بينما تتجه أنظار العالم نحو تحولات كبرى فى النظام الاقتصادى الدولى، تبرز خطوة نوعية لمصر والصين قد تعيد تشكيل ملامح التجارة الثنائية وتقوى أواصر التعاون الاقتصادى بينهما، إذ بحث حسن عبد الله، محافظ البنك المركزى المصرى، الأسبوع الماضى، مع نظيره الصينى بان قونغ شنغ، خلال زيارته الحالية إلى القاهرة، سبل تعزيز التعاون بين المصرفين المركزيين، وتطوير آليات تبادل الخبرات الفنية فى جميع اختصاصات البنكين، إلى جانب دعم العلاقات الاقتصادية التى تسهم فى تعزيز المصالح المشتركة للبلدين. وخلال اللقاء، ناقش عبدالله مع محافظ «المركزى» الصينى العديد من الموضوعات المهمة من ضمنها اتفاقية مبادلة العملات، وتسويات المدفوعات بين البلدين بالعملة المحلية، ما يعنى التوقف عن استخدام الدولار الأمريكى كوسيط فى المعاملات التجارية بين مصر والصين، وإتمام المدفوعات إما بالجنيه المصرى وإما باليوان الصينى. هذه الخطوة لا تُمثل مجرد تغيير إجرائى فى طريقة الدفع، بل هى انعكاس لرؤية استراتيجية أوسع تهدف إلى تخفيف الضغط على احتياطيات النقد الأجنبى، وتعزيز استقلالية القرار الاقتصادى، وفتح آفاق جديدة للتجارة والاستثمار. تأتى هذه الخطوة بالتزامن مع خطوات أخرى يطبقها البنك المركزى المصرى مع العديد من الدول وعلى رأسها البلدان الأفريقية لتخفيف الضغط على العملات الأجنبية، إذ اعتمد البنك المركزى المصرى فى نوفمبر 2024 اتفاقية مشاركة البنك فى نظام الدفع والتسوية الأفريقى PAPSS، فى إطار الجُهود المصرية المستمرة لدعم العلاقات المصرفية على المستوى الإقليمى وتعزيز التعاون الاقتصادى مع الدول الأفريقية. ويسهم نظام PAPSS - التابع لبنك التصدير والاستيراد الأفريقى «Afreximbank» - فى تيسير تنفيذ المدفوعات والتحويلات التجارية عبر الحدود مع خفض التكلفة والزمن اللازمين لتنفيذها، ما يمثل خطوة واعدة جديدة نحو تدعيم الروابط الاقتصادية التاريخية والتوسع فى حركة التجارة المتبادلة بين مصر والدول الأفريقية الشقيقة. ومن المتوقع أن يسهم النظام الجديد فى تعزيز حجم التبادل التجارى بين مصر وبقية دول القارة السمراء وتوطيد العلاقات الاقتصادية المصرية مع الدول الأفريقية، كما سيساعد على تحقيق التكامل المالى بين بلدان القارة الأفريقية، إضافة إلى تخفيف الضغط على توفير العملات الأجنبية من خلال آلية تسوية صافى المعاملات المتبادلة بين الدول المشاركة. وفى سبتمبر 2023، وقع البنك المركزى المصرى ومصرف الإمارات العربية المتحدة المركزى اتفاقية ثنائية لمبادلة العملة، تتيح للطرفين مقايضة الجنيه المصرى والدرهم الإماراتى بقيمة اسمية تصل إلى 42 مليار جنيه مصرى و5 مليارات درهم إماراتى، وذلك فى إطار تعزيز العلاقات الوثيقة التى تجمع بين البلدين ويسهم فى تيسير وزيادة حجم التبادل التجارى بينهما، بما يدعم أواصر التعاون المستمر بينهما فى مختلف المجالات، خاصة أن عملية مبادلة العملات المحلية تعد بمثابة حجر أساس للتعاون المالى المشترك بين الدولتين. هذه الخطوات تعكس توجهًا استراتيجيًا لمصر نحو تنويع سلة العملات المستخدمة فى التجارة وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية الرئيسية، خاصة الدولار الأمريكى، وذلك فى إطار سياساتها لتعزيز المرونة الاقتصادية والاستقرار المالى. فى هذا الصدد، قال الدكتور مدحت نافع، عضو اللجنة الاستشارية المتخصصة للاقتصاد الكلى التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، إن التخلى عن الدولار نسبيًا يكون أكثر نجاحًا حينما ترفع الدولة من حجم تعاملاتها البينية- التجارية أو الاستثمارية- مع الدول المتخلية عن الدولار، وعدم ربط عملتها بالدولار فى صورة احتياطى نقدى أو فى استخدامات أدوات الدين. أشار إلى أن زيادة النشاط فى التعامل البينى مع دول مجموعة «بريكس» على سبيل المثال، بالعملة الوطنية، تشجع على زيادة حجم التبادل التجارى، ما يؤثر فى الاقتصاد الحقيقى بشكل واضح، قائلاً: «حينما نتقاضى بالروبل من السائح الروسى، فهذا يشجعه على الإنفاق أكثر داخل الدولة، ما يوفر «روبل» للدولة، ومن ثم يشجع الدولة على استخدامه فى استيراد مزيد من السلع الروسية أو إحلال السلع الروسية بسلع أخرى». وشدد «نافع» على أهمية أن يسهم قرار تسوية المدفوعات بالعملة المحلية بين البلدين فى زيادة حجم التجارة بين مصر والصين، وألا تترتب عليه زيادة حجم الفجوة والعجز المزمن فى التجارة بين مصر والصين. من جانبه، قال ماجد فهمى الخبير المصرفى، إن قرار تسوية المدفوعات بين مصر والصين بالعملة المحلية فى حال تطبيقه، يخفف من استخدام الدولار الأمريكى كوسيط فى المعاملات التجارية بينهما، وهو ما يحد من الضغط على احتياطى النقد الأجنبى ويعزز استقرار الجنيه المصرى ويقلل من تقلباته. وأشار إلى أن القرار يسهم فى سياسة «التخلى عن الدولرة» التى تسعى إليها دول بريكس والمزيد من الدول لتجاوز هيمنة الدولار الأمريكى على التجارة العالمية، فضلاً عن أنه يقلل من تكاليف المعاملات ورسوم التحويل المرتبطة باستخدام عملة طرف ثالث (الدولار)، ما يجعل التجارة بين البلدين أكثر كفاءة وأقل تكلفة. وأوضح فهمى أنه يشجع على زيادة حجم التبادل التجارى بين مصر والصين، إذ يصبح من الأسهل على الشركات المصرية والصينية إجراء الصفقات دون القلق بشأن توفير الدولار، ويسهم فى جذب الاستثمارات الصينية، مشددًا على ضرورة زيادة الإنتاج فى مصر ما يتيح للدولة التوسع فى عمليات التصدير. فى السياق نفسه، قال صبرى البندارى الخبير المصرفى، إن القرار حال دخوله حيز التنفيذ سيكون له تأثير إيجابى مباشر فى حجم السيولة الدولارية بالسوق المصرية وخفض ملحوظ فى الطلب على الدولار لأغراض التجارة مع الصين، خاصة أن الأخيرة ضمن أكبر الشركاء التجاريين لمصر، ومعظم الواردات منها كانت تتطلب الدولار. ولفت إلى أنه بتخفيض الحاجة إلى الدولار لتمويل الواردات الصينية، سيتم الاحتفاظ بكميات أكبر من العملات الأجنبية الصعبة داخل الاحتياطى، ما يعزز من قوة الاحتياطى، ويمنح البنك المركزى مرونة أكبر فى إدارة السياسة النقدية، ويزيد من ثقة المستثمرين والمؤسسات الدولية فى الاقتصاد المصرى. أضاف أن هذا الاتفاق يمهد الطريق لاتفاقيات مماثلة مع شركاء تجاريين آخرين لمصر، خاصة أن القاهرة تسعى لتنويع مصادر تجارتها وعملاتها، وهذا الاتفاق مع قوة اقتصادية مثل الصين يمثل سابقة قوية. وأشار البندارى إلى أن الاتفاق يعزز الشراكات الاستراتيجية ويرسخ مبدأ «تعدد الأقطاب» فى التجارة العالمية، ويدعم سياسات مصر الخارجية التى تسعى لتعزيز الشراكات مع قوى اقتصادية صاعدة.