بدأ التفكير فى بناء عاصمة جديدة للدولة المرابطية بدلا من أغمات التى ضاقت بسكانها من قبل أن يتنازل أبوبكر ابن عمر عن الإمارة ويرتحل إلى الصحراء، ومن ثم اتجه البحث عن مكان مناسب لها ثم تأجل المشروع حتى اقترحت زينب النفزاوية على زوجها الأمير يوسف ابن تاشفين أن يشيد المدينةالجديدة على أرض مجدبة تقع بين هيلانة وهزميرة وهو الاقتراح الذى تعجب له الجميع.. ذلك أن تلك المنطقة الخلاء المنخفضة والواقعة فى سفح جبل درن كانت معروفة بأنها أرض خربة فلم يكن بها زرع ولا ماء إلا من الحنظل وبعض الأشواك النابتة ولا يسكنها بشر لذا مثلت طويلا هاجسا أمنيا للقبائل المضطرة للعبور من خلالها فكانوا إذا دنوا منها يتعجلون السير ليقطعوها سريعا خوفا من مخاطرها وهم يتنادون «موروكاش.. موروكاش» أى مروا سريعا باللغة الأمازيغية، لكن الست زينب التى عاشت حياتها فى منطقة السوس الأقصى وخبرت من أسرارها ما لا يدركه مرابطو صنهاجة الصحراء وتميزت إلى جانب جمالها الفائق بالحكمة وبالذكاء وبالخبرة التى اكتسبتها من زواجها باثنين من أمراء برغواطة ثم باثنين من أمراء المرابطين حتى لُقبت ب«زوجة الملوك»، تلك السيدة التى أعزها الله بالإسلام كانت تعلم أن هذا الموقع الخرب المخيف يحوى فى باطنه خيرا كثيرا فقربه من وادى تنسيفت على مسيرة ثلاثة أيام رجح لديها وجود ماء جوفى وفير يمكن استخدامه للزراعة بعد حفر الآبار، كما أن نقل العاصمة إلى هناك سوف يؤدى إلى سيطرة المرابطين على جبل درن بما له من موقع استراتيجى يضيف إلى قوتهم الحربية، وهكذا بدأ الأمير يوسف يتلمس خطاه بناء على نصيحة الست زينب ثم كان بناء موروكاش أو «مراكش» درة المدن وعاصمة المرابطين التى سيرتبط بها اسم المغرب الأقصى على طول الزمان فتظل تعرف حتى يومنا هذا باسم «البلاد المراكشية».. وهكذا الإسلام ينشر الحضارة أينما سارت قافلته فكما صنع من فاندالسيا «بلاد الهمج» أندلسا يكفى نطقها لتتداعى إلى خيالك كل مفردات الحضارة من علم وتقدم ومدنية ورقى وفن وجمال، كذلك أحال أرض الخراب «مر سريعا» مراكشا تتلألأ حروفها نورا وبهجة لؤلؤة المغرب وعاصمته لقرن من الزمان وأهم مدنه حتى بعدما انتقلت العاصمة منذ عصر دولة الموحدين إلى «الرباط» ظلت مراكش العاصمة السياحية حتى اليوم، وما الرباط؟ أليست تلك المدينة التى بدأت بحصن بناة المرابطون وأطلقوا عليه ذلك الاسم الكريم تيمنا برباط ابن ياسين؟ أليست هى القافلة ذاتها.. قافلة التوحيد تمضى فى طريقها لتنشر فى ربوع الأرض أمنا وبركة وسلاما ورخاء؟ كان يوسف ابن تاشفين حين تزوج زينب النفزاوية قد قارب الستين من عمره دون أن يرزق بولد ولقد كانت الست زينب مسعودة بحق كما أخبره زوجها السابق ابن عمه أبوبكر ابن عمر فقد أنجبت له أول أبنائه وولى عهده المعز بالله ثم لما شيد عاصمته مراكش بناء على نصيحتها أخبرته بفراستها أنه سيملك المغرب كله وبذلت الجهد فى تجميع الجنود البرغواطيين والمال اللازم للإمداد العسكرى وكانت خير مرشد له ومعين، خاصة أن طبيعته كرجل أمازيغى حر لم تمنعه من وضعها حيث يجب أن تكون الزوجة شريكة الحياة، فالمجتمع البربرى ظل طوال تاريخه يضع المرأة فى مكانة عالية ولقد ذكرنا سابقا أنه كان مجتمعا ماترياركيا يمنح المرأة مركز السيادة فى الأسرة وينسب الأبناء لها وما اسم «لمتونة» قبيلة يوسف إلا اسم امرأة، ولقد جاء الإسلام فى المرة الأولى ثم بعد غربته الثانية فأقر لها بهذه المكانة وأحاطها بسياج يحميها من أن تنزلق إلى المهانة والصغار فتصبح مجرد جسد لإمتاع الرجال، لذا نجد قدامى المؤرخين يصفون مكانة زينب بقولهم: «كانت أميرة عند يوسف وكذلك جميع الملثمين ينقادون لأمور نسائهم ولا يسمون الرجل إلا بأمه فيقولون فلانا ابن فلانة ولا يقولون ابن فلان»، والمقصود بالملثمين بربر صنهاجة ومنهم المرابطون فقد كان الرجال لا يخرجون إلا ملثمى الوجوه بينما تسفر النساء عن وجوههن وما زال ذلك متبعا فى أحفادهم الطوارق الحاليين، وقد ذكر فى أسباب ذلك ما بدا لى مجرد أساطير غير موثقة وأعتقد أن طبيعة الصحراء الغربية بعواصفها الرملية الرهيبة هى التى أجبرت الجمالة الكبار على التلثم اتقاء للرمال الخانقة ثم أصبح الأمر عادة من الصعب التخلى عنها بل وأصبح كشف الرجل اللثام عن وجهه فى تقاليدهم عيبا مماثلا لكشف العورة فهم يقولون إن الفم يدخل منه الطعام إلى الجسم فيجب ستره كما يستر مخرج هذا الطعام!. بعد ثلاثة أعوام من الجهاد فى السودان الغربى وفى عام 468 ه يصيب أبوبكر ابن عمر سهم قاتل يرزقه الله به ما تمنى من الشهادة فيتسلم ابنه وقواد جيشه الراية ليواصلوا جهادهم لنشر نور الإسلام فى ربوع القارة حتى يصلوا إلى الجابون جنوبا وأفريقيا الوسطى شرقا، أما يوسف ابن تاشفين فينطلق من مراكش نحو الشرق والشمال مستهدفا توحيد البلاد تحت قيادة واحدة فبدأ بسياسة المهادنة التى تضمنت عقد تحالفات مع قبائل المغرب الزناتية من بربر البتر المسيطرة على بلاد السوس الأدنى وتمكن من ضم تامسنا التى كانت مقدمة لفتح مكناسة ثم فاس عاصمة السوس الأدنى وأهم مدن المغرب وقتئذ والتى عرفت بعد ضمها للدولة المرابطية استقرارا سياسيا افتقدته طويلا أنتج تنمية فى شتى المجالات فأمر ابن تاشفين ببناء المساجد فى كل أحيائها وأعاد تخطيطها وتمهيد طرقاتها وبنى فيها الأسواق والفنادق والحمامات فعرفت المدينة على يد أهل الصحراء من الجمالة الكبار من العمران الذى بلغ حد الترف فى أواخر أيام ابن تاشفين ما لم تعرفه مع حكامها من أهل الحضر، لكنه الإسلام حين تترسخ العقيدة السليمة فى نفوس أتباعه تأتيهم الدنيا راغمة فلا يتلهون بها وإنما تمضى قافلتهم ناشرة الخير والعدل والحق والرخاء على جانبى الطريق. وهكذا فتحت سائر دويلات المغرب التى وفد أمراؤها لمبايعة ابن تاشفين فوصلهم وأبقاهم على إماراتهم التى انضمت للدولة المرابطية المتوسعة جنوبا حتى قلب أفريقيا وشرقا حتى تلمسان ثم شمالا حتى سبتة وطنجة بالقرب من مضيق جبل طارق أو ما يطلق عليه «عدوة الأندلس الأفريقية»، هذه الإمبراطورية القوية أغرت مستشارى الأمير يوسف بأن يقترحوا عليه التسمى بلقب «أمير المؤمنين» لكنه رفض بإصرار.