فى غفلة من ألفونسو السادس ورجاله المطمئنين إلى تشرذم قادة الأندلس وعدم قدرتهم على الاتفاق على موقف موحد، تم إيفاد بعثة رسمية إلى مراكش عاصمة المرابطين تكونت من أبى بكر ابن زيدون وزير المعتمد وثلاثة قضاة هم: عبدالله ابن أدهم قاضى قرطبة رئيسا للبعثة وابن مقانا قاضى بطليوس وابن القليعى قاضى غرناطة وقد حملت معها رسالة طويلة من المعتمد ابن عباد إلى أمير المسلمين وناصرالدين كما خاطب ابن تاشفين فى ديباجتها يستنصره فيها ويدعوه للعبور إلى الأندلس أرض الجهاد لإحياء شريعة الإسلام، ومن الممتع حقا أنك تجد بجانب تلك الرسالة الملكية الموثقة والمؤرخة غرة جمادى الأولى عام 479 ه 1086م عددا من الرسائل التى حملتها البعثة من علماء الأندلس وقادة الفكر فيها تدعو المرابطين إلى الانضمام إلى مسلمى الأندلس الذين اعتزموا مقاومة القشتاليين وهو ما أثر بشدة فى نفوس المرابطين خاصة بعدما علموا بتفاصيل ما يقاسيه إخوانهم من هزيمة وقهر وترويع على أيدى التحالف الصليبى الهمجى. استقبل يوسف ابن تاشفين البعثة الأندلسية وأنزلهم فى دار الضيافة بمراكش حتى تتم المفاوضات بين الطرفين، وفى تلك الأثناء وفدت على الأمير عدة وفود من مسلمى الأندلس يستجيرون به من عدوهم فقابلهم بنفسه ووعدهم خيرا، والحقيقة أن ابن تاشفين لم يتردد لحظة فى الإسراع لنجدة إخوانه المسلمين فى الأندلس، وحين وصلته رسالة ابن عباد كان قد مضى على توليه إمارة المرابطين خلفا لابن عمه الأمير أبى بكر ابن عمر أكثر من أربعة عشر عاما توسعت خلالها دولته حتى أصبحت امبراطورية عظمى قوية غنية ومستقرة على نحو ماذكرنا، كما كان الأمير ذاته قد جاوز السبعين من عمره وآن للفارس الذى خاض المعارك أن يستريح، إلا أن أمير المسلمين وناصر الدين حقا لا لقبا أجوف فارغا أضمر فى نفسه أمرا أثناء لقاءاته مع البعثة الرسمية والوفود الشعبية فدعا أعضاء الهيئة الاستشارية للدولة للانعقاد حتى يعرض عليهم الأمر. ما كان أحد من المرابطين كبيرهم ولا صغيرهم ليحجم عن الاستجابة لداعى الجهاد فى سبيل الله وقد تأسست دولتهم على عقيدة سليمة ركناها التليدان الدعوة والجهاد، لذا فما أن عرض ابن تاشفين الأمر على مستشاريه حتى وافقوا بلا استثناء غير أن أحدهم هو عبدالرحمن ابن أسبط وهو أندلسى الأصل لفت نظر الأمير إلى أمر شديد الأهمية يتعلق بالطبيعة الجغرافية للأندلس كأرض ضيقة عرجة وعرة تعترض طرقاتها الجبال حتى أن من يدخلها يصبح أشبه بالسجين فلا يمكنه الخروج منها إلا تحت حكم صاحبها ونبهه إلى أنه ليس بينه وبين ابن عباد صداقة متصلة فلا يأمن منه بعدما تنقضى حاجته بالظفر من العدو، لذا نصحه ابن أسبط بأن يطلب من المعتمد أن يملكه الجزيرة الخضراء وهى أول أرض فى الأندلس تالية للمضيق حتى يستخدمها لحشد جنوده وأسلحته ويكون عبوره إليها فى الوقت المناسب له، وهنا يجيب أمير المسلمين على مستشاره قائلا بتواضع العظماء: «صدقت يا عبدالرحمن لقد نبهتنى إلى شىء لم يخطر ببالى، اكتب إليه بذلك»، وهكذا يرسل ابن تاشفين لابن عباد ملبيا دعوته للنصرة وطالبا إرسال عقود الجزيرة الخضراء، وقد استوقفتنى فى تلك الرسالة الطويلة فقرة يقول فيها أمير المسلمين لحاكم أشبيلية: «نحن يمين لشمالك انظروا لروعة العبارة ومبادرون لنصرتك وحمايتك وواجب علينا ذلك فى الشرع وكتاب الله تعالى... إلخ». أما الأمر الذى أضمره الأمير يوسف فهو عزمه على قيادة جيش الإنقاذ بنفسه رغم تقدمه فى السن وانشغاله بأحوال البلاد لذا قال لمن حاول إثناءه عن عزمه: «أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين ولا يتولى الأمر أحد إلا أنا بنفسى»، قالها وانطلق كشاب يحرض جنوده على القتال فى سبيل الله وأرسل فى أنحاء البلاد يدعو من يجد فى نفسه أهلا لهذا الشرف فتقاطر عليه المتطوعون من كل مكان يحدوهم الأمل فى نصر الله تعالى وفى استنقاذ الأندلس من مصير مظلم ينتظرها إن هى ارتدت لجاهليتها الأولى بعدما أنار الإسلام جنباتها ثم سطع نوره ليضىء للأوروبيين طريقا يتلمسونه للخروج من كهوف عصورهم الوسطى المظلمة. ولما وصلت عقود الجزيرة الخضراء إلى مراكش انطلقت منها قوة من الفرسان بقيادة داود ابن عائشة مدججين بالسلاح فعبروا المضيق وتمركزوا فى الجزيرة الخضراء بأقصى جنوب الأندلس ثم توالى عبور القوات حتى استكمل الجيش أهبته وأخذ استعداده وحينها آن لابن تاشفين وما تبقى من قوات تكونت من كبار رجال الدولة وزعماء القبائل وأمراء المناطق وذرياتهم الذين أثارت حماستهم مبادرة الأمير فتنافسوا فى الانضمام لجيش يقوده بنفسه، وبذلك بدأ العبور الثانى العظيم للبربر المسلمين الذين مروا من هذا المضيق بقيادة طارق ابن زياد قبل ما يقرب من أربعة قرون مضت رافعين راية التوحيد ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ها قد عاد الرجال الذين لا يصلحهم سوى الإسلام وحده.. عادوا وفى صفوفهم إخوانهم المسلمون من جند السودان الغربى الذين دخلوا فى دين الله على يد المرابطين.. هكذا عاد الرجال رهبان الليل فرسان النهار ليسطروا صفحات المجد من جديد فى سفر التاريخ الإنسانى. حين استوى ابن تاشفين على ظهر سفينته رفع كفيه إلى السماء ثم دعا قائلا: «اللهم إن كنت تعلم أن فى جوازنا هذا إصلاحا للمسلمين فسهل علينا هذا البحر حتى نعبره، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا نجوزه»، ويسر الرب تبارك اسمه لأمير المسلمين وجنده العبور حتى نزلوا الجزيرة الخضراء فوجدوا فى استقبالهم المعتمد ابن عباد وأمراء الجنوب الشرقى الأندلسى، غرناطة وألمرية وبلنسيه الذين وضعوا أنفسهم تحت إمرته ليقود معركتهم دفعا للتحالف الصليبى فى معركة من أروع وأهم وأجل المعارك فى التاريخ الإسلامى كله والتى لا تقل فى أهميتها عن موقعة الفتح الأندلسى «وادى لكة» حيث أمدت فى عمر الدولة الإسلامية فى الأندلس ما يزيد على أربعة قرون أخرى لم تكن إضافة إلى التاريخ الإسلامى وحده وإنما كانت سببا فى تعديل مسار التاريخ الإنسانى بأكمله.