الدكتور / رمضان حسين الشيخ تقاس حضارة الشعوب ونهضتها بمقدار امتلاك أفرادها خبرات معرفية وثقافية تسهم في زيادة وعيهم بمختلف المجالات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والطريق الوحيد لاكتساب هذه الخبرات هو المطالعة، يقول عباس محمود العقاد: "القراءة تضيف إلى عمر الإنسان أعماراً أخرى". وفي مرحلة التحولات الكبيرة التي تمر فيها مصر الحبيبة تأخذ الثقافة المساحة الأكبر في الحضور والتصور، وتبدو كأنها فرس الرهان الرابح في مجمل عمليات التغيير، من هنا يحق لنا التساؤل: ما هو واقعنا الثقافي اليوم؟ وأين دور النخبة المثقفة في تنوير وتوعية المجتمع؟ وإلى أي حدّ تراجع المستوى الثقافي لدى الأفراد؟ وهل ساهمت تكنولوجيا وسائل الاتصال باضمحلال الثقافة أم سهلت انتشارها؟ وما الدور الملقى على عاتق المؤسسات الثقافية خلال المرحلة القادمة؟. في البداية حتى لا يتم خلط المفاهيم يجب أن نفرق بين المتعلم والمثقف فالتعليم في بلدان العالم الثالث أنتج الملايين من الحاصلين على الشهادات لكن غير القادرين على مطالعة الكتب، منوِّها أن هناك خلطاً في مجتمعنا بين المفهومين، فليس كل متعلم هو بالضرورة مثقفاً، فالثقافة هي مجمل العلوم والمعارف والفنون والآداب في إطارها العام، التي تسهم في بناء التوجهات والاتجاهات الفكرية للإنسان، فالإنسان لكي يصبح مثقفاً يجب أن يكون مثابراً على القراءة، متعمقاً في مختلف الفنون والآداب والقضايا المجتمعية، مشيراً إلى أن الثقافة كما يعرِّفها إدوارد تايلور في كتابه "الثقافة البدائية": هي كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والعرف وغير ذلك من الإمكانات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع. ويجب أن ندرك جيداً إلى أن القراءة ومطالعة الكتب وتشرّب الآداب تفتح أمام الإنسان آفاقاً جديدة تؤدي إلى تهذيب النفوس والسمو بها نحو الرفعة والرقي الإنساني، مؤكداً على عدم وجود مثقف عنصري أو طائفي، وإن وجد؛ فهو ليس مثقفاً حقيقياً وبأن الإنسان المثقف يقارب مسائل وقضايا مجتمعه بعيداً عن التحيز والعواطف والقيود السائدة، وذلك بحكم كونه يملك نصيباً واسعاً من المعارف والعلوم المرتبطة بهذه القضايا والمسائل، وهو يتميز بمرونة رأيه، وبتقبله للنقد والآراء والأفكار المختلفة، وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة والتأمل فيها. في ظلّ هذا الواقع المرير يأمل بعض المثقفين إنجاز إصلاح ثقافي يعيد الحياة إلى روح الأمّة ويضع قطارها على سكّة الحضارة ويغيّر الواقع إلى أفضل حال. فتعددت ومازالت تتعدد المبادرات لكنّ النتائج لم تغيّر في الأمر شيئا وذلك لأن روح تلك المبادرات لم تتشبّع في إحدى جوانبها ب (العمل المؤسسي) وبقيت أغلبها محكومة ب (ثقافة الفرد) وكلّنا يعلم أنّ المبادرات الفرديّة لا تصنع مشروعا متكاملا للإصلاح قادرا على الصمود. لذا فيوجد شرطان أساسيّان لابدّ من توفّرهما في أي عمليّة إصلاحيّة، استيعاب مخرجات الثورة الرقميّة وركوب قطار التكنولوجيا الحديثة وهو يسير بسرعته الجنونيّة من ناحية، وتوحيد الجهود ضمن استراتيجيّة واحدة وأهداف واضحة من ناحية ثانية. ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا تشبّع المثقفون أوّلا والمجتمع ثانيا بثقافة العمل المؤسسي.. فهل يقدر هؤلاء على تحقيق شيء من ذلك في مجتمع تنعدم فيه تقاليد العمل المؤسسي؟ انني أؤكد للجميع بأن الإصلاح الثقافي في المجتمع المصري الآن لم يعد مطلباً بل هو ضرورة لكون الفراغ الذي سوف يتركه انكشاف التنظيمات المتشددة والتيارات الثقافية بجميع انتماءاتها سيكون واجباً تعويضه بمفهوم حديث لثقافة مميزة تنقل المجتمع بشكل إيجابي واستراتيجية تتنبأ بصورة المجتمع على المدى البعيد وتشكله بصورة سليمة. ويجب ان ندرك جيداً ان تغييب الأساس الثقافي كان عاملاً حاسماً في التفكك المرير، الذي أدى بدوره إلى تراجع محاولات النهوض، وتفاقم التحديات والإشكالات على مختلف الصعد، والفشل في كثير من صور الانفتاح بندية على الآخر، وبالتالي عدم إغناء الهوية والثقافة بالحيوية والتفاعل الخلاق، مما انعكس سلباً على مجتمعنا بأشكالٍ من القصور التنموي والجمود الاجتماعي والتباعد السياسي، وحدَّ من إنتاج وأثر الفكر والجدل العقلي التنويري، بل زاد من تعميق الشروخات وإثارة الخلافات، وأنتج صوراً من الانعزالية والتقوقع واحتكار الحقيقة. لذا فإننا نلاحظ دائماً بأن المثقف الحقيقي يتسم بشجاعة فكرية ويقتحم بأفكاره كل المسلمات والعادات والتقاليد، ولا يتلقى ويسمع ويقرأ كالإسفنجة، ولا يستظهر كل ما قرأه كالببغاء، ولا يعتمد الأفكار الجاهزة مثل الجاهلين، والمثقفون كما يقول أنطون تشيخوف: «يتصرفون في الشارع كما يتصرفون في المنزل، يحترمون ملكية الآخرين، طيبون ويتعاطفون مع الجميع، ولا يتنفسون الهواء الفاسد وكل ساعة ثمينة بالنسبة لهم". عزيزي القارئ.. لقد صدمت عندما اطلعت منذ ايام على تقرير صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية عن أرقام مخيفة عن الواقع الثقافي في البلدان العربية، إذ جاء في ذلك التقرير أن معدل القراءة السنوي 4 كتب للفرد وفي أمريكا 11 كتابا، وفي بريطانياً 7 كتب، وأما في الوطن العربي فهو ربع صفحة فقط، وفي مجال الترجمة فإن مجموع ما يترجمه العرب سنوياً يساوي خمس ما تترجمه اليونان ولم يترجم العرب سوى 11,000 كتاب منذ سنين طويلة وحتى وقتنا الحاضر، أما في إسبانيا وحدها فتتم ترجمة أكثر من 11,000 كتاب في العام الواحد، وبالنسبة لاستهلاك الورق فدار "غاليمار" الفرنسية للنشر تستهلك وحدها ما يفوق كل المطابع العربية مجتمعة من كمية الورق. ويشير تقرير لليونسكو إلى أن معدل قراءة الأطفال في العالم العربي خارج المنهج الدراسي 6% في السنة، بينما يقرأ كل عشرين طفلاً عربياً كتاباً واحداً سنوياً، أي لايزيد الوقت المخصص للقراءة الاطلاعية عند الطفل العربي (من دون احتساب وقت القراءة المدرسية) عن ست دقائق في العام، أما عن حجم الكتب المخصصة للطفل العربي فهو (400 كتاب في العام) مقابل 13260 كتاباً في السنة للطفل الأمريكي و838 للطفل البريطاني و2118 للطفل الفرنسي و1485 للطفل الروسي. إن التعليم في المجتمعات المتخلفة يكرس التخلف، ويعمق أسبابه، ويزكي البيئة الحاضنة له. إن التعليم محكومٌ بالأوضاع القائمة؛ فإذا جاء ضمن ثقافة حرة ومنفتحة ونامية، فإنه يُمدُّ المجتمع بالطاقات الإنتاجية والإبداعية التي تدفعه للمزيد من التقدم والازدهار، فكل تقدم هو تمهيدٌ لتقدم أعظم، أما إذا جاء التعليم ضمن ثقافة مغلقة ومتخلفة ومرعوبة من الأفكار المغايرة، فإنه يكرس الانغلاق، ويرسخ التخلف، ويوصد العقول، ويشحن العواطف بالرفض العنيد الأعمى لمقومات التقدم الطارئة. إننا نتوهَّم أن تعميم التعليم، ونشر المدارس، والإكثار من الجامعات، وإغداق الإنفاق عليه، وتوفير فرص التعليم للجميع يؤدي تلقائيًّا إلى تهيئة المجتمعات لتحقيق التقدم والازدهار، لكننا نغفل عن أن التعليم محكومٌ بالثقافة السائدة، وليس بالعلوم الطارئة، ونتجاهل بأن المجتمعات محكومة بثقافاتها التلقائية المتوارثة، وليست محكومة بطلاءات مجلوبة من خارجها. إن المجتمعات تتناسل ثقافيًّا بشكل تلقائي، وترفض ما يغاير تصوراتها وقيمها ومألوفاتها، فالأطفال يتبرمجون تلقائيًّا بالثقافة السائدة قبل أن يلتحقوا بالتعليم، فتنغلق قابلياتهم عن قبول ما لا يتفق اتفاقًا كاملًا مع البرمجة التلقائية، لذلك ينبغي أن يدرك رجال التربية والتعليم والمسؤولون عن التنمية هذه الحقيقة الأساسية، وأن يتفهموا التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة البشرية. وعليه لابد من وضع خارطة طريق تؤسس للإصلاح الثقافي في الأوطان العربية يشارك في صياغتها الجميع ولابد من العزم على التأسيس لها على أرض الواقع حتى لا تبقى مجرد مبادرات أو أفكار ومجرد حبر على ورق فالفن والثقافة لهما تأثير كبير على الأفراد وعلى الناشئين وعلى المجتمعات بصفة عامة إما بالسلب أو بالإيجاب. في الختام أؤكد على ضرورة تركيز المؤسسات التربوية والثقافية في المرحلة القادمة على القيم والمفاهيم الثقافية في بناء مجتمع مصري جديد، فمن خلالها يمكن بناء إنسان يمتلك قيماً فكرية وأخلاقية تقود لبناء مجتمع حضاري، فالتغيرات الفكرية والثقافية تقود إلى تغيير عادات المجتمع، وهنا يكون للتنشئة والتوعية الثقافية الدور الأهم في قيادة عملية التغيير، عن طريق التركيز على بناء أيديولوجيات إنسانية سامية، وكذلك في إظهار معالم هذا التغيير بهدف التأثير والتعميم، وفتح المجال لحرية السير في عملية الإبداع والتفكير الجدلي والانصهار بهدف التواصل الإنساني، وإظهار الطبيعة الحضارية المشتركة للبشر، ولاتخاذ مواقف جديدة إزاء العديد من قضايانا ومشاكلنا والتغلب على كل ما يؤثر فينا سلباً، والكشف عن مكامن الفكر الإنساني لدى الفرد المصري بطرق إبداعية جديدة، وبالاعتماد على قيم ثقافية صحيحة. الدكتور / رمضان حسين الشيخ باحث وكاتب في العلوم الإنسانية وفلسفة الإدارة الخبير الدولي في التطوير المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي [email protected]