د . مصطفى خميس السيد مرت أربعة أعوام على اندلاع مظاهرات ميدان التحرير التى عبرت عن تراكم عوامل الغضب و الإحباط و اليأس لدى الكثير من شباب الطبقات المتوسطة بدرجاتها المتفاوتة مدفوعة بثورة الشعب التونسى الذى كان قد أسقط بن على الذى هرب قبل أيام من ثلاثاء الخامس و العشرين من يناير 2011 و هو أول أيام التظاهرات المصرية التى سرعان ما تحولت إلى ثورة حقيقية بعد انضمام العديد من التيارات و الفئات المجتمعية إلى اعتصام ميدان التحرير و باقى ميادين الجمهورية حتى تم إجبار مبارك على التنحى فى الخطاب الشهير الذى تلاه نائب الرئيس آنذاك عمر سليمان بعد ثمانية عشر يوما لتبدأ احتفالات صاخبة و توقعات لا محدودة تلتها إحباطات رهيبة مازلنا نعيش فيها حتى اللحظة. فى السطور القليلة القادمة أقدم ما أعتبره مسكوتا عنه فى تقييم الثورة المصرية عبر سنواتها الأربع الفائتة : أولآ ، إن الثورة لم تكن شعبية بالمعنى الحرفى للكلمة، و لكنها كانت ذات زخم شعبى ، و الفرق بين الاثنين كبير ، فالثورات الشعبية يشارك فيها الغالبية العظمى من أبناء الشعب ، بينما تلك ذات الزخم الشعبى فيشارك فيها طلائع تيارات سياسية وطبقات اجتماعية متعددة بشكل عرضى يجبر باقى الشعب على تأييد الأمر الواقع بل والاحتفاء لاحقا بتحقيقه . هذا ما حدث مع الثورة المصرية ، فمن قام بها طلائع تيارات سياسية و طبقات اجتماعية متعددة و لكنها لاقت تحفظا شديدا من باقى الشعب الذى إما عارضها صراحة أو تحفظ عليها ، ولكنه احتفل مع المحتفلين لأنه بدا فى الأفق أن أمرا واقعا جديدا قد تغير ، ولما عجزت القوى الثورية عن إحداث التغيير المطلوب فما لبثت هذه الفئات الشعبية المتعددة إلا وأن انقلبت على الثورة. ثانيآ ، إنه بينما كانت هناك أجواء ثورية على مدار العام الأول من عمر الثورة و تحديدا حتى لحظة انتخابات مجلس الشعب بعدها بعام تقريبا فإنه لم يكن ثمة فاعلون ثوريون لديهم رؤية وقدرة حقيقية على التغيير الجذرى الشامل ، يتساوى فى ذلك الإسلاميين مع العلمانيين والليبراليين مع اليساريين ، كل هؤلاء الفاعلين كانت لديهم رؤى محدودة و إمكانات ضعيفة لإحداث تغيير جذرى فى المشهد ، ذهب الجميع بحثا عن الصفقات هنا وهناك للحصول على قطعة من كعكة الحكم لا من ثورة التغيير الجذرى ، تبقى بعض التيارات المتشرذمة هنا أو هناك مما امتلكوا الرؤية الثورية ، لكنهم فقدوا القدرة على طرح آليات لإحداث هذا التغيير الجذرى المنتظر متأثرين بحداثة عهدهم بالسياسة وبميلهم إلى التنظير غير الواقعى وبقلة أعدادهم فى النهاية . ثالثآ ، فإنه و بينما انتشرت « تنظيرة الدولة العميقة » فى إشارة إلى أجهزة سيادية تدير المشهد من خلف الستار و تقف فى طريق الثورة ، فإن الفاعلين الرئيسيين فى المشهد الذى بدا ثوريا والذين ادعوا الثورية دوما هم أول من تحالفوا مع هذه الأجهزة العميقة إما بحثا عن المكاسب السريعة أو المضمونة أو عجزا عن طرح البدائل و قيادة الدولة دون التعاون مع هذه الأجهزة ، صحيح أن كل التيارات السياسية الرئيسية فى المشهد نسقت بدرجات متفاوتة مع هذه الأجهزة إما خوفا أو عجزا أو انتهازية ، إلا أن التيارات الإسلامية وفى مقدمتها تيار الإخوان المسلمين كان صاحب نصيب الأسد من هذا التنسيق بل والتخطيط لإجهاض الثورة وتحويلها إلى احتفالية كبرى صاخبة خالية من المضامين ، إلا مضمون تسليم هادئ للسلطة من الحزب الوطنى للجماعة وحزبها الوليد . رابع المسكوت عنه فى الأربع سنوات الماضية ، هو إنه صحيح تماما أن تيارات الإسلام السياسى تتحمل المسئولية الكبرى عن إجهاض الثورة ، إلا أن المسكوت عن الأدوار الانتهازية التى لعبتها الأطراف الأخرى و خصوصا هؤلاء المنعوتون زورا وبهتانآ بالمدنيين والليبراليين يقلل من عمق تحليل المشهد . فتلك التيارات كانت ولاتزال سلطوية بامتياز سلطوية ثقافة وحركة وتنظيما وسياسة، لا تستطيع أن تنفك عن السلطة ولا تلعب سوى مع القوى، ترفع من شعارات المدنية وحقوق الإنسان كوسيلة للحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية، بينما هى فى حقيقة الأمر قوى رجعية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتعددية ولا بقيم حقوق الإنسان، فقط قلة هى من عبرت عن هذه القيم ودفعت كثيرا جراء مواقفها الثابتة هذه وهؤلاء فقط من يمكن وصفهم فى مصر بالليبراليين أو المدنيين ، ولكنهم مرة أخرى قلة مازالت تبحث ونبحث معها عن النضوج . خامسا ، اكتشفنا عبر سنوات الثورة الأربع أن الديمقراطية ليست صناديق فقط ، ولكنها أيضا قيم ، منها قيمة حقوق الإنسان أيا كانت توجهات و خلفيات وأفكار هذا الإنسان ، ومنها قيمة التعددية ، و منها قيمة انفاذ القانون ... إلخ ، لم يفهم الإخوان من الديمقراطية سوى الصندوق ، وفى المقابل معظم من ثار عليهم بحجة عدم كفاية الصندوق كفهم وحيد للديمقراطية لم يطبقوا من الأخيرة شيئا بعد أن تمكنوا ( أو توهموا كذلك ) بعد يونيو 2013 ، فلا هم طبقوا المعنى الأعمق لمفهوم « نزاهة الصناديق » ولا عملوا على إنفاذ القانون أو الدستور ، فضلا عن إنهم تورطوا فى فاشية مخجلة و مارسوا الإقصاء على مخالفيهم فى أكثر صور الإقصاء شمولية وسلطوية . سادسا ، مازال الجميع يسأل ماذا حدث فى يونيو 2013 و هل هو ثورة أو انقلاب ؟ والمسكوت عنه هنا ربما يبدو للبعض مؤلما ، هى ثورة ، بل و شعبية ، ولكنها ثورة مضادة لم تقم فقط كرد فعل على الإحباط من طريقة حكم الإخوان ، ولكنها أيضا عبرت عن توجه شعبى جديد يريد رد الكرة إلى ملعب الدولة و رجالها ، بعد أن فشل الفاعلون المعبرون عن ثورة يناير فى إحداث أى تغيرات حقيقية فى حياة الناس . بعيدا عن السجع أو البحث عن المصطلحات الرنانة هى « ثورة انقلابية » وليس المقصود هنا « الانقلاب » الذى يلوكه الإخوان ومؤيدوهم للتغطية على فشلهم قبل 30 يونيو ، و لكنه يعبر عن ذلك الانقلاب الشعبى الذى عبر عن يأس الناس من فائدة ترتيبات ما بعد يناير 2011 ، انقلاب أول من قاده الإخوان و مناصروهم ، ثم أتمته فئات شعبية متعددة بدعم من أجهزة الدولة للتخلص من أول الانقلابيين ( الإخوان ) . لنقل انه ومنذ 19 مارس 2011 فقد بدأت سلسلة انقلابات على الثورة و قيمها و شعاراتها ، بدأت بانقلاب القوى الإسلامية و انتهت بانقلاب القوى المدنية بمباركة شعبية ثم استلمت الدولة الكرة فى النهاية ! أما آخر المسكوت عنه ، فهو البنى الكهنوتية فى مصر و التى عملت جميعا على هزيمة الثورة خوفا من سقوط الكهنوت وانكشافه أمام أعين الناس ، فتحدث ثورات اجتماعية حقيقية تتبدل فيها مقاعد القيادة ، هزمت الثورة بواسطة كل البنى الكهنوتية العميقة ، الدولة ، الأزهر ، الكنيسة ، الأحزاب التقليدية ، جماعة الإخوان ، الجهاز البيروقراطى ممثلا فى كل المصالح و الدواوين الحكومية ، كل هؤلاء انزعجوا بشدة من ثورة قد تطيح بمواقعهم و بنى سيطرتهم على الموارد و القيم والثروات ، فنهضوا جميعا كل باستخدام كهنوته للانقضاض عليها . ليست هذه سطورا لجلد الثورة ، و هو الفعل الذى يحلو لهؤلاء الذين طالما تغنوا بها و بشعارتها ثم تخلوا عنها بعد تعطلها ، ولكنها كلمات لتحليل الواقع المؤلم لحال الثورة ، بعيدا عن الإكليشيهات المحفوظة السطحية حول عدم بقاء الثوار فى الميادين أو عدم اتحاد القوى الثورية كأسباب محتملة لتعطل الثورة . الثورات ليست السبيل الوحيد للتغيير .. هذا صحيح ، و لكن فى مصر تبدو الأمور محصورة بين احتمالية ثورة شاملة دموية عنيفة أو هجمات ارتدادية رجعية عنيفة نعيشها على كل المستويات . الإصلاح كان ولا يزال أملا كحل وسط بين السيناريوهين السالفين ، لكن لا يبدو أن للإصلاح أنصارا كثر فى مصر ، ولا تبدو أن البنى الكهنوتية التى اتحدت لهزيمة الثورة على دراية بأهمية هذا الإصلاح لأنه و حتى بمعايير انتهازية أنانية أنفع للجميع .. مصر تبدو حتى الآن فى طريقها لمصير محتوم .. الكل يعرف والكل يتظاهر بغير ذلك. لننتظر ونرى د . مصطفى خميس السيد الباحث فى شئون الاحزاب