مع نهايات القرن الأول الهجرى وبدايات القرن الثامن الميلادى انطلق القائد المسلم طارق ابن زياد على رأس جيش بلغ اثنى عشر ألف رجل من البربر من مدينة سبتة بأقصى شمال المغرب عابرا الممر البحرى بين قارتى أفريقيا وأوروبا مضيق جبل طارق فاتحا الأندلس ناقلا قبسة من نور الإسلام من صحراء المغرب إلى بلاد الهمج لتصبح بفضله حاضرة أوروبا الزاهرة. ومع بدايات القرن الخامس الهجرى ونهايات القرن العاشر الميلادى أى بعد ثلاثة قرون فقط تصيب المسلمين على جانبى المضيق ذاته آفة الاختلاف والتفرق وتمزيق أواصر الدولة والدخول فى نفق الطوائف المظلم، فتتمزق الأندلس إلى دويلات يتقاسمها المولدون أهل البلد الأصليين والعرب والبربر من الفاتحين والمهاجرين، بينما تتمزق المغرب إلى أشلاء يتقاسمها السكان الأصليون البربر وينازعهم عليها عرب ليسوا كالعرب الفاتحين الذين جاءوا ينشرون النور والهدى والرحمة فى ربوع المكان وإنما ينتمون إلى معدن آخر ويعتنقون فكرا ومنهجا لم يتسبب فقط فى تمزيق أواصر الدولة الإسلامية القوية فى المغرب وإنما تسبب فى إخراج البربر من دين الحق الذى دخلوا فيه أفواجا مع استبقاء لافتة الإسلام مرفوعة دون محتوى حتى قال عنهم العلماء ومنهم ابن خلدون إنهم فى تلك المرحلة من التاريخ كانوا قد خرجوا بأفعالهم من الملة الإسلامية.... لكى نفهم مقصد المعتمد ابن عباد من قولته التاريخية «رعى الإبل خير من رعى الخنازير» يحسن بنا أن نعبر مضيق جبل طارق عائدين إلى صحراء المغرب الكبرى التى لم تتغير سماتها الطبيعية مذ تركها القائد البربرى المظفر قبل ثلاثة قرون: فمازالت شاسعة الاتساع قليلة السكان قاحلة شديدة الحرارة عديمة المطر بكثبانها الرملية الجدبة المترامية تضربها الرياح الساخنة فيضطرب سطحها كموج البحر الذى يتنقل من مكان لآخر حاملا معه التصحر والبوار، ومازال رعاة الإبل «الجمالة الكبار» يقودون قطعانهم عبر آلاف الكيلومترات القاحلة الممتدة فى جميع الاتجاهات يتلمسون العشب والماء. غير أن الزمان دار دورته وبدلا من موسى ابن نصير القائد السياسى البارع الذى أدرك طبيعة البربر العصية على الاحتواء الأبية على احتمال الظلم والقهر والاستبداد فاستطاع خلال ولايته أن يصنع من هؤلاء الجمالة النافرين جيشا نظاميا قويا كان طليعة العبور إلى أوروبا وفتح الأندلس، يفد إلى المغرب من الولاة العرب المتعصبين من يهدم أسس العدل والمؤاخاة الإسلامية التى أرساها ابن نصير، فيقع الصراع بين العرب والبربر منذ مرحلة مبكرة كنتيجة للسياسات الفاشلة ليزيد ابن أبى مسلم وبشر ابن صفوان ثم يصل الاحتقان إلى ذروته فى عهد عبيدالله ابن الحبحاب الذى لجأ إلى استخدام العنف المقيت فى ردع ثورات القبائل البربرية حتى غزا ديارهم وسبى نساءهم فانفجر الوضع بين الطرفين وحدثت فتن متعاقبة كان لها مردودها السلبى ليس فقط على بلاد المغرب بل امتدت إلى الأندلس التى هاجرت إليها جماعات ناقمة من البربر فتحالفوا مع عرب اليمن ضد عرب الشام الذين ينتمى إليهم ولاة المغرب وتسببوا فى الفتن والقلاقل التى أنهكت الحكومة الأموية فى الأندلس وكانت السبب المباشر لتمزق الدولة ولسقوط عاصمتها طليطلة. هناك نصيحة يسوقها الخبراء لصاحب الجمل الذى يعتدى عليه بالضرب أو الإهانة وهى إما أن يبيعه أو يذبحه إذ الجمل حيوان ذو كرامة ونخوة وإباء فإن أهانه صاحبه فإنه يختزن حقده داخله مهما طال الزمن حتى تأتى اللحظة المناسبة فينتقم انتقاما مروعا لا يقل عن سفك دماء من أهانه، ولرعاة الجمال الخصيصة ذاتها فهم البربر الأحرار ذوو الإباء لم تروضهم وتستخرج من نفوسهم أروع ما فيها إلا مبادئ الإسلام العادلة السامية التى تحرر الإنسان من كل عبودية إلا عبوديته لله عز وجل، لذا فالبربر فى كل زمان لا يصلح معهم ولا يصلحهم سوى تطبيق النظام السياسى الإسلامى القائم على العدل ونبذ العنصرية والذى يجعل منهم قوة فاعلة تضاف إلى المجتمع وليس عبئا يعرقل مسيرته كما فى فترات الضعف والانحلال والاستبداد بالناس وظلمهم تحت راية الإسلام. وهكذا تسبب استبداد الولاة وعشوائية سياساتهم فى أن تصبح منطقة القبائل مرتعا خصبا لحركات الانفصال المناهضة لدولة الخلافة حتى مع تناقض منطلقاتها الشرعية، فمن الخارجية الإباضية إلى التشيع الإسماعيلى الفاطمى انحرف مسار البربر بعيدا عن النهج الإسلامى القويم، إنه الانتقام البربرى المروع الشبيه بانتقام الإبل ذلك الذى أدى إلى أن تنشأ فى بلاد المغرب نواة الدولة الفاطمية على يد الداعى أبى عبدالله الشيعى وهى الدولة التى نشأت حسب الاعتقاد الإسماعيلى فى غيبة الإمام المهدى المعصوم الذى ادعوا ظهوره فى شخص عبيدالله المهدى أول الخلفاء الفاطميين والذى نسب نفسه لآل بيت النبوة من ذرية السيدة فاطمة الزهراء رضى الله عنها. غير أن موقفا طريفا حدث عندما خرج الداعى على رأس وفد من أعيان القبائل لاستقبال الإمام المهدى عند قدومه إلى المغرب ألقى فى نفوسهم بذرة مبكرة من النفور من هذا الاتجاه برمته، فقد فوجئ القادة بالداعى الشيعى الذى وقروه وقدموه وأعلوا مكانه بينهم ينزل عن دابته منكبا على يدى وقدمى عبيدالله المهدى يقبلهما ثم يتمسح بقوائم دابة سيده فى خضوع مذل مهين وإذ به يلتفت إلى رءوس القبائل قائلا لهم: «هذا مولاى الإمام فهو مولاكم»، هالهم الموقف وبدا ذلك واضحا على ملامحهم المشمئزة النافرة فتنبه عبيد الله وقال لداعيه بدهاء: «بل قل لهم هو المهدى ابن المهدى سلالة الهداية»... كانت بذرة الشك والنفور قد أُلقيت فى نفوس قوم دخلوا قبل زمان طويل فى دين جاء ليحرر البشر كلهم من عبودية البشر كلهم وليعبّدهم لرب واحد لا شريك له، دين قال رسوله لرجل اضطرب من فرط هيبته صلى الله عليه وسلم (هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)، فما بال رجال يأتون ينسبون أنفسهم لهذا الرسول الكريم صدقا أو زورا يرضون لأتباعهم أن يصنعوا بهم فوق ما تصنع الأعاجم بملوكها؟ لذا فما كاد المستور ينكشف ويتخلص الإمام من داعيه بقتله قتلة شنعاء بعد انتهاء مهمته حتى ثارت النفوس ممهدة لتحول سياسى مهم.