لم تكن الشبكات العنكبوتية واهية وهي تحمل كل هذا الكم من المشاعر والأفكار والأحلام .. معلقون بها على البعد , نتابع ما يدور في ثورة الغضب . بين جيل الستينات وجيل الغضب الحالي أجيال تربت على القهر السياسي , والخديعة . سأتحدث عن جيلي – مواليد السبعينات- الجيل الذي ظن أنه ثمرة حرب أكتوبر وتشبع صغيرا بقيم السلام الآتي من موقف القوي المنتصر .. ثم شب ليجد لا سلام ولا موقف قوة ولا انتصار . درسنا في أروقة الجامعات المحاصرة بحرس الجامعة , مرددين على مسامعنا بمناسبة وبغير مناسبة أن الطلبة لا ينبغي أن تكون لهم أي صلة بالسياسة ” خليك في مذاكرتك يابني عشان مصلحتك ” صحيح أنه كانت لنا أحلامنا وطموحاتنا ومواجهاتنا الصغيرة , ولكن تفتيت الرأي العام كان لعبتهم , لم تكن لدينا تلك التقنيات القادرة لنتواصل ..لتسمع شخصا آخر بعيدا يقول لك : نعم , أنا أيضا لدي نفس الأمل , وأنت لست مجنونا ولا متهورا ..لنتحد.. كنا نعاني من إبعاد طلبة الجامعات عن أي نشاط سياسي ونتعجب , فالطلاب حملوا على أكتافهم الثورات على مدار التاريخ الإنساني , لكن الحرس الجامعي كان مسيطرا وبالكاد كان يترك لنا الفرصة لتنفس بعض الكلمات التي يرى أنها لن تقدم أو تؤخر .. كان تسجيل الأسر الجامعية شرطا لتبدأ أيا من أنشطتها الثقافية , وكان يتم تأخير التسجيل حتى أيام قليلة قبل امتحانات التيرم الأول , لتصبح محصلة النشاط النهائية معرضا او مهرجانا متواضعا في بدايات التيرم الثاني . أذكر أن شباب الكلية قرر التظاهر تضامنا مع الانتفاضة الفلسطينية سنة 2000 , فسمح لهم الأمن بحمل الأعلام والهتاف على سلم الكلية الداخلي .. الآن معلقة أعيننا وقلوبنا بشباب وبنات كالورد , يتواصلون , يرفضون القهر , ويعرفون أن صوتهم سيصل .. يسجلون الواقع بكاميرات المحمول ويعرضون بثا مباشرا على اليوتيوب حتى تضطر الفضائيات المتواطئة لتغطية أخبارهم بعد صمت مخجل دام لأكثر من يوم ونصف . التاريخ الآن موثق ولا يحتاج للكلمات , وبذلك لن تستطيع الخديعة أن تنتقل من جيل لآخر ثانية . كثيرا ما شعرت بالخجل أمام طفلي البالغ من عمره سبع سنوات , يفاجئني بأسئلته التي تبحث عن وطن يشعر بالفخر للانتماء إليه . بحكم كونه مغتربا وفي مدرسة تضم جنسيات عربية مختلفة , يتحدث كل زميل له عن بلده , ويبحث عنها مثله , سألني عن فلسطين وكان مستاءا جدا لأنهم أخذوا من صديقه بيته , لكنه كان ببراءة ومكر طفولته يبحث عن مقارنة تصب لصالح وطنه هو .. قلت له بنبرة واثقة في بداية الأمر : نعم , نحن هزمنا الصهاينة وأخرجناهم من سيناء ... ثم فكرت : هل اخرجناهم من سيناء فعلا ؟؟ اتفاقية الغاز ؟؟ مصر ..هبة النيل؟؟؟ جاءني في يوم آخر بسؤال أشد خبثا : ماما .. من هي أقوى بلد ..مصر أم سوريا أم الأردن ؟ أردت أن أقول له يا حبيبي كلنا في الهم سواء . هذا الولد رفعت رأسي أمامه أخيرا حين أريته المظاهرات المشتعلة في التليفزيون ..قلت له أن هؤلاء الأحرار وقفوا هناك بلا خوف ليقولوا أننا مازلنا أحياء ومازال لنا الحق في حياة آدمية كريمة في بلدنا.. وقفوا هناك ليمنحونا حلما بالعودة القريبة للوطن .. حلما كان يزداد استحالة عاما بعد آخر , ونحن نعود في كل أجازة لنجد الأسعار أشد اشتعالا والحياة أكثر قسوة , فنضطر للرجوع من حيث أتينا .. الآن أنتظرك سيدي الرئيس على باب المطار لأفتح لك طريق الغربة , خذ نصيبك منها وأعطنا نصيبنا من بلدنا .. أعطنا حق العودة .