من يدرس تاريخ الأفكار فى العالم الاسلامي، فى القرن العشرين، سوف يخلص الى أن أعظم عقلين أنتجا أفكارا جديدة ومبدعة وخلاقة نابعة من رحم الثقافة الاسلامية، ومتفاعلة مع أفضل ما أنتجه العقل البشرى المعاصر هما: المفكر الجزائرى مالك بن نبى (توفى 1972)، والمفكر الايرانى على شريعتى (أغتيل 1979)، هذان العلمان الكبيران هما من أهم القمم الشامخة فى تاريخ المسلمين فى القرن العشرين. مالك بن نبي، رحمة الله عليه، قدم أفكارا عديدة منها؛ فكرة القابلية للاستعمار، حيث اعتبر أن الاستعمار فى ذاته ليس مشكلة كبري، وهو موجود منذ زمن طويل، المشكلة الحقيقية هى فى القابلية للاستعمار، أى ان يكون الشعب الخاضع للاستعمار عنده من الضعف والهزال والتردى الحضارى ما يجعله مستعداً للخضوع للاستعمار، وهو ما عبر عنه الشاعر الكبير أحمد رامى فى إحدى أغانيه لأم كلثوم بقوله (عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك)، فلا يوجد استعمار وخضوع وعزة للمستعمر من غير وجود الذليل المستمتع بحالة الذل والهوان. وعلى شريعتي، رحمة الله عليه، كتب كتابا صغيرا فى حجمه عميقاً فى محتواه عنوانه النباهة والاستحمار يحلل فيه حال أمتنا، وانتقالاتها التاريخية من حالة النباهة واليقظة والوعي، الى حالة الاستحمار، أى حالة البلادة والغباء والاستعداد للركوب، حيث تكون المركوب وليس الراكب، حالة الاستحمار هذه أصبحت هى عنوان أمتنا العربية والاسلامية، وتكون أقسي، وأكثر مأساوية عند الجماعات التى تتصدى للشأن العام، وتقدم نفسها لقيادة الدول العربية، وهى فى ذاتها فى قمة الاستحمار لأطراف اقليمية ودولية، ولعل حرص الراكب على عودة المركوب لحكم مصر لا يحتاج الى مزيد تفصيل. تحررت شعوبنا من الاستعمار، أى أنها تخلصت من حالة القابلية للاستعمار، ولكن للأسف الشديد هذا التحرر جاء مع تقدم العقل الانساني، وانتقاله من الحداثة الى مابعد الحداثة، وتطور أدواته ومعارفه وتغير طبيعة مصالحة، فوافق المستعمر الأوروبى على الخروج من دولنا على وقع حركات تحرر قاومت بأدوات الحداثة الغربية، ولم تكن بعد قد أدركت أن المستعمر الأوروبى قد انتقل الى طور جديد أكثر حنكة وحكمة ودهاء، طور لا يحتاج أن يستخدم أدواته هو لتحقيق مصالحة، لأنه يستطيع تحقيقها من غير أن يرهق نفسه أو يحرك جنوده، أو ينفق أمواله، فقد تم اختراع جهاز التحكم عن بعد (الريموت كنترول)، فلماذا ينفق على استعمارنا مادام يستطيع استحمارنا. يقول C. Maurel ان أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار….لقد انتقل الرجل الى الكواليس…لكنه لا يزال يخرج العرض المسرحي، نعم لايزال يخرج العرض المسرحي، والأروع أنه حوَّل الثوار والأحرار الى ممثلين هزليين على خشبة مسرحه، وفى بعض الأحيان أصبحوا عرائس يحركها بخيوط بين أصابعه، فمرة يكون مخرجاً، وأخرى يكون ماريونت، أى محرك العرائس الخشبية فى سوريا، والعراق وليبيا واليمن..الخ. حالة الاستحمار هى عنوان الأمة العربية اليوم، وللاسف لابد من الاعتذار للحمير فهى كائنات نبيلة صبورة، تخدم دون ضجر، تفيد الآخرين ولا تشتكي، حتى أننا نجد مثقفين فى دول عديدة ومنها مصر يؤسسون جمعيات للحمير، أعضاؤها من البشر الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية، يحاولون الاقتداء بالحمير فى خدمة مجتمعاتهم، وبعد الاعتذار للحمير، نحن أمة فى حالة استحمار مزمنة، وعصية على العلاج، بل انها تتطور يوما بعد يوم، وترتقى فى سلم الاستحمار حتى وصلت الى حالة داعش، وبوكو حرام، وأنصار بيت المقدس، وأنصار الشريعة….الخ، حالة مستعصية تصيبك بالذهول حين تجد أن من يتخذونهم أعداء هم أول من يدافع عنهم ويحمى بقاءهم، شئ مذهل كيف تكون أمريكا عدو داعش الأول هى التى تحمى ظهرها من خلال اصابعها فى المنطقة وعملائها مثل تركيا وقطر، لابد أن فى الأمر لغزا، إنها حالة الاستحمار، هؤلاء جميعاً ركوبة، أو مطية طيعة للسيد الأمريكى يحققون أهدافه دون عناء، هل تذكرون الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، هذه الأهداف الاستراتيجية للغرب عامة، وأمريكا خاصة يعمل على تحقيقها داعش والحوثيون والحشد الشيعي، والبشمركة فى العراق. فلماذا هذه القابلية للاستحمار؟ ولماذا انتقلنا من القابلية للاستعمار للقابلية للاستحمار؟ أسئلة منطقية ومشروعة، لأننا الأمة الوحيدة على ظهر الأرض التى تعيش حالة شاملة وعميقة من الاستحمار، لا يكاد ينافسنا أحد فى الجغرافيا أو فى التاريخ، لا توجد أمة معاصرة، أو تاريخية وصلت لهذه الحالة، حالة التدمير الذاتى تحت شعارات نبيلة وجذابة ولها عمقها الدينى الصحيح، لماذا قادتنا حالة الاستحمار الى تشويه الدين؟ وللاسف من يقوم بذلك علماء الدين أنفسهم، ومنهم من يحمل لقب العلامة، والمجدد، والعلم الذى يملأ الفضائيات صراخا، ولكنه يؤسس لحالة الاستحمار ويرسخها، ويساعد على نشرها بين الشباب من خلال دفعهم الى الأهداف الخطأ فى الوقت الخطأ، ويصرفهم عن فرض الوقت الذى يجب أن يتوجهوا اليه. أصل الاستحمار، يا سادتي، فى موضوعين ومؤسستين، فى التعليم والثقافة، فى المدرسة والمسجد، تعليمنا بكل منظومته ينتج كائنات على أتم الاستعداد للاستحمار، الا من أنقذته أسرته أو مدرسة أو جامعة متفردة وعادة تكون خاصة، والثقافة فى كل أدواتها أو ما بقى منها، حيث لا توجد ثقافة فى العالم العربي، وانما توجد أنشطة غرائزية تخاطب الشهوات الدنيا وتطلقها، وتثيرها الى أقصى مدى حتى تكتمل حالة الاستحمار عقلاً وشهوةً، والخطاب الدينى للاسف يقوم بحرث الأرض وتمهيدها لحالة الاستحمار الحضارى من خلال التركيز على الأفكار الميتة، كما يصفها مالك بن نبي، وهى الأفكار التى يتم استحضارها من قبور التاريخ، ويطلب تطبيقها فى هذا العصر، تلك الأفكار والفتاوى التى كانت تناسب زمانها ومكانها، وماتت بعده، فيتم نفض التراب عنها، ودعوة المسلمين لابتلاعها. ويدفع لحالة الاستحمار هذه طبقة من المثقفين المعزولين عن المجتمع، المتعالين عليه، الذين يحتقرونه، ويريدون اعادة تشكيله على نمط المجتمعات الاوروبية التى عشقوها مع عشقهم لشقراواتها وكئوسها، هذه الطبقة الغريبة عن المجتمع التى تمهد الطريق لكل من يحاول استحمارنا من خلال تقديم أفكار مميتة، وهذا ايضا تعبير مالك بن نبي، أفكار تصلح للمجتمعات الغربية، ولا تصلح لنا، لذلك تسهم هذه الأفكار فى استفزاز الشباب، وحاملى الأفكار الميتة، وتدفعهم للعنف، والتعلق بالأفكار الميتة، وبذلك يكون هؤلاء المثقفون الحداثيون المتغربون والدواعش أعضاء فى فريق واحد يقود أمتنا الى مزيد من القابلية للاستحمار والاستحمار الفعلى والعميق. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف