تنمية المجتمع الماليزي. ولطالما كان التعليم بالنسبة للعائلة المصرية استثماراً اقتصادياً بحتاً، الهدف منه أن ينشل (الانسان المتعلم) عائلته من الفقر والعوز، أو أن يحافظ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لها. ولعل السبب في مركز الصدارة الذي تبوأه المعلم في مجتمعنا، يعزى في حقيقته، إلى أنه (المعلم) شكّل وسيلة المجتمع لتأسيس رأس مال اقتصادي ممثلاً (بالانسان المتعلم)، والذي غالباً ما ذهب للوظيفة في الحكومة باعتبار أن الدولة كانت أهم مشغّل في سوق العمل. والواقع أن هناك فهماً ضمنيا مشتركا في مجتمعنا اليوم، مفاده أن التعليم بشكله الحالي يعتبر استثماراً اقتصادياً فاشلاً؛ ذلك أن مجموع الكفاءات والمهارات التي يتخرج بها الطالب من المدرسة والجامعة لا يتناسب مع متطلبات سوق العمل. ولهذا، فإن (الانسان المتعلم) يتخرج ولا يجد وظيفةً، أو قد يجد وظيفةً براتب متدنِ. وبوهم أمان الوظيفة في الدولة، يلتحق بالقطاع العام، حتى باتت الدولة تمثل بيت أبي سفيان للتوظيف؛ من دخلها فهو آمن، الأمر الذي أوصلنا إلى هذا التضخم في القطاع العام. من هذه الزاوية، فإن إصلاح التعليم أضحى مطلبا وطنيا محل إجماع الشعب المصري، بل هو معركة بين استمرار الوطن في فشل التعليم وبين نجاحه. فإن اختلف الناس على مضمون الإصلاح، فإنه لا يجوز أن يختلفوا على ضرورته على الصعيدين المدرسي والجامعي. في هذا السياق، فإن إصلاح التعليم يجب أن ينطلق من رؤية شمولية وطنية علمية غير مؤدلجة؛ رؤية تبدأ بمراجعة فلسفة التعليم بهدف إعادة القيمة الإقتصادية والتربوية للعملية التعليمية وقيمها. مراجعة تجيب عن سؤال وطني أساسي هو: ماذا نريد من التعليم؟ بحيث تشكل الإجابة العلمية الموضوعية عن هذا السؤال، أسس الإصلاح التعليمي، بما يحقق حاجات مصر الاقتصادية والاجتماعية، ونجاح طلبته الأكاديمي والقيمي، بعيداً عن التمترس الأيديولوجي أو التغريبي الاستشراقي. سؤال مهم بأهمية التعليم وكبير بحجم الوطن، بسيط في ظاهره، لكنه يستدعي الكثير من التفاصيل، بل الكثير من اختلاف وجهات النظر حتى بين المختصين أنفسهم، فقد تطرق لهذا السؤال الفلاسفة والمثقفون والتربويون منذ القدم وحتى العصر الحديث من أمثال روسو وجون ديوي وبورديو وغيرهم، كل أعطى وجهة نظره فيما يجب أن تكون عليه المدرسة حتى تؤدي دورها، والدول التي وصلت حديثاً إلى مصاف الدول المتقدمة كسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وقبل ذلك اليابان، وأخيراً الصين القادمة إلى العالم بقوة عرفت كيف تجيب على هذا السؤال ثم اتخذت الخطوات المناسبة والشجاعة لبناء حاضر يليق بها ومستقبل تنعم فيه بالرخاء والقوة، هذه الدول جعلت من التعليم أحد محاور التقدم المهمة. حقاً، هل صنعنا مثقفين وقادة رأي ومهندسين واطباء ومحامين أفذاذاً، ان الكتب والمناهج التي تدرس في جامعاتنا هي نفسها الكتب التي تدرس في جامعات العالم المتقدم إذ ان قوانين الفيزياء والمعادلات الرياضية والعلوم الهندسية هي نفسها لم تتغير، ولدينا أساتذة عباقرة وافذاذ يشهد لهم الجميع الا من رحم ربي، ولدينا الوسائل والامكانيات، ولكن أين المشكلة؟ المشكلة أن الدولة لم تخبر الطالب منذ دخوله سلك التعليم ماذا تريد منه! وما هو الدور المطلوب منه؟ إن اختفاء الهدف من أمام الرامي يجعل بندقيته الجميلة والمحشوة بأفضل الطلقات النارية لاتعمل، إن العمل لايكتمل الا بتحقيق النتائج علي أرض الواقع، وها هي أروقة الجامعة ورفوفها ممتلئة بالدراسات والبحوث في كل شيء ولكن!، لقد تحولت الجامعة إلي مؤسسة تمنح طلابها شهادات يستعينون بها علي وظيفة أو منصب فقط. إن الحل يكمن في توضيح ماذا نريد؟ وماذا نتعلم لنتجه إلى ما نريد، وكيف نتعلم لنحقق ماذا نريد، والأهم من ذلك بث الروح والدافع والتذكير بالهدف المطلوب من أول يوم يذهب فيه الطالب إلي المدرسة وحتى ينجح القائمون على التعليم في أداء مهمتهم السامية عليهم الإجابة على هذا السؤال حتى يسهل وضع المناهج وحسن اختيار المعلم وتأهيله، واضعين أمام أعينهم الوطن وتقدمه، دون الالتفات لأي اعتبارات أخرى كل ينادي بها من وجهة نظره. ومن المهم أن يحدد المسؤول كيف يريد أن تكون المخرجات حتى يضع الأسس الصحيحة للمدخلات، أو كما قال ستيفن كوفي في كتابه الرائع (العادات السبع): "ابدأ والنهاية ماثلة أمامك" فيُوضع عدد من الأهداف لكل مرحلة من مراحل التعليم بدءاً برياض الأطفال التي هي الأساس للتعليم المميز، وحتى المراحل العليا من التعليم، وفي رأيي أن من أهم الأهداف التي يجب أن يركز عليها من أجل جيل قوي يأخذ الوطن إلى مصاف الدول المتقدمة هو ما يلي: • أولاً: الانتقال من الحفظ والتلقين إلى الفهم والتفكير، ومن التسليم بكل ما توصل إليه السابقون إلى مناقشته ونقده وإجراء التجارب للتأكد من صحته، ثم القدرة على توظيفه، مع التركيز على مادة الرياضيات التي تعطي العقل ما تعطيه التمارين الرياضية للجسم، والهدف من هذا كله هو بناء إنسان يستطيع التفكير والخلق والإبداع، ولديه القدرة على الابتكار الذي أصبح هو سمة العصر الحاضر وأساس الاقتصاد القوي وتراكم الثروات لديه. القدرة على التفكير والتحليل والمساءلة والنقد ستمد الوطن بما يحتاجه من قادة ومفكرين وعلماء ومخترعين ومبدعين لديهم القدرة على الابتكار، وستجنب أبناءنا خطر سهولة تجنيدهم من قبل المتطرفين وتجار المخدرات وبائعي الوهم ومروجي الإشاعات. • ثانياً: المدرسة هي المكان المناسب لزرع القيم والعادات السليمة والمفيدة ومحاربة العادات المضرة، خاصة مع غياب التربية السليمة في أكثر البيوت، ومن القيم التي يجب أن تكون حاضرة في مناهج التعليم وتمارس في المدارس قيمة الصدق والاحترام والتعاون والالتزام بالوقت وحسن استثماره، وزرع عادة القراءة حتى يستمر التعليم مدى الحياة. والشرط المهم لزرع هذه القيم والعادات الجميلة هو ممارستها في كل الأنشطة المدرسية ومنذ دخول الطالب في الصباح وحتى خروجه، كما يجب أن تكون هي السائدة بين المعلم وطلبته وبين الطلبة أنفسهم، فلا فائدة من وضعها كنصوص أو حفظها كأقوال مأثورة أو وضعها على أسوار المدرسة دون تطبيقها، مع التأكيد عليها في كل مراحل التعليم حتى تترسخ العادة وتصبح سلوكاً تلقائياً. • ثالثاً: المدارس هي المكان المناسب لتخريج جيل يتمتع بالصحة والقوة البدنية ومكافحة عادة التدخين القاتلة وانحدار الاخلاق التي أصبحت منتشرة بين الصغار والكبار وغيرها من المشكلات الحياتية التي نراها يومياً، على المدارس أن تركز على الرياضة التي تجلب النشاط وتطرد الملل وتعلم التعاون وروح الفريق وتحبب الطالب بمدرسته، الرياضة واللعب من أهم أساليب التعليم الحديث وخاصة لصغار السن بدل إبقائهم لساعات طويلة مسمرين على الكراسي. • رابعاً: السلوك الحضاري والتعامل الحسن مع الغير واحترام البيئة ونظافتها وعدم العبث بالممتلكات من أهم الدروس التي يجب أن يتعلمها الطلبة في المدارس عن طريق تشجيعهم على الانخراط في الأنشطة المجتمعية والنشاط الكشفي والرحلات داخل الوطن وخارجه، وإعطاء الطالب الفرصة لممارسة القيادة ومهارات التواصل المطلوبة لسوق العمل والتأهيل المهني مع الاستفادة من الدول الرائدة في هذا المجال مثل ألمانياواليابان. الإجابة على هذا السؤال المهم هو بداية الطريق لتعليم مميز يبدأ في المدارس الحكومية والخاصة حتى يحظى جميع المصريين بنفس الجودة والفرص والوظائف المرموقة بعد التخرج ان شاء الله. إننا نريد أن يكون للتعليم الريادة في كل شئ وأن يسير بالمجتمع إلى الأمام، وأن يكون هذا القطاع هو من يساعد على التحول وترجمة الرؤية الطموحة 2030 بفكر متوثب متجدد مواكب للعصر ومنسجم مع التطلعات الكبيرة، لا أن يسير بفكر رتيب وطريقة نمطية واجرائية بيروقراطية. ويجب أن يكون هدفنا هو أن نكون في مقدمة الركب.. في الطليعة، بنظام تعليمي رفيع المستوى، مبني على الابتكار والإبداع والروح الخلاقة.. تعليم نتولى فيه نحن (قيادة تربوية وجميع المسؤولين من الإداريين والمعلمين)، وبجانبنا أولياء الأمور، ومؤسسات المجتمع وأفراده ووسائل إعلامه، زمام المبادرة، في تشكيل نواة لعلماء الدولة ونخبتها المتخصصة في العلوم الحديثة (الطب والهندسة والفضاء وتكنولوجيا المعلومات)، وغيرها من العلوم المعاصرة والمستقبلية، بجانب المفكرين ورواد الأعمال والمتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير الاداري والتنظيمي [email protected]