تبدأ المأساة منذ العام السادس من العمر عندما يُسأل الطفل ماذا تُريد أن تكون، ولأنه مازال طفلا يحلُم، يجاوب ببراءة الأطفال: أريد أن أكون طبيباً، مهندساً، طياراً،... الخ. ويبدأ البريء في شق الطريق ويشد أزره معلم لا يحمل أي مؤهلات صالحة للتعليم التربوي، ومنهج تُعاني منه الأحبار والأوراق، ثم نتعجب من الانحراف بين التلاميذ! نندهش من طلاب في السادسة عشر من عمرهم لا يعرفون القراءة والكتابة! ومن المستوي الثقافي المتدني في المجتمع المصري! معاناة ابني المسموم تبدأ مع عبوره بوابة التعليم، ليستدل عن الطريق ويكبر بين أيادي مُربي قبل أن يكون مدرس هجائي. سألته يا بني ماذا تتمني في الكبر؟ قال: أتمني أن أكون ضابطاً، أشرت له لماذا؟ أجاب: "أمي مش عارف"، وصمت للحظة ثم قال: "عشان أمسك الحرامية" هل ترون في هذا الطفل منحرف! يحمل مطواة! مجرم! هل تقرؤون بين حروفه الطفولية وطموحاته البسيطة طفل كاره للعلم، ضعيف أخلاقيا وعقليا؟! بالطبع لا، إذا ماذا يحدث بعد؟! سأقص عليكم ماذا يجري بعد في الحلقات الثلاثة التالية: وهي حلقات ارتباط المعلم والمناهج بأطفالنا(السموم). الحلقة السنية (مرحلة النقش علي الحجر): سن يتحقق فيها الربط بين أهداف التربية وأهداف الحياة، والتي يربطها القائد المتوفر في ساحة التدريس، مثال لذلك (المتوفر)، المعلم يسأل تلاميذه: "هناك حيوان يمشي ببطيء وأول حرف من اسمه (س)؟" يجاوب تلميذان أحدهما يقول سلحفاة والآخر يقول سمكة. المدرس قائلا لمن أجاب الصواب:" اسمك إيه؟ وماذا يعمل أبوك؟" يجاوب الطفل: "اسمي فلان وأبي يعمل طبيب"، المدرس: يوجه نفس التساؤل للطفل المخطئ، يقول الصغير: "اسمي فلان وأبي يعمل عامل"، يرد مُربي الأجيال الآتية: "شوفتم ولاد الدكاترة شاطرين إزاي"، ويشير بكلماته للصغير المخطئ: "أما أنت إقعد يا غبي". كلمات التوبيخ والتي تدل علي شخص فاقد للأهلية فما بالنا بالتدريس، ويتملك الطفل إحساس "النقص" ليتقوقع في ذاته، ينغلق على نفسه ولا يجرؤ علي إظهار مهارته متخوفاً من الاستهزاء به، وتتحول كامل قدراته إلى عنف وكره للمدرسة بأكملها. ليعود الطالب من هذه الحلقة معبأ بالملل، باغضاً، رافضاً إكمال مسيرته. حلقة الإدراك: هي مرحلة يكتشف فيها الطالب منهج مُسهب لا معني له ولا واقع، رغم تأكيد بعض التربويين المشاركين في تطوير المناهج، "أن ما يذكر في حق الكتاب الوزاري ما هو إلا افتراء"!! بالإضافة إلى معلم لديه ما لديه من السقطات النفسية والعلمية، مع أنه حامل لمؤهل يسمح له بالعمل في محراب التعليم!، ويبدأ التلميذ بتحليل ما يدور حوله موضحا اتساع الحاجز النفسي بينه وبين المنهج المحشو بلا فائدة والمعلم الأحمق من وجه نظره، بالعزوف عن التعليم، والنفور من الحاضر والمستقبل، معرباً عن ذلك بالضجر والشذوذ الأخلاقي والعلمي. حلقة التموج: صغار السن مهمومون بالفعل يحملون علي عاتقهم رؤية صعبة لمستقبل مُبهم، وبالرغم من أنهم محاصرون بموجة المراهقة المظلمة، يحاولون تنويرها في ظل منظومة تعليمية متضاربة. مرحلة "البعبع" صدمة الدروس الخصوصية، الضغط العصبي والذهني ، كلها مواد وأمور تعجيزية للطالب وأسرته، نعم الثانوية العامة سيئة كُلنا يدرك ذلك ولكن البديل أسوء كلاهما يُخرج إنسان بلا علم أو تعليم و يساعد علي ذلك مسئولون يحملون من أمية الضمائر ما يكفي لفساد أمة. وحصاد تلك الحلقات: احتلال مصر المركز السابع بين أسوء 10 دول في الأمية، 45% إجمالي نسبة الأميين في مصر- هذه النسبة هي معدل الأمية الأبجدية (القراءة والكتابة)- أما عن الأمية الثقافية والدينية والجنسية وغيرها يعاني منها ما يزيد عن نصف سكان مصر، فضلا عن ظهور حالات السرقة والعنف وإيذاء الآخرين والتخريب والاعتداء على الممتلكات العامة وكسر الأنظمة، ومما إلى ذلك من مشكلات من قبل الطلاب يصعب علي الأسرة معالجتها وعلي المجتمع تقبلها. وعن محاولات علاج العطب التعليمي تم وضع خطة طويلة المدى تقسم علي ثلاث مراحل لتغيير وتطوير المناهج تبدأ المرحلة الأولى في هذا العام لتنتهي في 2017، (اللهم بلغنا هذه التطورات)، ولكن عذراً هل ستعطيني الدواء وما زال السم فيه؟! كارثة إن أعُطي المنهج الجديد والذي يتصف بالعمق والواقعية علي يد رب الحلقات الثلاثة المطروحة هاهنا؟ مهنة التعليم مهنة تحتاج إلى التميز والحرفنة في شحذ همم الطلاب وتفجير طاقاتهم الكامنة، والسؤال لماذا لا نتعامل مع بعض الجامعات المؤثرة كما نتعامل مع كلية الشرطة مثلا؟ والتي تقوم علي عمل اختبارات أولية للموافقة علي انضمام الطالب للجامعة، (لا خلاف أن الجامعات التربوية تحتاج إلي اختبارات نفسية، صحية، أخلاقية، دينية للتأكد من القدرات التفكيرية والتأثيرية لمعلم الأجيال المنتظر ليخرج للوطن وأبنائه مدرس بملامح متميزة). ولحين إدراك أولياء أمور الصرح التعليمي بأن المشكلة لا تقتصر علي المنهج أو المباني أو التغذية وإنما في المدرس الحيوي الذي يثير ويجذب تلاميذه للعلم والتعلم، ويدفعهم إلى حب المادة مهما كانت صعوبتها أو دنوها. سأطرح بعض السطور التأكيدية علي بعض الأشرعة الهامة لقيام المنظومة بأكملها، من خلال برامج لحلقات التعليم. أولا- وضع برامج لتنقية قاطني الصرح التعليمي من معلمين ومعلمات، ووضع اختبارات لانتقاء المدرس المناسب . ثانياً- الاهتمام بمحض الثقافة في مصر فهي لُب الحضارة المصرية فالثقافة هي الإبداع ولا تقتصر علي فئة معينة في المجتمع، فالمثقف هو المبدع، وصاحب المكان المرموق، ومتخذ القرارات التأثيرية. ثالثاً- بث روح الإبداع الفكري والعلمي، وتبني المواهب والبراعم، وتقديم البرامج والمناهج الواقعية ذات المستوي العلمي الحديث في مصر. رابعاً- الاهتمام بالتراث الديني والإنساني القديم والمعاصر في كافة المجالات. خامساً- عرض إنتاج كبار الأدباء والكتاب والمفكرين المصريين وتقديم أهم الدراسات الفنية والأدبية لتعريف المستمع بالمدارس علي الاتجاهات القديمة والحديثة في مختلف الفنون. سادساً- تقديم الأعمال الأدبية والثقافية والتكنولوجية الأجنبية بأسلوب مشوق، مع التأكيد علي قيم المجتمع وأخلاقياته بين البرامج التعليمية. وختاماُ وبعد عرض أراويح السموم التي تقذف ببراعم الحياة، ندعو الله أن يكون لحروفنا صدي، وأن يرزق أطفالنا بمن ينوب عنا بضمير حي داخل محراب العلم، وأن يُدرك المدرس أنه "جسر يحمل أصداف ثمينة"، ومن ثم شحن يقين الطالب بأن "المعلم" هو رسول العلم، ليُتوج قول أمير الشعراء " قم للمعلم وفِّه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا".