د . مصطفى خميس السيد واحدة من أهم مشكلات الحياة السياسية فى مصر هى ما يسمى « ضعف الكوادر الحزبية والسياسية » و التى تعنى أن أولئك الفاهمين للعمل الحزبى و القادرين على الاشتباك مع المشهد السياسى هم أولا قلة ، و ثانيا أن هذه القلة فى معظمها غير ذات كفاءة . لا أريد أن أذهب بعيدا فى تحليل الظاهرة قبل أن أتوقف قليلا أمام أسبابها ، فلا يمكن مثلا تحليل ظاهرة ضعف خريجى الجامعات و قلة مهاراتهم دون تحليل عطب النظام التعليمى أولا ، و بالمثل فمن غير المنصف أن نحلل ضعف الكوادر الحزبية أو السياسية دون تحليل مشكلات البيئة السياسية فى مصر بشكل عام . وفى تقديرى الشخصى ، تضغط البيئة السياسية على الأحزاب لتقوضها فى ثلاثة مناح رئيسية : أولا : ترفض وتخشى أجهزة الدولة الأمنية والبيروقراطية ( و معهما فى ذلك السلطة التنفيذية بالقطع ) عملية التعددية الحقيقية لأنها لا تثق إلا فى « رجال الدولة » ممن يرتبطون معها بصلة وثيقة إما بشكل مباشر أو عبر توصيات رجالها . وهذه المشكلة تأتى بالأساس بسبب ارتباط الجمهورية المصرية فور إنشائها بتجربة الحزب الواحد ، أو لنكن أكثر دقة « التنظيم الواحد » الذى يعمل كعصب للدولة و النظام معا و لا يمكن الولوج إلى الشأن السياسى العام أو إلى عملية صنع القرار إلا من خلاله . ومن هنا فأجهزة الدولة تسعى دوما لترتيب أروقة السياسة و تعتبر أن ذلك الترتيب المسبق ليس من قبيل التزوير أو التلاعب و لكنه فعل أصيل ( بحسب فهمها ) لضمان استقرار الدولة وشبكات الحكم المأمونة بها . ثانيا : نتيجة للنقطة السابقة فإن ثقافة المواطن أصبحت تعتبر العمل الحزبى إما من قبيل الترف و إما من قبيل التهديد الأمنى ، وباستثناء شهور معدودة أعقبت ثورة يناير فإن الناس عادة ما تعتبر أن هناك حزبا واحدا فقط هو القادر على تسيير الأمور و تحقيق الرغبات لأنه « حزب السلطة » ، بينما الأحزاب الأخرى هى إما ورقية أو تلعب دور مخطط لها مسبقا ، فترسخ فى ذهن المواطن أن التعددية مجرد « ديكور » للتخديم على الحزب الواحد القوى والقادر على قيادة البلاد . ثالثا : نتيجة لما سبق ، أصبحت العلاقة بين النظام « الدولة » و المواطن هى علاقة « زبائنية » ، فالدولة تقدم فرصا اقتصادية و اجتماعية ( مدخلا للشركات العامة و الخاصة ، فرصا للتوظيف ، تأشيرات حج ، توكيلات تجارية ، تسهيلات استثمارية وعقارية .. إلخ ) لوسطاء « نواب و سياسيين و حزببين » فاهمين لقواعد اللعبة و لا يتخطون الحدود المرسومة لهم مسبقا فى مقابل الحصول على « توكيل الدولة » للتوظيف و الخدمات العامة لتقديمها للعامة ( التعيين فى شركات عامة و خاصة ، رصف الطرق ، الحصول على تأشيرات العلاج على نفقة الدولة ، نقل التلاميذ أو المدرسين أو الموطفين من مدارس أبعد عن مكان السكن إلى أماكن أقرب ، فرص إسكان لمحدودى و متوسطى الدخل .. الخ ) ، و هكذا فإن العلاقة من رأس الدولة و حتى المواطن مرورا بالوسطاء السياسيين والحزبيين هى علاقة زبائنية للعبور إلى مصادر الدخل و الثروة و الموارد و فقا لقواعد اللعبة الحزب الواحد الدولاتى فى إطار تعددى مصطنع . و هكذا و نتيجة لكل ما سبق تضعف البنية التنظيمية للأحزاب و تندر مواردها و تكثر خلافاتها و يتم استنزافها على أصعدة داخلية و خارجية و قطعآ يتم عقاب من يحاول الخروج من قواعد اللعبة المعدة سلفآ . ••• على الرغم من كل ذلك فلابد للأحزاب و خصوصا فى الأوضاع السياسية الغامضة حاليا و مع غياب حزب السلطة الذى يوفر فرصة للضغط فى اتجاه التعددية الحزبية ، فإن الأحزاب السياسية يجب أن تأخذ على محمل الجد مهمة بناء و تطوير كوادرها الحزبية و يمكن ذلك عبر الخطوات التالية : أولا: يجب تصنيف غير معلن و غير مكتوب لأعضاء الحزب السياسى بحسب الغرض الرئيسى من انضمامهم للحزب ، و هذا التصنيف يتم قطعا و فقا لرؤية قيادات الحزب الوسيطة و خبرتها فى التعامل مع الأعضاء ، حيث عادة ما يكون هناك أربعة أنماط من العضوية، العضوية المصلحية المنضمة للحزب سعيآ للحصول على مساحة زبائنية فى العلاقة المشروحة أعلاه كالحصول على وظيفة أو فرصة سكن أو شهرة أو ما شابه من خلال الحزب ، ثم العضوية الناشطة الطموح ، وهى العضوية الطامحة عادة إلى الترقى فى مناصب الحزب و لديها طموح سياسى ، ثم العضوية الأيديولوجية و هى العضوية المرتبطة بالحزب بسبب أفكاره و مواقفه و تسعى للدفاع عنها ، وأخيرآ العضوية الخاملة وهى العضوية التى تنشط فقط فى أوقات الانتخابات أو ربما لا تنشط على الإطلاق فهى عضوية غير مستقرة فى كل الأحوال وغير محترفة . عادة على الحزب التركيز على النمطين الثانى والثالث ( العضوية الطامحة و العضوية الأيديولوجية ) واستبعاد أو عدم التركيز على النوعين الأول والرابع . ثانيا : يجب تصنيف الأعضاء الطموحين والناشطين والمؤدلجين بحسب وظائفهم وحرفهم فى المجتمع ، وفى هذا السياق يمكن وضع العاملين فى المجالات الهندسية والتجارية والطبية والمحاماة والحرفية فى فئة ، والعاملين فى مجال التدريس والمحاسبة فى فئة ثانية ، والعاملين فى مجالات الإعلام والدعايا والإعلان والتسويق فى فئة ثالثة ، بحيث تحصل الفئة الأولى على مهام التواصل مع الجماهير و بناء ظهير شعبى للحزب ، بينما تختص الفئة الثانية بمهام التثقيف الحزبى والتواصل الداخلى والبناء التنظيمى ، وتقوم الفئة الثالثة بمهام التواصل الإعلامى وتسويق صورة الحزب و أفكاره و برامجه ، مع العلم أن الأعضاء المؤدلجين سيلعبون دورا أفضل فى البناء النظرى فى هذه الوظائف جميعا ، بينما سيقوم الأعضاء الناشطين بأدوار أكثر واقعية على الأرض. ثالثا : الأعضاء المنوط بهم التواصل الجماهيرى و بناء الظهير الشعبى عليهم الحصول على دورات تدربيبة أو تثقيف ذاتى فى مجالات التنظيم والتواصل مع الجماهير و دراسة وسائل الحشد ، و قراءة مذكرات الساسة ، و الإطلاع على الكتب التى تحوى تجميعات أو تسجيلات لخطب القادة المتمتعين بكاريزما على مر التاريخ بحيث يتعلمون أصول الخطابة و التواصل مع فئات مختلفة من الجماهير ، بينما الفئات المنوط بها تطوير البناء التنظيمى و التواصل الداخلى عليهم الحصول على دورات تدريبية و ثتقيف ذاتى فى مجالات التنظيم و الإدارة و قراءة الأدبيات السياسية المتعلقة بالمؤسسية التقليدية والجديدة ، بينما تقوم الفئة الثالثة بالقراءة والتثقيف فى مجالات الدعايا والإعلام وصنع الحملات الانتخابية. رابعآ : يكون أحد أهم الأنشطة السياسية داخل الحزب هى أعمال المتابعة والتطوير، بحيث تختص مجموعة من القيادات الوسيطة بالتأكد من انتهاء الأعضاء من الدورات والقراءات الخاصة بهم وعمل ملخص تنفيذى لها وطرحه على باقى أعضاء المجموعة والنقاش وعقد ورش العمل لتطوير الخطوات التنفيذية التى سيتم تنفيذها بناء على هذه الورش ومن ثم تخصيص دورات أو قراءات جديدة وهكذا . خامسا: بعد مرحلة معينة من التدريبات والقراءات يتم إسناد مهام جديدة لهذه الفئات وفقا لتخصصاتها وخبراتها العملية والنظرية تتعلق بتطوير بدائل سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية وإدارية للقضايا الشائكة فى الدولة من خلال نوعين من الأنشطة ، النوع الأول يتعلق بأنشطة الإطلاع على السياسات المقارنة فى خبرات التحول الديموقراطى المتعلقة بالإصلاح الإدارى و الأمنى والاقتصادى .. إلخ ، والنوع الثانى يتعلق ببناء صلات وشبكات تعاون مع مؤسسات الدولة المختلفة سواء بشكل مؤسسى أو شخصى للتواصل مع الإصلاحيين المتواجدين بها لإطلاعهم على واقع هذه المؤسسات وفرص التطوير والإصلاح ومعوقاتها وكيفية التغلب عليها ومقارنتها مع الخبرات المقارنة لتوفير بديل مصرى ملائم للواقع . سادسآ : يتم تصميم ورش عمل سنوية ( على هامش مؤتمر سنوى أو ما شابه ) بعنوان « الواقع المصرى » للمقارنة بين كل الاستخلاصات النظرية بخصوص تطوير بنية الحزب التنظيمية وعلاقته بالجماهير و السلطة ودوائر البيزنس و الأعمال والجهاز البيروقراطى للدولة والاشتباك مع قضايا الإصلاح المختلفة وبدائل السياسات ومقارنتها مع الواقع المصرى لتطوير « مانفيستو » سنوى لاستراتيجية الحزب طويلة ومتوسطة الأجل. ••• فى كل تلك المراحل ستكون هناك عقبات وستكون هناك استثناءات وقد لا تسير العملية بهذه البساطة والإنسيابية والترتيب ، ولكنها يجب أن تبدأ ، مازالت هناك فرص فى المشهد المصرى رغم محدوديتها ولا يجب أبدا حتى فى أحلك الظروف التنازل عن مبدأ التعددية الحزبية القادرة على تغيير قواعد اللعبة السياسية غير العادلة فى مصر بواسطة هذه الكوادر المدربة . د . مصطفى خميس السيد الباحث فى شئون الاحزاب