احمد طلبة قرنى أسرار الدولة البرغواطية… عندما أفطر بعض أهل المغرب الإسلامي رمضان وامتنعوا عن الحج وصلوا بالجنابة وحرم عليهم أكل السمك... ------------------------------------------------ قرآن مختلف ودين جديد؛ شعائر تُجيز الإفطار في رمضان فيما توجب الصوم في رجب وتقضي بعشر صلوات في اليوم ولا ترى حرجا في الصلاة بالجنابة؛ بل تقيم الحد على السارق بالقتل وتنكر فريضة الحج وتحرّم أكل السمك والبيض والدجاج.. وأخرى تبيح تعدّد الزوجات بلا حد والطلاق والمراجعة بلا حد، حسب شهوة الرجل، وتحدد الدية بعدد من البقر وتحرم رأس كل حيوان.. ------------------------------------------------- لم تكن هذه شعائر قبيلة فحسب، بل ديانة دولة داخل الدولة عمّرت لفترة تزيد على أربعة قرون ولعبت دورا كبيرا على المسرح السياسي.. إنها دولة برغواطة أو “الإمبراطورية الكاملة”، كما وصفها بعض المؤرّخين. امتدت جغرافيا في بقعة متسعة وغنية اقتصاديا من المغرب الأقصى، وسجلت مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب في العصر الإسلامي خلال القرن الثاني للهجرة. ارتبط قيامها في تلك البقعة النائية بعقائدَ غريبة ومتطرّفة شدت اهتمام الباحثين والمؤرخين من مشارق الأرض ومغاربها وجعلت برغواطة مثار مناقشات عديدة، فمنهم من اعتبرها دولة خارجة عن تعاليم الإسلام إلى حد أن الكثيرين منهم وصموها بالهرطقة والوثنية، بينما تصدت فئة قليلة منهم للدفاع عنها وعن عقيدتها وعن نسبتها إلى الإسلام. فيما رأى بعض المؤرخين في دين برغواطة نوعا من المقاومة ضد الفاتحين العرب الذين كانوا غزاة وطغاة بدليل أن ميسرة المطغري قام بالانتفاضة ضد تعسف ولاة بني أمية، فمحمد الطالبي المؤرخ التونسي المتخصص في تاريخ العصور الوسطى الإسلامية، يسير نحو هذا الطرح مؤكدا أن دين برغواطة ما هو إلا نوع من المقاومة الأمازيغية ضد التعسف الذي مارسه العرب باسم الإسلام. فيما يذهب محمد حمام، أستاذ باحث في التاريخ الوسيط بجامعة محمد الخامس بالرباط إلى القول إن الديانة البرغواطية حاولت سن عقائد مضادة تجعل منهم “شعبا” بشخصية وهوية مستقلة كما تصوروها، فإذا كان في نظرهم هذا هو الإسلام، فيمكنهم أن يشرعوا عقائد أخرى مضادة، لكن الجدير ذكره حسب نفس المتحدث أن القبائل التي كانت تحت نفوذ برغواطة، لم تكن جميعها تتبع الديانة البرغواطية، بل إن أهدافا سياسية صرفة جعلتها تسايرها. فمن تكون الدولة البرغواطية؟ وما هي عقائد أهلها؟ وما صحة القرآن الذي ابتدعوه؟ وكيف ولماذا صمدوا في وجه أعدائهم؟ وما هي علاقاتهم بالدول الأخرى؟ ما هي الحوافز الحقيقية والأسباب العميقة الكامنة وراء إعلان برغواطة عن مشروع مذهبي ديني جديد؟ اختلف المؤرخون حول اسم برغواطة، هل هم من زناتة؟ أم خليط من العناصر، أم إنها تسمية لا تمثل قبيلة بعينها. 2406 واعتبر البكري في كتابه “المسالك والممالك” أن إقليم تامسنا كان مرتعا لقبائل زناتة وزواغة؛ وقد نجَم عن هذا التصور اختلاف المؤرّخين اللاحقين حول أصل البرغواطيين، فصاحب كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار” يقول “إنهم كانوا قوما جهالا من زناتة”. ولم ينسبها ابن عذارى في مؤلفه “البيان المعرب في أخبار الأندلس والمغرب” إلى زناتة، وأكد أن “برغواطة من قبائل البربر”، وكذلك فعل ابن حوقل في “صورة الأرض” حيث قال إن “قبيلة برغواطة من قبائل البربر على البحر المحيط”. ويرى البعض الآخر أن “برغواطة” لم يكن اسما لقبيلة معينة يجمعها أصل واحد، بل كان اسما لأخلاط من البربر اجتمعوا على شخص يهودي الأصل ادّعى النبوة وهو صالح بن طريف بن شمعون البرباطي، نسبة إلى الموطن الذي نشأ فيه وهو “برباط”، بالقرب من شريش، جنوب الأندلس. وسُمي من اتبع هذا الدين بربطيا نسبة إلى بربط. فعربت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط وبرغواطي وأضافوا إليها هاء الجمع فصار بوغواطه. وأضاف ابن دحية أن الاسم الحقيقي هو “بلغواطة”، وأن مفردة “برغواطة” باللام بدل الراء، وأن العامة يخطئون فيها فيقولون برغواطة.. ويبدو أن هذا المبرر للتسمية جاء من حيث الصورة اللفظية. ويُخالف ابن خلدون هذا الرأي الذي أورده عن صاحب كتاب “نظم الجوهر”، مؤكدا في “العبر” أن برغواطة قبيلة من المصامدة، وهم الجيل الأول منها. وكانوا المتقدّمين منهم قبيل الإسلام، وكان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة متفرّقين، وكانت مواطنهم في بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأسفي. وكان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صالح.. وأضاف: “ويغلط بعض الناس في نسب برغواطة هؤلاء فيعدهم من قبائل زناتة، وآخرون يقولون في صالح إنه يهودي وهو من الأغاليط البينة. وليس القوم من زناتة، ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. أما صالح بن طريف فمعروف فيهم وليس من غيرهم ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جذره دخيل في نسبه”.. غير أن قول ابن خلدون إنهم شعوب كثيرة متفرّقة وإشارة المؤرخين الآخرين إلى أن برغواطة ليست اسما لقبيلة معينة دفع البعض، أمثال عبد الوهاب بن منصور، إلى التأكيد أن الكلمة ليست لها دلالة سلالية وإنما تدلّ على نحلة دينية أطلقت على القبائل التي اتبعتها، فقيل لها برغواطة كما يقال للشيعة والخوارج والمعتزلة. غير أن اعتماد عدد من المؤرّخين لنصّ ابن خلدون يجعلنا نميل إليه لأنه أقرب إلى المنطق، إذ لا يمكن لهذه القبائل الخضوع لسلطة صالح، كما أن المؤثرات البرغواطية ظلت واضحة في مناطق المصامدة، ويؤكد ذلك الدكتور إبراهيم حركات “المجتمع الدكالي والفكر الديني” في مجلة “دعوة الحق” بقوله “أرجح تأكيد ابن خلدون لأن بعض المؤثرات البرغواطية ظلت حتى يومنا هذا في بعض مناطق المصامدة الجنوبية، مثل كراهية أكل البيض ووجود عدد كبير من المتضلعين في العرافة والسحر والاعتماد على التمائم والرقي في العلاج وطرد الشر”.. فكيف ظهرت هذه العقائد الغريبة؟ وكيف انتشرت بين البرغواطيين؟