بكيت رغما عنى وأنا أخط استقالتى من جريدة الأحرار.. لفحت الوجه سخونة واهتزت الصور أمامى.. سألنى صديقى: لو رأى رؤساء الأحزاب الآخرون دموعك لرجموك رميا بالحجارة حفاظا على مهابتهم.. ضحكت رغما عنى.. وقلت لصديقى: مالى أنا والآخرون.. نحن جيل مختلف.. يرى أن السياسة لاتنفصل عن المشاعر وأن الكتابة عن المشاعر أهم من قضية قومية كبرى لأنه ومن رحم هذه المشاعر تخرج الأجيال للوطن.. وأننا جيل يرفض أن يتشابه مع أجيال أخرى.. ونرفض أن تحمينا المظاهر الخادعة لكى نقنع الآخرين بقوتنا.. وأن قوتنا الحقيقية تتجسد فى فكرنا وأحلامنا.... َ صمت عن الكلام.. وأشحت بفكرى بعيدا وأخذت أدقق النظر فى كل شىء حولى.. كل شىء هنا يحمل جزءا من عرقى ووجعى.. هنا قضيت ليالى طويلة من الأحزان والسعادة.. فى كل شبر هنا جزء من العمر الماضى.. لقد صاحب عمرنا هنا تغيرات كبرى فى مجال الصحافة المصرية... تداخلت صور الشخصيات وحكاويها وأسرارها فى عقلى... صدرت الأحرار يومية برئاسة تحرير "مصطفى بكرى".. تلاه بعدها الدكتور "صلاح قبضايا".. فى هذا المكان تلاقينا مع زملاء نعتز بهم.. ونحمل لهم فى قلوبنا معانى جليلة.. لازلت أذكر سهراتنا مساء كل يوم حتى الفجر لتجهيز الجريدة.. وكانت أحلى سهرات الأسبوع تلك التى كنت أقضيها مع الصديق العزيز "عصام كامل" مدير التحرير.. ونتحلق فى نهاية الليلة حول "ساندويتشات" الفول والطعمية.. والاعتصامات والاضرابات التى خضناها معا.. لازلت أذكر أوجاعنا ونحن نبحث عما نسد به رمقنا ونحن نقضى الأسابيع تلو الأسابيع دون نقود تذكر فى جيوبنا.. لازلت أذكر ذلك اليوم الذى قدمت فيه من قريتى الصغيرة "السمارة" عام 1994 م للاستقرار بالقاهرة.. كانت السيارة تحمل كنبة أكلها السوس ومنضدة من خشب الشجر وبعض ملابس متآكلة.. والكثير من الكتب.. أبى وأمى صمما على الحضور معى للاطمئنان على حياتى، أبى كان يرفض إقامتى بالقاهرة.. أمى قالت إنها قلقة على مستقبلى.. وتقول دائما إننى شخص مجنون لايؤمن جانبه.. قراراتى أشد جنونا منى.. والحلم كبير.. أبى رأى غرفتى فوق السطوح.. الغرفة كانت مقامة وسط الدواجن والماعز والتبن.. ارتسمت على ملامحه معالم الأسى.. شعرت بالقلق يقفز فوق وجهه العجوز.. قال: انتبه لنفسك.. وبكت أمى.. ورحلت من الحياة بأثرها بعدها.. ولحقها أبى.. قبل رحيلها كنت ألمح علامات القلق فوق وجهها الطيب.. ظللت أحمل ملامحها داخلى.. حلمت ذات يوم بالتحليق أعلى فوق السحاب.. البعض قال: مجنون.. والآخرون سخروا.. لكننى كنت أبحث لى ولأبناء جيلى عن طريق آخر نخط فيه قراراتنا بعيدا عن تسلط الكبار وتجارتهم.. تجسد الحلم فى مشروع "حزب شباب مصر".. بعضهم قال: جمال مبارك خلفنا.. وآخرون قالوا: جئنا بصفقة مع الحكومة.. وطرف ثالث وجه لنا اتهامات عديدة لكننا لم نعبء وقررنا أن نستمر فى طريقنا.. و... كان لابد أن أغلق ملف قديم وأفتح ملف آخر.. وها أنذا قد فعلت.. وقدمت استقالتى من جريدة الأحرار تمهيدا للانتقال على قوة جريدة شباب مصر... وضعت المفتاح فى سيارتى.. أدرتها .. قبل أن يختفى مقر جريدة الأحرار عن ناظرى كانت دموعى تتساقط بقوة.. وشفتاى تتمتم.. اللهم يا إلهى.. ياصديقى الوحيد فى كل المحن.. قد عهدتك صاحبا لى وصديقا عند الشدائد.. أنت العوض عن أشياء كثيرة فقدتها فى الطريق درءا لمعارك قد تستنزف قواى.. فلتقف بجانبنا يا إلهى فى وقت نحن نحتاجك فيه بقوة.. نحتاجك أنت يا إلهى لأننا لم نعد نثق فيمن حولنا كثيرا بعد أن فقدنا القدوة.. فنحن جيل بلا قدوة أو أساتذة وحفرنا طريقنا بأظافرنا وجوعنا وتشردنا وتسكعنا على أرصفة الحياة فى وقت كان البعض يتاجر فينا ويبتزنا ويستغلنا وينهش لحمنا.. فلتحمنا يا إلهى من كلاب الطريق.. ومن ذئاب الكهوف الذين يتربصون بنا وبخطواتنا.. وعلى الرغم من أننا نعرفهم وندركهم ونحسهم ونراقبهم إلا أن أخلاقياتنا تأبى علينا النزول إلى الحضيض الذى ارتضوه لأنفسهم.. إنك ياربى نعم المولى والعزيز والقادر وخير رفيق. جريدة شباب مصر الأسبوعية العدد الثامن 23/5/2006م