مجزرة جديدة للاحتلال، 19 شهيدا جراء قصف مدرسة تؤوي نازحين في غزة (فيديو)    عاجل- ترامب يفجّر مفاجأة: "أخبار سارة قريبة بشأن إيران وحماس".. ما القصة؟    محمد صلاح يكشف الصعوبات التي واجهها في بداية مشواره الاحترافي    ليفاندوفسكي: الموسم كان شبه مثالي.. والأهم أننا تُوجنا بالليجا    ملف يلا كورة.. تصريحات صلاح.. عودة حمدي فتحي.. وقرعة كأس العرب    هاني سعيد يهاجم رابطة الأندية: 90% من الفرق خارج حساباتهم وتأجيل مباراة سيراميكا "أصبح مملًا"    جهات التحقيق تصرح بدفن جثمان أحمد الدجوي    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 26-5-2025    هشام ماجد يشكر فريق «أشغال شاقة جدًا» بعد الفوز في «كأس إنرجي للدراما»    موعد مباراة النصر ضد الفتح اليوم الإثنين في الدوري السعودي للمحترفين    "ختام دوريات أوروبا".. نتائج مباريات يوم الأحد 25 مايو    منها العائد المادي والاعتداء على الأطقم الطبية.. وزير الصحة الأسبق يكشف أسباب هجرة الأطباء    فلسطين.. الاحتلال يقتحم عدة بلدات ويعتدي على شاب بالضرب المبرح في طولكرم    إصابة نجل الفنانة زينة في هجوم كلب داخل كمبوند بالشيخ زايد    بعد إنكاره للتهم المنسوبة إليه.. تأجيل محاكمة سفاح المعمورة    تنفيذًا لحكم قضائي.. المحامي المتهم بتزوير توكيل عصام صاصا يسلم نفسه لقسم شرطة الجيزة    البترول تكشف تفاصيل حادث تسرب غاز في محطة كارجاس رمسيس    حُسمت.. الفرق الإيطالية المتأهلة إلى دوري أبطال أوروبا 2025-2026    دار الإفتاء توضح حكم تحمل الزوج تكاليف حج زوجته    «تستحمى الصبح ولا بليل»؟ سبب علمي قوي يجنبك فعلها في هذا التوقيت    الخارجية الروسية: سنُقدم مذكرة احتجاج إلى السويد بعد هجوم على سفارتنا    نجم الأهلي السابق: محمد صلاح ظُلِم في الكرة الذهبية.. وإبراهيم عادل يستحق الاحتراف    زوجة واحدة وربع دستة عشيقات في حياة أقوى عازب في العالم.. حريم بوتين    "هآرتس": قدرة "حماس" لم تتراجع ولديهم 40 ألف مقاتل وآلاف الصواريخ والقذائف    "إعلان عسكري لافت".. جيش السيسى يكشف "مخططاً كبيراً".. فهل يمهد لحدث غير اعتيادي؟    عيار 21 الآن بعد الزيادة الأخيرة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 26 مايو في الصاغة (تفاصبل)    النائب أحمد السجيني: تحفظات كثيرة على مشروع قانون الإيجار المقدم من الحكومة    التعليم تحسم الجدل: مدراء "المبادرة الرئاسية" مستمرون في مناصبهم -(مستند)    كلب شرس يطارد ابن زينة في الشيخ زايد    ممثلة شابة تتهم طليقها بمطاردتها أعلى المحور.. والشرطة تتدخل    مجلس إدارة التعليم المدمج بالأقصر يناقش استعدادات امتحانات الترم الثاني خلال اجتماعه الدوري    لا تتمسك بما لا يخدمك.. برج الجدي اليوم 26 مايو    عمرو أديب عن إرث نوال الدجوي: «قصر واحد على النيل يعيش العيلة في نعيم مدى الحياة»    حدث بالفن | أزمة هيفاء وهبي والموسيقيين والعرض الخاص لفيلم "ريستارت"    داليا البحيري ترد على منتقدي عدم ارتدائها الحجاب: "بص في ورقتك ودع الخلق للخالق"    عايدة الأيوبي: لم أسعَ إلى الشهرة وهذا سبب اعتزالي    محمد صلاح: «مكة بتحب التمثيل.. ومش عاوزها تمثل عشان بنتي»    تراجع سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء الاثنين 26 مايو 2025    اتهام مواطن يحمل الجنسيتين الأمريكية والألمانية بمحاولة شن هجوم على السفارة الأمريكية في تل أبيب    معجزة طبية في الفيوم: استخراج فرع شجرة من جسد طفل دون إصابات خطيرة    فريق من الجامعة الأمريكية يبدأ تقييم نظم الرعاية الصحية في مصر    وزير الزراعة يحسم الجدل: «مفيش لبن حلال ولبن حرام» (فيديو)    فى ختام التعاملات.. أسعار الذهب فى مصر اليوم    إنشاء كليات وجامعات جديدة.. أبرز قرارات مجلس الجامعات الخاصة مايو 2025    عاجل- وزارة الكهرباء تُطمئن المواطنين: لا تخفيف للأحمال في صيف 2025    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الإثنين 26 مايو 2025    كيف أطاحت نكتة بوزير ياباني من منصبه؟    تنفيذ أضخم مشروع جينوم بالشرق الأوسط وتسليم عينات جينوم الرياضيين    أحكام الحج (1).. علي جمعة يوضح ما هو الحج وحكمه وفضل أدائه    ما حكم سيلفي الكعبة المشرفة؟ عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى تجيب    المفتي: يوضح حكم التصرف في العربون قبل تسليم المبيع    دليلك لاختيار الأضحية في عيد الأضحى 2025 بطريقة صحيحة    «الإسماعيلية الأزهرية» تفوز بلقب «الأفضل» في مسابقة تحدي القراءة العربي    "عاشور ": يشهد إطلاق المرحلة التنفيذية لأضخم مشروع جينوم في الشرق الأوسط    النواب يوافق نهائيا على مشروع تعديل قانون مجلس الشيوخ    نائب رئيس الوزراء: زيادة موازنة الصحة ل406 مليارات جنيه من 34 مليار فقط    لخفض البطالة.. كلية الاقتصاد جامعة القاهرة تنظم ملتقى التوظيف 2025    إعلام: عطل في اتصالات مروحية عسكرية يعطل هبوط الطائرات في واشنطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيء عن الاستحمار
نشر في شباب مصر يوم 17 - 03 - 2013

وجه لي زميل محترم نابِه، ذات يوم، سؤالاً انتقادياً نابهاً حول استخدامي لكلمة "استحمار" في سياق سؤال بلاغي ذي قصدية استنكارية نصه: "فهل هذا الذي فعلته.. استهتار أم استحمار؟ّ إن لم يكن هذا هو الاستهتار (بالناس)، هل هو استحمار لهم؟
وعلى الرغم من أنني أجبت عن السؤال على نحو يشبعني، إلا أنني أجد أن السؤال يبلغ من الأهمية مبلغاً يحرضني على أن أفرد له مقالاً خاصاً، ومن هنا جاء الدافع لكتابة هذا المقال.
قرأت مقالاً كتبه الدكتور/ مأمون فندي قال فيه، تعليقاً على كارثة الدويمة يوم الاثنين 6/9/2008 قال فيه: "دعوني أوضح ملامح هذا (الاستحمار) الذي بدأ يسري في الجسد المصري مسرى الحمى".. فوكالات الأنباء العالمية اقتربت منذ اليوم الأول لهذه الكارثة الإنسانية من الرقم الذي أعلنته السلطات فيما بعد. لا أعرف إن كان هذا إعلام تضليل للرأي العام، ولكن ما أعرفه أن ما كتب، هو نتيجة ثقافة الاستعجال والفهلوة، استعباط صحفي، لا أدري هل هو (استحمار) للشعب لإرضاء الحكومة، أم أن الصحفي (يستحمر) نفسه، وربما الاثنان معاً، لأن في (الاستحمار) غروراً وجهلاً معاً، غروراً بأن من يسمعك أو يقرؤك ليست لديه مصادر أخرى للمعرفة سواك، أو أنك لا تعرف المعلومات المؤكدة ولم تبذل جهداً للحصول عليها فقررت أن تفبرك أرقاماً من عندك". والسؤال هنا: هل الفارق الكبير بين ما قالته صحيفة الأهرام القاهرية الرسمية عن حجم الكارثة وما قالته وكالات الأنباء العالمية يمكن اعتباره ملمحاً من ملامح الاستحمار؟!
إذا كان شعب ما يرى بأم العين أن ما يُعْلَنُ في وسائل الإعلام شيء وأن ما يراه على أرض الواقع شيء آخر، أي أنه لا علاقة لما يعلن بالواقع، فإن هذا الذي تقوله الصحافة أو وسائل الإعلام منفصلاً عن الواقع المعاش، هو شيء من الاستحمار للناس، بل إنه الاستحمار بعينه. والاستحمار هنا لا علاقة له بالحمار باعتباره دابة، وإنما الاستحمار في هذا السياق هو رمي المستحمَر (اسم المفعول) بالجهل والاستعباط والجهالة. من أمثلة الاستحمار أن يقوم رئيس جامعة أو مدير مدرسة أو رئيس مؤسسة تطفح في كل أنحائها القذارات والزبالة بإزالة الزبالة وتنظيف كل مكان وتزيينه بالورود والرياحين على غير عادته، وذلك لأن الوزير المختص آت في زيارة. وبالتفتيش عن مصير القذارات التي كانت مكومة في الجامعة أو المدرسة أو المؤسسة، وجد أنها أٌلقيت في الشارع الخلفي لتبدأ بمضايقة سكانه. أليس هذا استحماراً؟ إنه الاستحمار بعينه. إنه استحمار للجامعة أو المؤسسة أو المدرسة واستحمار للوزير المختص الزائر أيضاً، ذلك أن معنى "الاستحمار" في هذا السياق هو أن "المستحمِر" (اسم فاعل) يرمي موظفي الجامعة أو المؤسسة أو المدرسة كما يرمي الوزير المختص الزائر بالجهل. فالمستحمِر (بكسر الميم الأخيرة) يرى في موظف الجامعة أو المؤسسة أو المدرسة وفي الوزير المختص الزائر أيضاً غباء وجهلا وانعدام معرفة يمكنه من استعباطه واستهباله واستغبائه واستغفاله واستحماره.
هذا، وإن أفظع أنواع "الاستحمار" وأقذرها وأكثرها بشاعة ورُخْصَاً هو أن يستغل بعض رجال السياسة والإعلام – على سبيل المثال – الجثث المتفحمة لالتقاط صور معها أو إلى جوارها، سعياً للشهرة أو المجد، أو سعياً لنفي شيء واستبداله بشيء آخر معاكس له تماماً.
وعلى الرغم من حساسية البعض نحو كلمة "استحمار" على افتراض أن لها ولو أدنى علاقة بالحمار، إلا أن مثل هذه الحساسية لا ينبغي لها أن تكون على الإطلاق، ذلك إن إقحام الحمار في هذا السياق ربما يكون ظلماً للحمار الذي هو – كما يقول الأمير كمال فرج في مقاله: "الاستحمار... ظاهرة" – "حيوان لطيف ومطيع شديد التحمل، يخدم صاحبه"، فضلاً عن أن هناك حماراً هو أفضل 100 مرة من إنسان كسول مسلوب الإرادة يجلس في المقهى من الصباح حتى المساء، بلا شغل ولا مشغلةً. في المقال ذاته، يقول الكاتب فرج: "في الحياة الاجتماعية تستحمر بعض الحكومات المواطن عندما تقر له بشق الأنفس علاوة ضئيلة، ولا تترك له حتى مهلة الفرح بها، فترفع الأسعار"، فتأخذ الحكومة باليسار ما أعطته للمواطن باليمين. هذا هو الخداع والتضليل والاستغفال. إنه الاستحمار.
من صور الاستحمار أن رجال الدين الذين يفتون خدمة للحكام، ولجان التحقيق التي يتم تشكيلها – في بعض الأحيان – لتقوم بإصدار أحكام جاهزة تم تعليبها على نحو مسبق، إنما هي جميعها تنتج عن الاستحمار وهي من أدواته. ومن صور الاستحمار أيضاً أن يُعلَن للباحثين عن عمل شغور وظيفة ما، طبقاً للقانون، فيتقدم المئات أو الآلاف في ذات الوقت التي تكون فيه الوظيفة الشاغرة في الأصل مصممةً ليظفر بها قريب رئيس المؤسسة أو الشركة أو ابنة عمه أو ابن خالته.
ومن أمثلة الاستحمار في عالم السياسة الدولية استحمار المجتمع الدولي للشعوب العربية عندما يطالب دولة البغي والعدوان الإسرائيلي بتشكيل لجنة غولدستون للتحقيق في جرائم الاحتلال الإسرائيلي أثناء حربه ضد غزة في عام 2008، والتي انتهت إلى لا شيء مطلقاً، وكذلك بتشكيل لجنة للتحقيق في الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية ضمن أسطول الحرية الذي كان هدفه فك الحصار عن قطاع غزة، والذي كانت نتيجته استشهاد عشرين شخصاً. أليس هذا هو الاستحمار بعينه؟! إنه الاستحمار تماماً، لاسيما إذا تذكرنا أن "الجاني صديق القاضي" وإذا تذكرنا أيضاً المثل الشعبي القائل: "ياللي أبوك القاضي تشكي لمين؟!"
وبعد،فالاستحمار هو كل ما يسلب الوعي والنباهة. في كتابه: "النباهة والاستحمار"، يذهب المفكر الإيراني الدكتور/ ٍعلي شريعتي إلى القول "إن كل دافع يفضي إلى سلب تلك النباهة هو دافع استحماري مهما كان ذا صيغة دينية أو كان ذا قداسة، سواء كان هذا الدافع علمياً أو عبادياً أو حتى مدنياً حضارياً، فهو لا يعبر إلا عن دعوة كاذبة عاقبتها العبودية وسحق الذات لأنها ليست إلا تخدير للأفكار... وتقوم دينامية الاستحمار على اتجاهين اثنين: 1- التجهيل وهو الدفع إلى الجهل والغفلة 2- الإلهاء وهو تقديم الجزئي على الكلي أو الإلهاء عن الحقوق الأساسية بالحقوق الجزئية".
وفي مقال له بعنوان "الاستحمار ونظرية المؤامرة"، يذهب الأستاذ الدكتور/ طه جابر العلواني إلى أن الشعوب مرت في الماضي وتمر في الحاضر بحالات استحمار، بعضها حالات يقوم بها حكامها، وحالات أخرى يقوم بها خصومها وأعداؤها. والأجهزة الإعلاميَّة الحديثة يغلب عليها -خاصّة في الإعلام الموجه من قبلالخصوم- أن تكون من أهم أدوات الاستحمار، فهي تشحن الناس إن شاءت، وتفرغهمإن أرادت، وتشعرهم بالتخمة حتى التجشؤ إذا قررت ذلك، وتشعرهم بالجوع حتىالسقوط إذا اقتنعت بأنَّ لها في ذلك مصلحة؛ ولذلك جعل الله السمع والبصروالفؤاد مسؤوليَّة كبرى فقال الله جل شأنه: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَوَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء: 36).فالإنسانمطالب أن يميز بين من يريدون استحماره واستعماره، ومن يريدون توجيههوتعليمه والرقي به؛ ولذلك كان الاجتهاد فريضة على كل مسلم ومسلمة. فإذا لمتكن قادرًا على الاجتهاد في المسائل التي تعرض لك في الحياة فلا أقل من أنتبذل جهدًا في اختيار ما تسمع، ومن تسمع منهم، ومن لا تسمع لهم، وذلك أضعفالإيمان. وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به أبناء عصرنا، حيث يستطيعالإنسان وهو جالس على أريكته في مواجهة التلفاز أن يتنقل بين مئات المحطاتالتي تعج بكل شيء،وكلها تستهدف أسماعنا وأبصارنا وأفئدتنا، وبعضها يريداستحمارنا، وبعضها يريد استعمارنا، وبعضها يريد ابتزازنا، وبعضها وبعضها. ولا شك أنَّ بعضًا منها وهو الأقل يريد تعليمنا أو الرقي بوعينا وقوىإدراكنا، بقي علينا أن نجتهد فيما نسمع وفيما ندع؛لكي نستمع القول فنتبع أحسنه".
أما آخر الكلام، فقد أصبح الاستحمار ظاهرة يتواصل انتشارها، فيما أصبح الإنسان أكثر انقياداً إلى أي رأي أو خبر، دون نباهة لديه تقيه شر تصديقه والتورط في حبائله على أنه حقيقة لا زيف فيها. إن حالة استلاب النباهة وإحلال الاستغفال والتعتيم وغلق العقول والتعمية في ظل ضياع الهوية أو الحرمان من الحقوق الأساسية أو التراجع عن المطالبة بتحقيقها إنما تخلق جيلاً يسهل استحماره فيسهل تزييف ذهنه وإلغاء نباهته وحرف مساره عن تلك النباهة فيسهل بالتالي اقتياده إلى حيث يشاء مقتاده ولا يشاء هو، لأنه يصبح فاقداً قدرته على الاختيار ورسم المسار وخلق المصير وإدراك السبيل فينحرف مساره ويخسر حاضره ويضيع مصيره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.