د/ محمد مسعد اليمانى اتخذت صور الاستعمار في القرن الواحد والعشرين صورا ومفاهيم ومضامين جديدة لم تكن معروفة ومأهولة من قبل , ذلك أن تطور المجتمعات والشعوب وانفتاحها لم يعد شيئا صعب المنال في ظل العولمة وانحسار الحدود , فما كان مستحيلا بالأمس أصبح ممكنا اليوم . ومن هنا فقد غير الاستعمار نظرته وطريقته في التعامل مع الشعوب الأضعف والأدنى , إذ لم يعد يظهر عليهم بذلك الوجه الكالح المعالم , بل أصبح يظهر في أشكال أكثر بهاء وإشراقا تموج بالحيوية والنشاط , يطل بخبث ودهاء على الشعوب بعيدا عن قوى القهر ونفوذ السيطرة العسكرية واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية . فقد غير جلده ليكون أكثر مكرا وذلك بالتحول إلى نظرية " الإستحمار الجديد " وذلك بتحويل مسار الشعوب والدول الضعيفة ودفع وتغير مسارها عن مهمتها الأساسية , فبدلا من قيام تلك الدول بتحريك طاقاتها نحو الإصلاح الحقيقى وزيادة الوعي والشعور لدى شعوبها بضرورة النهوض والتقدم ودفع عجلة التنمية , قامت بالانصياع لتوجيهات وتوجهات القوى الاستعمارية الجديدة نحو تنفيذ مخططات الإستحمار الجديد القائم على نظرية مفادها " الإستحمار التام أو الموت الزؤام " . حيث قامت القوى الاستعمارية المعاصرة على إرساء مفهوم " الإستحمار الجديد " الذي يقوم بالعمل على زيادة الغباء والاستغفال وتوطينه في الدول الضعيفة , لتصبح تلك الصفتان " الغباء والاستغفال " من متلازمات تلك الدول , ومن ثم تقوم القوى "الإستحمارية الجديدة " بتغيير الخطط والرؤى والبرامج الإصلاحية بتلك الدول الغائبة مقدراتها وتحويلها إلى خطط إستحمارية طويلة المدى تزيد من غباء واستغفال تلك الشعوب ومن ذلك تزييف المعتقدات وطمس الهوية وتجميد الفكر وزرع الفتن والهاء العقول بتوافه الأمور والجري وراء الخرافات . وقد دعمت نظرية "الإستحمار الجديد" أركانها بعدد من المنهجيات التي تبنتها ومن ذلك : 1- إغراق الخصم في الديون : وذلك بفتح الباب على مصراعيه أمام الدول النامية الضعيفة على سد احتياجاتها من خلال الاقتراض والمساعدات والمنح , والتي في ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب , فتلك المساعدات والمنح ما هي إلا استغلال واستعباد لتلك الدول الضعيفة , بما تحمله من أشكال صارخة في أعباء الديون وفوائد خدمة الدين , ناهيك عن تعدد صور الإقراض المجحفة سواء كانت من خلال حكومات الدول القوية أو من خلال مؤسسات الإستحمار الجديد والتي أنشأتها أيضا الدول القوية ومن ذلك : صندوق النقد الدولي , البنك الدولي , البنك الدولي للإنشاء والتعمير ,..... الخ . وقد انقادت الدول الضعيفة ورضخت للشروط المجحفة لتلك القروض والمساعدات , مما أثر بالتبعية على الهياكل التمويلية والسياسات النقدية والخطط والإصلاحات الاقتصادية لتلك الدول , ووجهت تلك القروض بما يخدم مصالح الدول الاستعمارية في شكلها الجديد , حيث استنفذت تلك القروض والمساعدات طاقات الدول النامية من خلال صرفها على إصلاح ما خلفته الدول الاستعمارية الكبرى من تخلف ودمار للبنية التحتية وهدم للصناعات الوطنية , ناهيك عن استغلال جزء كبير من تلك القروض في عمليات التسليح العسكري , فأصبحت تلك الدول النامية غير قادرة على تحمل تبعات تلك الديون فعجزت عن سداد أصول الدين وفوائده وأصيبت بإختلالات هيكلية في نظمها الاقتصادية والمالية مما حدا بها الدخول في دائرة التبعية للدول الكبرى, ومنقادة لتنفيذ سياستها الإستحمارية الجديدة . 2-التجارة بالدين والصراعات المذهبية : حيث تحول الصراع من الصراع مع العدو ( الجهل– البطالة – الفقر- ..... الخ ) إلى صراع داخلي طائفي, مذهبي , عرقي , فنشبت الحروب والصراعات والاقتتال الداخلي بين أبناء البلد الواحد , فسادت الظلامية وظهرت الأفكار الدينية والمذهبية المتطرفة التي أبعد ما تكون عن فقه الواقع مما كان له أثر واضح وانعكاسات مباشرة على وحدة الدولة واستقرارها , وتدخلت الدول الكبرى كطرف في تلك الصراعات من خلال نشر الأكاذيب الدينية مع مزجها بصحيح الدين ليتوه أطراف الصراع بين الحق والباطل , مع تأجيج الصراع والانحياز لطرف دون طرف ومناصرة فصيل مقابل آخر ,مع تكريس جهودها من خلال أدعيائها على تجفيف منابع الدين وإفراغ الدين والمعتقدات الراسخة من قدسيتها, مع تسخير أدواتها وأبواقها المسموعة لتكون في خدمة ومناصرة حلفائها من أطراف الصراع سواء كان ذلك عن طريق منظمات المجتمع المدني أووسائل الميديا حتى خلقت تلك الفوضى سوقا رحبة للدول الاستعمارية لفرض مزيدا من الإستحمار على تلك الدول الضعيفة . 3- المد الثقافي الممنهج لضرب الثقافة ومناهج التربية : عملت الدول الاستعمارية في ظل الاستحمار الجديد ومن خلال سياسة ممنهجة وبمساعدة أجهزة الدول الضعيفة ذاتها على رسم سياسات للحط من الموروث الثقافي والاخلاقى لتلك الدول من خلال إفراغ المحتوى الثقافي للبلد من مضمونه الهادف سواء من خلال السينما أو الميديا ومن خلال بث محطات فضائية وطباعة صحف موجهة تحمل الكثير من المغالطات الفكرية والتربوية المكثفة في نسق جذاب ومبهر يهدف إلى تسطيح الأفكار وتمييع المواقف الجادة , مع نشر ثقافة العرى والتبجح الأخلاقي على معتقدات الدين وثوابت التربية . كذلك تم إفراغ مناهج التعليم من محتواها وزخمها العلمي وتحويلها إلى مجرد قشور , فأصبحت مخرجات التعليم لاتقى باحتياجات سوق العمل , وأصبح التعليم الجاد صعب المنال ودربا من دروب الخيال , وإزاء تلك السياسات الممنهجة ,ضاعت هوية الدولة الثقافية والأخلاقية وظهر جيل جديد همه الأول البحث عن لقمة العيش مهما كلفه ذلك الكثير . 4- تجنيد سماسرة الفكر المنحرف لخدمة الإستحمار: ويرتبط بما تقدم ظهور فئة من المفكرين ممن يطلق عليهم سماسرة الفكر وأصحاب الشنطة ممن يتلونون بكل لون سعيا وراء تحقيق مآرب الآخرين من القوى الإستحمارية الجديدة , فظهر أدعياء الليبرالية والسلفية ممن تبنوا من خلال مناهجهم المواقف والآراء المتطرفة التي تظهر أشد صور الثقافة تطرفا وعنفا , فأصبحوا يمثلون معاول هدم في جسد الأمة ونسيجها , فنشروا ثقافتهم الممنهجة من خلال حلفائهم من الدول الكبرى ممن سخروا لهم كل طاقاتهم وإمكاناتهم المادية والدعائية وذلك تحت نظر ومسمع من مؤسسات الدول المستحمرة . حيث قامت الكثير من دول الإستحمار الجديد بإنشاء ما يعرف بمراكز الفكر بهدف إمداد مجتمع المفكرين في الدول الضعيفة من سياسيين واقتصاديين ومثقفين وغيرهم بالكثير من الدراسات وقواعد البيانات والمعلومات التي تخدم أهدافهم وأفكارهم , مع توفير نخبة من الخبراء ممن يقودون هولاء المفكرين نحو صياغة الرؤى المستقبلية لبلادهم بما يتماشى وأهدافهم الإستحمارية , مع استخدام هولاء المفكرين المأجورين نحو تحليل النتائج التي يمكن أن تستخدم كنواة لتطوير سياسات جديدة أو تعديلها أو مراجعة للسياسات القائمة حيث يختبروا نظرياتهم وما توصلوا إليه من استنتاجات على أرض الواقع. وبعد , فإنه بطرح تلك المنهجيات المعاصرة للاستعمار, واستعراضنا لبعض صور الإستحمار الجديد في عالمنا المعاصر , فإنه ليس من العسير أن نفطن إلى الحل وأن نمعن التفكير فيما يحاك من حولنا من مؤامرات , فالحل لا أظنه بعيدا عن أذهان الحكماء والعقلاء من أهل هذه الأمة لكن شتان الفارق بين من يريد الحل ومن يريد لهذه الأمة أن تقبع في غياهب التخلف والنسيان . وعلى دروب الخير نلتقي .....