عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محفوظ يكتب:أحلام «طريفة»
نشر في الدستور الأصلي يوم 11 - 06 - 2010

أفريقيا ما زالت تعاني من آثار الاستعمار الأوروبي.. وإسبانيا تتصدق عليها بمهرجان للسينما الأفريقية

رأيتُ أفريقيا بالعين المجردة دون أن أبرح مكاني في أوروبا.. ولّيْتُ ظهري لمدينة طريفة الإسبانية، وجلستُ علي شاطئ مضيق جبل طارق أراقب بانبهار البيوت المغربية المتناثرة حول أسوار مدينة طنجة علي الضفة الأخري.. لا يوجد ما هو أقرب من هذه البقعة الأوروبية إلي القارة السمراء.. تبحر البواخر بين الساحليْن كأذرع تمتد للمصافحة كل يوم عشرات المرات.. يكاد صخب المدينتين يختلط في الأجواء وهو يرتفع بهتافات الصيد نهاراً وقرع الطبول ليلاً، وتحمل الرياح النشطة في ملتقي البحر والمحيط نداءات التقارب الثقافي بين الأمتين الأفريقية والأوروبية..
لن تجد مفراً من الاستسلام لهذه الانفعالات والخواطر إذا كنت معي في طريفة الأسبوع الماضي، ضيفاً علي مهرجان للسينما الأفريقية، وحولك فخفخينا من الوجوه البيضاء والسمراء تتبادل نظرات الود وعبارات المديح وطرقعات القُبَل.. في لحظة ما تصدق أن القارتين صارتا واحدة بفعل هذه المشاعر المتدفقة في الساحات وبارات الأزقة خلال أمسيات الفلامنكو علي الإيقاع الأفريقي! ترغمك النهود الإسبانية المرتعشة مع دقات الدفوف علي النظر في الأمر! تُسكِرك النسمات الرقيقة فتنسي التاريخ والسياسة، ثم تُرخِي جفنيك وتردد مع «ماني سيزنيروس مانرِك» نشيداً وطنياً جديداً من خيالها ينادي بوطن أورو أفريقي واحد... «ماني» ليست ديبلوماسية أو مدفوعة من مخابرات بلادها لاحتواء الأفارقة.. إنها مديرة المهرجان التي أسسته قبل سبع سنوات، وتجمع حولها فريقاً من المخلصين للفن السابع، بعضهم من أصول أفريقية، والبعض الآخر يميل مثلي إلي ذوات البشرة الداكنة!
قابلتُ «ماني» في نواكشوط العام الماضي عندما كنتُ عضوا في لجنة تحكيم مهرجان الفيلم الموريتاني، بينما كانت هي تجوب أحياء ونجوع العاصمة الفقيرة بآلة عرض سينمائي في الهواء الطلق جاءت بها براً من إسبانيا.. كان المشهد لا يوصف، الفتيات والصبية ينبذون فجأة دُماهم القطنية والخشبية، والسيدات يغادرن عتبات أكواخهن، والرجال يتذرعون بطلب الراحة من غزل شباك الصيد، ويهرع الجميع نحو تلك الشاشة السحرية التي أضاءت لهم ظلام الحي.. صورتُ الدهشة في هذه العيون لتقرير لم يبث، لكنني أشعر بالامتنان ل «ماني» وزملائها كلما راجعت هذه اللقطات..
لذلك لم أتوان في تلبية دعوتها لحضور مهرجانها الأفريقي في طريفة، ملهَماً بعشقيْن: عشقٍ لأفريقيا التي زرت نصفها، وعشقٍ للسينما التي تحتلني بالكامل.. استهوتني فكرة العناق الثقافي والجغرافي بين القارتين في تلك المدينة الأندلسية القديمة.. ولم لا؟ ألا يتعطش الكثير منا لسلام مع الغرب يجلب المعونات ويمول المشروعات ويوفر القروض؟! لكن.. ما أن مضي يومي الأول في الاستماع إلي الإشادات والوعود وتبادل بطاقات التعارف، حتي عادت إليّ أسئلة تاريخية أخري، جلست هنا علي شاطئ المضيق حيث أكتب هذه السطور أبحث لها عن إجابات، بينما أحاول بين فقرة وأخري تقريب عدسة الكاميرا إلي حدها الأقصي، باحثاً علي الشاطئ المقابل بفضول عن سيدة مغربية تنشر غسيلها، أو طفلٍ يلهو بطائرته الورقية...
كان فيلم (باب ستة) الذي شاهدته بالأمس هو الذي أيقظني من بِنْج المهرجان، الفيلم الذي أخرجه البرتغاليان بيدرو بينهو وفديريكو لوبو يروي في قالب وثائقي قصص شبان وفتيات من شتي الأجناس الأفريقية تجمعوا علي أبواب مدينة سبتة، استعداداً للتسلل عبرها خفية إلي عالمهم المأمول في قارة أوروبا.. ما أكثر هؤلاء! بين عامي 1996 و2006 تضاعف عدد المهاجرين غير الشرعيين منهم إلي إسبانيا وحدها من خمسمائة ألف إلي خمسة ملايين، طردَت الحكومة الإسبانية منهم نحو ستين ألفاً عام 2007، وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة مع ارتفاع نسبة البطالة في إسبانيا إلي عشرين بالمائة بسبب الأزمة الاقتصادية أخذت المشكلة أبعاداً «دراماتيكية» كما تقول منظمات حقوق الإنسان بسبب قسوة السلطات الإسبانية في التعامل مع هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين... تعلم «ماني» هذه الأرقام، وتعلم أن بلادها وقّعت اتفاقيات مع سبع دول أفريقية أملاً في لعب دور الشرطي لحماية حدودها، لكن ما حك ظهرَك مثلُ ظفرك.. هكذا يقول الأسبان أنفسُهم، حتي المتحمسين منهم لما سمي بمشروع مارشال لمواجهة الهجرة عن طريق دعم اقتصادات الدول الأفريقية المصدّرة لها...
أي مشروع هذا الذي قد ينتشل أفريقيا من مستنقعها البائس؟ إن هؤلاء يضعون خططهم علي الورق وهم جالسون في غرفهم المكيفة! هل ذهبوا إلي الصومال مثلاً؟ هل شاهدوا كيف أبيدت الدولة هناك عن بكرة أبيها؟ أنا ذهبْتُ إلي هناك مرتين، ورأيتُ كابلات الكهرباء وقد اقتلعت من الأسفلت كي تغرق البلاد في الظلام وتختفي عن الأعين جرائم القتل وضحاياها من الأبرياء.. هل ذهبوا إلي جنوب السودان؟ ذهبتُ أيضاً إلي هناك، وأرشدني جون قرنق قبل اغتياله وقتها إلي أبناء جلدته الموشكين علي الفناء جوعاً وقهراً في القبائل والقري المهمشة.. هل ذهب الطامحون الأوروبيون إلي الكونغو وشاهدوا جثث المدنيين ملقاة في الشوارع بفعل الأمراض وسوء التغذية، والنزاع العسكري بين الحكومة والمتمردين، كلٌ مدعوم ببعض جيرانه علي الحدود..
وماذا عن أريتريا التي شاهدتُ فيها الفقر ولمستُ القمع حتي بعد أن وضعَت الحربُ أوزرَاها بينها وبين جارتها إثيوبيا بسنوات؟ وساحل العاج؟ وبروندي؟ وأوغندا؟ وليبيريا؟ وأنجولا؟ وتشاد؟ والسنغال؟ ناهيك عما فعله الإرهاب في الجزائر، والفتنة الدينية في نيجيريا، والانقلابات في موريتانيا، وغيرها الكثير والكثير...
هل يعرف الإسبان كم أهدرت أفريقيا في تلك الحروب والنزاعات؟ أكثر من خمسمائة مليار دولار... كم من هذا المبلغ يمكنك يا «ماني» أن تدفعي إذا كنت بحق تحبين أفريقيا؟
مهرجان لطيف! كانت هذه هي إجابتي الشافية علي زميلتي في «بي بي سي» عندما سألتني علي الهواء عن رأيي فيه.. مهرجان شيق.. مهرجان مسلٍ.. مهرجان دمه خفيف.. لكن ما الذي يمكن أن تقدمه هذه المغازلات الأوروبية لشعوبنا المهروسة تحت أقدام حكامها؟ تضم قائمة المغازلات غير هذا المهرجان الحافل مشروعاتٍ لتمويل الأفلام وتطوير الفلاحة ومؤتمرات لجذب الاستثمار، بناء كنائس كتلك التي زرتُها في جوبا جنوب السودان للتبشير والتعليم والرعاية الصحية، منظمات إغاثة، «مراسلون بلا حدود»، «أطباء بلا حدود»، طموحات بلا حدود.. وعود بلا حدود.. لكن مشكلة أفريقيا هي هي، بل تتفاقم وتزداد توحشاً.. ولا تريد لها إسبانيا أن تُحَل إلا لكي نخرج من دماغها، ولا نريها وجوهنا أبداً.. لكي نبقي في بلداننا السقيمة إذا توفر فيها الحد الأدني من متطلبات العيش، من وجهة نظر عزيزتي «ماني»...
وأمثال «ماني» طمّاعون، لا يرغبون فقط في أن يتخلصوا منا للأبد، بل يريدون منا أن نحبهم.. يأتون بنا من الضفة الأخري للمضيق، ويحجزون لنا الفنادق الفاخرة، ويوفرون لنا أشهي صنوف الطعام، ويدلعوننا مساء في البارات بالرقص والطبول، ثم يُشِيدون بإبداعات صناع الأفلام المبتدئين من أفقر بلدان أفريقيا.. من أجل أن نقول: ما أطيب هؤلاء! إنهم يؤمنون بقضيتنا، ويسعَوْن بحق لمساعدتنا.. إن معوناتهم لنا لا تتوقف.. جزاهم الله خير الجزاء..
لكن ماذا عن الفاتورة المنسية؟ الفاتورة التي تتبرأ منها أوروبا، رغم أن الدليل علي شرعيتها في كل بيت أوروبي يتزين بتحف أفريقية أصيلة، أو يستظل بشجرة اقتلِعَت بذرتها النادرة من التربة الأفريقية، أو يستثمر في تجارة يعود تاريخها لنهب ثروات أفريقيا واسترقاق أبنائها.. الفاتورة المنسية ثقيلة، ولو فتحت دولة أوروبية واحدة فاتوحة سدادها، ستنقلب الآية، ونبدأ نحن في تنظيم مهرجان لتشجيع الأفلام الأوروبية الناشئة في طنجة!
الفاتورة بنودها لا تحصي ولا تعد.. نريد دية عن كل نفس أفريقية قتلت في عهد الاستعمار، وتعويضاً عن كل مصاب في ذلك العهد، ترك جرحه عاهة أو لم يترك.. نريد تعويضاً عن التجار المسلمين في شمال أفريقيا الذين جردتهم إسبانيا والبرتغال من أملاكهم وتجارتهم وسجنتهم في القرن الخامس عشر لإقصائهم عن سوقهم الطبيعي في بلدان شرق أفريقيا، فحرمتهم وحرمت أحفادهم من العيش الكريم.. نريد استرداد سبتة ومليلية اللتين تحتلتهما إسبانيا من المغرب منذ العام 1497، نريد حقنا في المياه والنفط والمعادن التي شُحِنت إلي دول أوروبا ونحن نئن من بطش احتلالها وغير قادرين علي رفع رءوسنا.. نريد نصيبنا في كل طفل أوروبي تعلم علي حساب جهلنا، وكل مريض أوروبي عولج علي حساب أمراضنا وأوبئتنا، وكل بناء أوروبي شُيّد بسواعد أحرارنا المستعبدين.. نريد ما هو أكثر من مجرد مهرجان وحفل صاخب وبطاقة تعارف عليها كود إسبانيا.. نريد اعترافاً بحقوقنا التي نُهِبَت في عقود الاستعمار، وفضحاً للأنظمة العميلة، التي ما زالت تقتات من هذه الدول الاستعمارية لمواصلة امتصاصنا واسترقاقنا.. وردّاً لكل قرش سُرق من جيوبنا ونحن أذلة مجردون من السلاح.. وقبل كل ذلك نريد رد اعتبار يفوق وجبة غداء علي شاطئ مضيق جبل طارق أو كوبون مشروب مجاني كالذي رفضتُ تسلمه من المهرجان.. نريد حقنا في الريادة علي العالم، نحن الأحق بمقعد دائم في مجلس الأمن، نحن الأولي بحق الفيتو، نحن الأجدر بالقوة والاحترام.. لم تتكبد أمة في العالم أشد مما تكبدته أفريقيا.. الأفارقة يعرفون معني الفقر والأمية والعزلة والموت جوعاً.. نحن الذين قُطِعت أيدينا كي لا تحمل السلاح، وجُرّفت حقولنا كي نكف عن المقاومة.. واغتصبت نساؤنا كي ننكسر ولا نجرؤ علي رفع أصواتنا، لكننا مع ذلك تحررنا بشرف وحققنا الاستقلال، ولم يكن ذلك علي حساب أحد، ولم ننهب في سبيله حقوق أحد.. ألا ترين معي يا «ماني» أن الموضوع أكبر من مجرد مهرجان، وأكبر من كل هذه المشروعات الأوروبية ذات العناوين الرنانة من أجل ما تسمونه مساعدة أفريقيا؟
«ماني» مشغولة.. تركتُها مع مساعديها هذا الصباح علي مقهي في شارع شانتشو أل برافو منهمكة في تقييم العروض ودقة تنفيذ المهرجان، وواصلتُ طريقي باتجاه كنيسة القديس متّي التي تتصدر الشارع الضيق.. كانت أوجاع أفريقيا لم تستيقظ في قلبي بعد.. دخلتُ إلي الكنيسة برغبة سائح يطابق ما قرأه عن معالم المدينة مع الواقع البديع.. هذه الكنيسة شيدها الإسبان في القرن السادس عشر علي الطراز القوطي وأعيد تصميم واجهتها في القرن الثامن عشر.. لا تختلف الكنيسة عن الكنائس المسيحية التي زرتها في بريطانيا، لا شك أن نقوشها لافتة، وزخارفها المطلية بالذهب تخطف الأبصار، وهو ما آخذه علي أتباع دين تكمن عظمته مثل الإسلام في دفاعه عن الفقراء والمسحوقين.. لكن ما عكر صفو زيارتي أنني أخرجت من جيبي صفحة مطبوعة من الإنترنت حول معالم المدينة لأراجع تاريخ الكنيسة، فإذا بي أكتشف أن هذه الكنيسة بالذات بنيت علي أطلال مسجد من العصر الأندلسي، كما هو الحال مع كنيسة القديسة مريم الملحقة بقلعة جوزمان بجوار ميناء طريفة، والتي شيدت هي الأخري علي أنقاض مسجد من القرن العاشر الميلادي.. يا له من صباح! هل كان عليّ أن أتذكر خيبتنا في طريفة؟ وكْستنا نحن العرب والمسلمين تلاحقني حتي في أقصي الجنوب الأوروبي؟
جلست علي إحدي الأرائك الخشبية الأنيقة في صحن الكنيسة، ممعناً النظر في المحراب الحافل بالشموع، وشارداً في تاريخ الأندلس الذي لم يعد البكاء عليه شيقاً.. تذكرت الحقائق كمن يردد نصاً أُعِد سلفاً.. جاء القائد الشاب طارق بن زياد إلي هذه البلاد في القرن الثامن وضمها للدولة الأموية.. بعد سنوات قليلة كانت الفتوحات قد امتدت شمالاً إلي وسط فرنسا وغرب سويسرا، وغرباً إلي لشبونة.. كما كانت الفتوحات الموازية في أفريقيا قد بلغت قلب القارة وضمت خيرة أبنائها إلي جيش الدولة العتيد.. لكن الثقافة كانت دائماً هي الحلم في قلوب الحكام الأمويين خلال أكثر من مائتي عام، من صقر قريش إلي هشام بن الحكم.. ازدهر الأدب والفن والعمارة، وشُيّد مسجد قرطبة، وأحيطت المدينة بأسوار عالية وأنشئت بها المدارس والمنتديات والمكتبات والحدائق، وكانت تضاء ليلاً بمصابيح الإنارة لمسافة ستة عشر كيلو متراً... ثم زرع شيطان الضعف والأفول بذرته في نفوس أمراء الأندلس، فأعلن كل منهم استقلاله بإحدي دويلاتها، مما أغري بالهجوم الإسباني الكاسح، وسقطت غرناطة عام 1492، ومعها سقطت الأندلس وحلم القوة العربية إلي الأبد..
أطرقتُ برأسي في حسرة معتادة، نظرت بعمق تحت قدميّ وكأني أريد أن أنبش في الأرض.. يا تري كم من المسلمين قتل هنا؟ وكم من الدماء أريقت في المسجد المهدوم؟ وماذا كان دعاء المقتولين؟ وعلي من؟ وهل هو نفس دعائنا اليوم علي قادتنا الضعفاء الفاسدين؟ ارتفع بنيان الكنيسة علي بقايا المسجد، وشاخت الكنيسة فأعاد الإسبان تجميلها.. ثم بَهَتَ لونها من جديد وبدت علي وجهها آثار الزمن، وسوف يعاد ترميمها بالتأكيد.. أما نحن فشيخوختنا مصير لا نهائي، هي محطتنا الأخيرة التي سنبقي فيها إلي يوم القيامة.. منذ نهاية القرن الخامس عشر لم تقم لنا قائمة.. نتقدم للوراء، ونخسر كل يوم أرضاً جديدة.. حتي ماء النيل صار بعيد المنال.. فقدنا الأندلس في أوروبا، ونفقد النيل في أفريقيا، ولم يعد لنا أصدقاء في القارتين، إلا من تجمعه بحكامنا مصلحة شخصية تضمن لهم البقاء..
خرجتُ من الكنيسة بنقمة بالغة علي حالنا، وببعض الصور الفوتوغرافية، لعلي أدقق فيها لاحقاً فأجد أثراً لمنبر أو مشكاة!
رحلتي إلي طريفة كشفت لي مقدار الفشل المحيط بأمتنا العربية والأفريقية علي السواء.. واستعلاء أوروبا وتنصلها من مسئولياتها الحقيقية تجاهنا.. وقناعتنا الساذجة نحن العرب والأفارقة بفعاليات أوروبية تصحح قشور أخطائهم بحقنا.. لكننا ننسي دائماً لب المأساة، أما هم فيتناسون..
تحلم إسبانيا بأن تعالج مرضاً فتاكاً بحبة إسبرين.. تفخر كشقيقاتها في أوروبا بمكانة المنتصرين، وإللي عندنا نعمله.. ما الذي ينبغي عليها فعله أكثر من مهرجان للسينما الأفريقية؟ ستتناقل وسائل الإعلام الخبر، وتتردد سيرتها الحسنة علي كل لسان كراعية للفن الأفريقي، ومُحَفِزة للمبدعين الأفارقة علي البقاء في بلدانهم وإصلاحها من الداخل.. حتي شبر الأرض الذي يحلم به مهاجر أفريقي بائس طمعاً في حياة أفضل لن يحظي به.. بالأمس دخل الأوروبيون بلادنا وعاثوا فيها فساداً ونالوا منها كل ما أرادوا.. واليوم حرام علي الأشقياء المحرومين أن يستردوا من حقوقهم قطرة..
الحال كله مقلوب.. لا علي أوروبا أن تفتح أبوابها لكل من هب ودب، ولا علي أبنائنا أن يخاطروا بحياتهم مهاجرين متسللين متسترين بالظلمات.. لكن علي أوروبا فقط أن تسدد ديونها لنا، وعلي حكوماتنا أن تكف عن التبعية والمزايدة، وتتخلص من لعنة أمراء الأندلس المهزومين...
وقبل ذلك لن تكون الوحدة بين الأمتين الأفريقية والأوروبية صادقة.. ولن يتحقق حلم طريفة في دمج القارتين في مدينة واحدة، حتي لو كانت بهذه المياه الصافية، والرمال الناعمة، والهواء العليل...
أترك القلم جانباً لأليّن أصابعي المجهدة من الكتابة.. أمسك بالكاميرا وأصوبها باتجاه طنجة.. أقترب بالعدسة أكثر فأكثر... لماذا لا أري سيدة تنشر غسيلها أو طفلاً يلهو بطائرته الورقية؟
رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.